سجلوا عندكم

الانتِماءُ والارتِقاءُ في مادَّةِ الرَّيحانيّ الروحيّةِ

Views: 83

مكرم غصوب

“الحُرمُ، يا سيِّدَنا، الحُرمُ لا يؤدِّبُهُ غَيرُ الحُرمِ! فاستجابَ سِيادَتُه طَلَبَهُم، وأصدَرَ حُرماً كبيراً رهيباً يَمنَعُ فيهِ أمين فارس الرَّيحانيّ، القاطِنَ في الفُريكَه بأبرشيّةِ قُبرُصَ من قَبولِ الأسرارِ الكَنَسيّةِ ومن شَرِكَةِ المؤمنينَ ومُخالَطَتِهم، أيّ بالحريِّ يَمنعُ المؤمنينَ مِن مُخالَطَتِهِ”

حُرمٌ لَم يَمنعِ الرَّيحانيّ مِن قَبولِ أسرارِ طَبيعةِ بِلادِهِ، أُمِّهِ الأزَليَّةِ السَّماوِيَّةِ الشَّيطَانِيّةِ الحُبلى بـ “الجَوهرِ الإلهيّ”، ولَم يَمنَعْ وادي الفُريكَه المَهيبَ العَميقَ الجَميلَ، كَثيرَ الزوايا والأسرارِ، بِنَهرِهِ المُتَجَدِّدِ، وأشجارِهِ العَميقةِ الجُّذورِ في الصَّخرِ والتُرابِ، وأزهارِهِ الهَارِبَةِ مِن خَيالِ إلَهٍ أشكالاً وألواناً وعطوراً، وطيورِهِ الحامِلَةِ في خَفْقِ أجنِحَتِها كُلَّ الأسئِلَةِ الوجوديّةِ ، حُرمٌ لَم يَمنعْ “أبرَشّيةَ الفُريكةِ” من مُخالَطَةِ “الكافِر”. 

الكَافِرُ المؤمِنُ بِتعاليمِ الوَردَةِ الّتي تَفتَحُ للنّورِ قَلبَها مِثالاً للنَّزاهَةِ في الحُبِّ، وبتَعاليمِ زَهرِ المَسيحِ، شَفيعِ الرَّيحانيّ، الذي يَحنو حتّى على الصُخورِ مِثالاً للوداعَةِ، وبتَعاليمِ جَبَلِ صِنينَ بكوفيَّتِهِ البيضاءِ، الذي لا تُقعِدُهُ العواصِفُ مِثالاً للثَّباتِ، وبتَعاليمِ أشجارِ الصَّنوبَرِ المُتشابِكَةِ الأَغصانِ والجُذوعِ والجُذورِ، التي أدرَكَتْ أَنَّ فَوقَ رؤوسِها وتَحتَ أقدامِها ما يَكفيها فكانَتْ مِثالاً للقناعَةِ. أمّا السِّنديانةُ، التي أرادَ أنْ تَتَفيأَ عِظامُهُ في ظِلِّها أَبدَّ الدَّهرِ، عِندَ سَفْحِ رابِيَةِ “بْحُردُق” المُكَلَّلَةِ بالصَّنوبَرِ، فَعَلَّمَتْهُ أنَّ النَبتَةَ المَزروعَةَ في الماءِ، يَقتُلُها العَطَشُ إلى الانتماءِ.

الكَافِرُ الذي حينَ انفَصَلَتْ رُوحُهُ عَن جِسمِهِ وطارَتْ مُسرِعَةً كَما يَطيرُ الُّسنونو والحَسّونُ، في يومٍ مِن ذَلِكَ الفَصلِ الذي تَقِفُ فِيه الأيّامُ حائِرةً بينَ الخَريفِ والشِّتاءِ، أدرَكَ تِلكَ العَلاقةَ التَفاعُليَّةَ التبادُليَّةَ التكامُليَّةَ التجاوزيَّة، وذلِكَ المَزجَ المُتَماديَ بَين المَادّةِ والرُّوحِ، حيثُ الرُّوحيُّ يَنبَعُ من مادِيَّةٍ مُكَثَّفَةٍ مُتسامِيَّةٍ، ذَلك الرُّوحيُّ المُتأصِّلُ في المَاديِّ ليُشكِّلَهُ ويُنيرَهُ ويُجَمِّلَهُ ويَرتَقي بِهِ إلى “الهَدَفِ اللامُتناهي”. إنَّها الغَايَةُ السَّاميةُ، الغَايةُ الوَسيلةُ، الغَايَةُ المُتجَدِدَّةُ ارتقاءً، حَيثُ “فَضيلَةُ الأعمالِ أن يَكونَ كلُّ عَمَلٍ بِذاتِه الغَايَةَ والواسِطَةَ” وحَيثُ يُحتَقَرُ الإنسانُ الذي لا يستطَيعُ أن يرفَعَ نَفسَهُ فوقَ نَفسِهِ. يومَهَا بَدَأتْ رِحلُةُ بَحثِهِ عَنِ المَعنى وفي “زَوَّادَتِهِ”، بُذورُ المِثاليَّةِ، حُريَّتُهُ الأَخلاقِيَّةُ، و”إثمُهُ الكَنعانيّ” الذي أسماهُ في نصِّ “بلادي”، “المَرَضَ الوَطنيَّ المُزمِنَ”.

تكريم  اتحاد الكتَّاب اللبنانيين الدكتور أمين البرت الريحاني وتبدو في الوسط لوحة “فيلسوف الفريكه بكلماته” بريشة الفنان التشكيلي يامن صعب

 

ذلِكَ الإثمُ الذي، لا يَتَجلّى فقط في مَفهومِ الوِجدانِ _الانتِماءِ، إنَّما أيضاً في مفهومِ الارتقاءِ المُتجسِّدِ في نَجمَةِ كَنعان بمُثَلّثَيها المتداخلَين، يَرمُزان إلى حلولِ الإلَهِ في الإنسانِ وتَوقِ الإنسانِ إلى الألوهةِ، إلى تِلكَ العَلاقةِ التفاعُليَّة الماديَّةِ الروحيَّةِ، الإنسانيَّةِ الإلهيَّةِ، التي تَحوَّلتْ إلى ذَبيحةِ خُبزٍ وخَمرٍ في طُقوس مَلكِصادقِ، حَوَّلَها الناصِريُّ إلى ذَبيحةٍ إلهيَّةٍ مُتجدِّدَةٍ، قَدَّمَ فيها جَسَدَهُ ودَمَهُ أيّْ روحَهُ، من خلالِهما، يَحِلُّ الإلهُ في الإنسانِ، فيُصبِحُ هذا الأخيرُ توَّاقاً إلى الكَمالِ.

الخُبزُ والخَمرُ اللذانِ، اشتَرَطتْ كاهِنَةُ مَعبَدِ عشتار، على أنكيدو، تناوُلَهُما، من أجلِ دُخولِه، إلى “أوروكْ” المَدينةِ، من أجل انتقالِهِ من الحياةِ الحَيوانيَّةِ إلى الحياةِ المَدَنيَّةِ، بَعدَ ما مارَسَتْ مَعَهُ الحُبَّ، الجِنسَ المُقدَّسَ، لسِتَةِ أيَّامٍ وسَبعِ ليالٍ فحوَّلَتْهُ إلى إنسانٍ.
وليسَ الخُبزُ إلاّ رَمزاً للقَمحِ بَعدَ تَدجينِهِ، لأوَّلِ زِراعةٍ ولمُنطَلَقِ الحَضارَةِ المَدَنيَّةِ. ذَلكَ القَمحُ المُنورَجُ بَعدَ الحَصادِ، كَما نَورَجَ الرَّيحانيُّ، في رِحلَتِهِ حَولَ العَالَمِ، في رِحلَةِ بَحثِهِ عن المَعنى، الأفكارَ والمُعتَقداتِ والفَلسفاتِ الشَّرقيَّةَ والغَربيَّةَ ليُبقيَ مِنها ما هو صالحٌ لغِذاءِ عَلاقَةِ الروحِ بالجَسَدِ وارتقائِها.

 

وليسَ الخَمرُ إلاً أوّلَ صِناعَةٍ إنسانيَّةٍ، يَمتَزِجُ فيها جَسَدُ حَبّاتِ العِنَبِ (أي قِشرَتُها) بروحِها، تَحتَ أقدامِ الطُّفولَةِ، فَيَتَحوَّلُ سِكَّرُ الروحِ بتفاعُلِهِ والجَسَدَ ، وبَعدَ تَقطيرِهِ وتَصفيَتِهِ إلى خَمرٍ يَنتشي بِهِ القَلبُ ويَسمو كَما يَنتَشي العقلُ الصوفيُّ المُصفّى، لَدى الرَّيحانيّ، بالخَلقِ والإبداعِ والارتقاءِ.

وبينَ “أوروك” مَدينةِ كِلكامِش العُظمى، التي وَجَدَ فيها خُلودَهُ بَعدَ رِحلَةٍ شاقَّةٍ في البَحثِ عَنهُ، ومَدينةِ الرَّيحانيّ العُظمى، نِقاطُ تَلاقٍ كَثيرَةٌ لاسِيَّما في ما يَتعلَّقُ بِمَدَنيَّةِ الإنسانِ وسَعيِهِ الدائمِ إلى التَّطوُّرِ، حيَثُ التَجدُّدُ هو الثابِتُ الوَحيدُ إلى الأَبَدِ. لَكِنْ في مدِينَةِ الرَّيحانيّ سَعيٌ لتأسيسِ المُجتَمَعِ المِثاليّ ِالقائِمِ على الارتقاءِ المادّيِّ_ الروحيِّ، حَيثُ يُعادُ تَنظيمُ عَلاقَةِ الإنسانِ مع نَفسِهِ، مع المُجتَمَعِ، مع الكَونِ والحياةِ، لتَحقيقِ العدالةِ الاجتماعيَّةِ ومُجابَهَةِ الانّحِلالِ الأخلاقيِّ والمَوروثِ المَريضِ ونَبذِهِما.

كشَجَرةِ الحياةِ مَدينَةُ الرَّيحانيّ العُظمى، عَميقَةُ الجُّذورِ انتِماءً، وارِفَةُ الأغصانِ ارتِقاءً، دائِمَةُ التَجدُّدِ بِتَفاعُلِ المادَّةِ والروحِ، ولَكِنْ لا بُدَّ لِمِقَصِّ العَقلِ أن يُشَذِّبَ جُذورَها المَريضَةَ كَما يشذَبُ أغصَاَنَها اليابِسَةَ. ألَعلَّها الشَّجَرةُ التي أرادَ أن تَتَفيَّأَ عِظامُه في ظِلِّها أبَدَ الدَهر، فَتَتَغّذى جُذورُها من جَسَدِهِ وروحِهِ، ليَصيرَ وإيّاها واحداً في وَحدَة ِالوجود؟  

إنَّها شَجَرَةُ المَعرِفَةِ، التي صارَها الكافِرُ الذي أحرَقَ الصُلبانَ الكاذِبَةَ في كَشَّتِهِ، الكافِرُ الذي أرادَ أن يحيا دونَ أن يُبغِضَ أحداً، ويُحِبَّ دونَ أن يَغارَ مِن أحَدٍّ ويَرتَفِعَ دونَ أن يَترَفَّعَ على أحَدٍ، ويَتقدَّمَ دونَ أن يَدوسَ مَن هُم دُونَهُ أو يَحسُدَ مَن هُم فَوقَهُ.

إنَّها شَجَرَةُ المَعرِفَةِ المُثمِرَةُ أبدا،ً وها هُم الأولادُ الذين تَجمَّعوا حولَ الرَّيحانيّ الكافِرِ يَصرُخون “هذا هوَ الذي حرَمَه المُطران”، يَجتمِّعونَ حَولها ويَصرُخون “هذِهِ هيَ الشَّجَرَةُ المُحرَّمَةُ” ، فتَبتَسِم ُوتقولُ لَهُم : مَنْ مِنكُم بِلا حَجَرٍ فليَرجُمني بالخطيئَةِ.

***

*ألقيت  في الندوة حول أدب أمين الريحانيّ وفكره، من تنظيم اتحاد الكتّاب اللبنانيين لمناسبة مئويَّة “ملوك العرب” في  دير مار جرجس بحردق، كُرِّم خلالها الدكتور أمين البرت الريحاني ، الخميس 10 /4/ 2025.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *