بريجيت ياغي، صوتُها يمتلكُ الدّهشة

Views: 270

 الدكتور جورج شبلي

قيل : إنّ كلمةً من الحكمةِ يسمعُها المؤمنُ فيَعمَلُ بها، خيرٌ له من عبادةٍ بِلا تَفَكُّرٍ لِسَنَة… هكذا بريجيت ياغي تسلّقَت سُلَّمَ المَغنى، وبتألّق، عندما سَمعَت لوالدِها، ولسواهُ من المُتضَلِّعينَ من الأداءِ الموسيقي، والطَّرَبيّ، كلمةً تحفيزيّةً هيَّأت لها القرارَ والطّريقَ، وعرفَت أنّ المَغنى هو مسقطُ رأسِها… بل صوتِها.

إنّ صوتَ بريجيت، الذي ينطقُ عن أَلْحان، كانَ سلاحَها لتُقيمَ حضورَها الوازنَ في نادي الكِبار، واختَطَّت لها مسيرةً اعتنقَت الإجادةَ، فكان لها علاقةُ محبّةٍ حميمةٌ مع النَّغَم، فغَنَّت وأَغنَت. ومع ذلك، لم تُسكِرها خمرةُ النّجاحِ، حتى تتوقّفَ عن الإستزادةِ من تَلَقّي الأصولِ الفنيّة، وقواعدِ الغناءِ المُعاصر، فتركَت يَدَ الرويّةِ تصقلُها، واجتنَت من الموسيقى أنوارَها، ومن اللُّحونِ ثمارَها، حتى أصابَت الغرضَ الذي رَمَت إليهِ واستطابَته، وطَعَّمَت موهبتَها بالعِلم، فاستقامَت قريحتُها، وسَلُمَ حِسُّها، وتأَنَّقَ ذوقُها، فكانَ أداؤُها حِلَّةً، ونِتاجُها حِلية.

عندما بدأت بريجيت مسيرَتها في الغناء، نَسَجَت، كما الغالبيّة، على منوالِ المشهورينَ من القدماء، ولكن، من دون تقليدٍ أو تَصَنّع، فأدَّت أغانيهم باحترافيّةٍ رَعَت حرمةَ هذه الأغاني، وبشخصيّةِ صوتِها، بعيداً عن أيِّ نَقصٍ أو تحريفٍ أو إسراف. وقد استمدَّت بريجيت من مِزيةِ القديمِ أَزيَنَ أوصافِهِ، وأنصفَته، في أكثر من طَلَّةٍ لها، بالإقرارِ بِفَضلِهِ في إطلاقِ مذاهبِ الغناء، وتَنويعِها، وبأنّه القُدوةُ التي يجبُ أن يُحتَذى بها في كلِّ مقامٍ أدائيّ. وبالرّغمِ من مُجاورتِها المراكبَ الصّعبةَ في أغاني الأقدمين، ومن كَلَفِها بنسيجِهم، ومن إفادتِها بِما اتّصفَ به هؤلاءِ من سلاسةٍ في اللَهجة، وعذوبةٍ في الجَرس، وسلامةٍ من الوُعورةِ والشَّطَط، ورشاقةٍ في القَفلات، والعُرِب، استطاعَت أن ترسمَ لها نَهجاً، أوزانُهُ تمزجُ بينَ الأَصيلِ والمُحدَث، بلباقةٍ وظِرفٍ هي الأَملَكُ بهما، وما تأخّرَت حتى أسرَعَ عُلوقُ أغانيها بالقلب، ولُصوقُها بالشِّفاه.

 

يُقالُ إنّ الإسترسالَ للطَّبعِ، خاصةً في الفنون، ينطوي، في الكثيرِ من الأحيانِ، على أنانيّةٍ زاجِرةٍ ترفضُ النَّقد، وعلى شيءٍ من التَشَوُّفِ، والتَعَصُّبِ، وكأنّ الطَّبعَ لا يُخطِئ. إنّ هذا التَّوصيفَ لا ينطبقُ على كلِّ طَبع، فالطَّبعُ المهَذَّبُ الذي صقلَتهُ الفِطنة، وأغنتهُ المعرفةُ بالفَصلِ بين الرّديءِ والجيّد، وأفادَتهُ المراجعةُ بالمُفاضلةِ بين القَويمِ وسواهُ من فاسدِ الرُّتَبِ والمذاهب، هو الذي أُودِعَ في جُبلةِ بريجيت الفنيّة، وكأنّها زاوجَت، بذلك، بين غايةِ الفنِّ وغايةِ الأخلاق.

قد يُرضيكَ المُطرِبُ الواحدُ في مقامٍ، ولا يُرضيكَ في آخر، ولا عيبَ في أن يختلفَ أداؤُهُ باختلافِ طبقاتِ صوتِه، وإحساسِه، وذَوقِهِ، فتقولُ : هو يمتازُ بهذا النَّوع، وليس بغيرِه… ولمّا كان الفنُّ كالمِرآة، لابدَّ من أن يصدرَ كلُّ فنّانٍ عن أَلوانِ نفسِهِ، وينطقَ عن أسرارِ قلبِه. ومع ذلك، كانت بريجيت حَذِرَةً حين إلتَقَت بمقوِّماتِ صوتِها، فدرسَتها، وشذَّبَتها، وأبقَت على القادِرِ منها، وانتهَت بالتّوافقِ معه، وبإِلفةٍ طابَت نفسُها بها، حتى وُلِدَ بينهما صفاءُ وداد. وذهبَت، بِحَذَرٍ أيضاً، الى إحساسِها، فاختبرَت ما يُسَجِّلُ فيه خَضَّة، ومَدَّةَ آه، فتَبَنَّته من دونِ غيرِه، وهكذا، خلعَت عنها رداءَ الحَذَر، وعاشَت في أكنافِ الجَميلِ، السَّليمِ، المُنتسِبِ الى الذَّوق، حامِلِ لواءِ الجودة، حتى جاءَ أداؤُها قَطرةَ ندًى على وردةٍ عَطشى.

يَحارُ الشّاهِدُ في تحديدِ أيٍّ من الجَمالَينِ يَغلبُ على الآخر، أَهوَ الذي فَتَنَ عينيهِ، أم الذي سحرَ مسمعَه ؟؟؟ ومرجعُ هذه الحيرةِ أنّ بريجيت لم تسدَّ طريقاً مسلوكاً للنَّظرِ وللسَّمع، فوشَّت ظَرفَ قامتِها بجَمالِ صوتِها، وكأنّ ” وَحيد ” ابنِ الرّومي، تلك الغادةَ المُجيدةَ التي تَتَغنّى كأنّها لا تُغَنّي، قد استُحضِرَت من الزّمانِ البعيد. ولعلَّ الكثيرَ من مواصفاتِ الأداءِ، يجمعُ بين الغادَتَين، من نبرةٍ ناعمةٍ في صَوتٍ معطاءٍ يؤدّي المغنى بشيءٍ من الفخامةِ والوقارِ، ويُتقنُ أكثرَ القوالبِ التي تُدَوزَنُ برقّةِ الشُّعورِ لتخرجَ نبراتُها ذاتِ نكهةٍ بَهِجَة، ويتنقّلُ بين درجاتِ السُلَّمِ الموسيقيّ بسلاسةٍ وقدرةٍ على إتقانِ التنوّعِ في الطَّبقاتِ من دونِ بَذلِ أيِّ جهد، ويترجمُ الإحساسَ بجُمَلٍ تستثمرُ إمكانيّاتِ الإبداعِ حتى تَخالَ العَينَ تَغارُ من الأُذُن…

إنّ الطَّوافَ في مخزونِ بريجيت ياغي يكشفُ عن حَميّتِها لكلِّ جديد، وعن استثمارِها لإمكانيّاتِ صوتِها في جَوٍّ من المهارةِ، والإجادة، والظَّفَرِ بجوانبِها المضيئةِ بصفاءٍ يُشبِهُ التَّرنيم. لقد مَلَكَ المَغنى قلبَ بريجيت، وكَنّى صاحبتَهُ بالمُغَرِّدةِ التي تنثرُ، بصَوتِها، الدُرَّ على الدُرّ.  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *