“جرح النازفة” قراءة من زاوية علم النفس الاجتماعي 

Views: 62

إعداد د. ريما كرم

بالرغم من رغبتي الكبيرة لأن أتطرق في مداخلتي هذه إلى الناحيتين النفسية والأدبية العاليتي الاحتراف في رواية ” جرح النازفة” ، سأكتفي أن أعرض قصة أمل، النازفة والمستَنزَفة  والمستَنزِفة من زاوية علم النفس الاجتماعي، المجال العلمي الذي يقف على العلاقة التفاعلية بين الفرد ومحيطه ومدى تأثير هذه العلاقة على تكوين أفكار الفرد، على مشاعره وعلى سلوكياته. 

أستناداً إلى المحطات المؤلمة التي انتقت أن ترويها من مسار حياتها، فإن أمل هي سيدة عاشت وإختبرت ما أملاه مجتمعها عليها، وهي بذلك تشبه إلى حدٍ بعيد  Gervaise   بطلة قصة  L’Assommoir للكاتب الفرنسي Emile Zola   لناحية الإرث الثقيل الذي وضعته البيئة الاجتماعية على كاهل كل منهما. فقد عبّرت أمل في شهادة حياتها عن فشلٍ فردي سببه مجتمعي حرمها من تمثُّل السلوك الأخلاقي القويم، حرمها من النمو العاطفي السليم ومن امتلاك المهارات التي تخوّلها إثبات ذاتها في بيئتها. قادها هذا الفشل إلى الإنحراف وإلى تراكم محطات الخيبة في حياتها. 

أنطلق من سؤال محوري وهو كيف أثّر المجتمع الذي نمت فيه أمل على مسار حياتها؟ علماً أن وجود كل منا في مجتمعٍ ما هو خاضع لمبدأ التفاعل، أي الأخذ والعطاء، فماذا أخذت أمل إذاً وماذا أعطت؟ 

كل المحطات التي عاشتها أمل، إلّا واحدة، كانت دليلاً على إستسلامها لسلطة مجتمعها، بدءاً من طفولةٍ حزينة في بيت متهالك إلى أن دخلت دار المسنين لمواساة رجلٍ عجوزٍ جمعتها به صدفة ليس إلّا. ما يعني أنّ أمل ليست سوى نِتاج le produit مجتمع أثّر بشكل سلبي على توازن كافة مكونات شخصيتها وحرمها من حقها في العيش الكريم الهانىئ، حرمها من تحقيق ذاتها أسوة بأبناء وبنات جيلها. 

 

نواة هذا المجتمع القاتم هي عائلة مفككة، مضطربة عاطفياً ، أفقدت أمل العوامل  التنموية الأساسية، لا حنان، لا أمان، لا تواصل، لا حماية. هي عائلة زرعت القلق والخوف والحزن، عائلة تعاني الخلل الوظيفي، الذي وبتعبيرٍ علمي، حرم أمل من اكتساب مهارات المواجهة الاجتماعية إضافةَ إلى حرمانها من آليات الدفاع النفسية الضرورية ومن النضج العاطفي الذي يخولها التمييز بين كافة أنواع البشر. تفكك أسري مؤلم، إنحلال تام في الروابط العائلية، أمٌّ عاجزة، أبٌّ مستبد، وضع إقتصادي مزرِ، كلها عوامل حتّمت إستسلام أمل، ابنة الثماني سنوات، خوفاً عل حياة امّها وتخفيفاً لآلامها، لتبدأ  هي رحلة آلامها وتضحياتها اليومية. فما قام به الأب حيال ابنته من علاقةِ محرّمة، اخترق عنوان انخراطها في الوجود، وأصبحت وهي الفتاة الجميلة، تنظر إلى جسدها على أنّه “جسدٌ مَدانٌ دون جريمة ٍ إرتكبها”. وحتى عندما ماتت الأم وضاعت جهود أمل وتضحياتها، لم يترك لها الأب الوقت كي تحزن،   faire son deuil  قام بإستغلالها بغرض الكسب المادي. 

خرجت أمل من عائلتها حاملةً معها أعلى شهادة في الخوف والضياع، شهادة ممهورة بحبر جرحها النازف والإمضاء والدها. قاصر، لا حصن لها، لا مأوى، لا حصانة، لا زاد، لا رفيق، مثقلة بالهموم عوض أن تكون مزودة بسلاح العلم والمعرفة وفي غربة الطرقات راحت تبحث عن طريقها. 

كل ما كانت تحمله من علامات الخوف والإضطراب كان كافٍيًا لتقع فريسة سهلة بين أيدي من يمكنه إيهامها بالحماية والأمان. فأصبحت أمل الشخص المناسب في المكان “المناسب ” . كرّت سبحة عابري السبيل في حياتها وأصبحت ثقافتها الوحيدة نابعة من إنتمائها إلى هذا المكان القاتم، محترفةً ما تقوم به بالرغم من سعيها المستميت أن تكون سيدة محترمة، أن تؤسس عائلة، أن تعيد بناء ذاتها من خلال بناء وتكوين عائلة. هدفٌ بسيط ولكن في مثل حالتها ليس سوى وهم وسراب. 

تعددت محاولات أمل الفاشلة، وعلى غرار    Sisyphe المحكوم  حكماً أبدياً بألّا يصل بصخرته إلى قمة الجبل، تعددت إنزلاقاتها خلف صخرتها التي كانت تتدحرج ما إن تقترب من الهدف، إلى أن وصلت بها إلى قمة الإذلال والدونية والتحقير. احتملت كل شيء بحسرة ومرارة ولكن لن تحتمل بيع أحشائها. استُغلّت مراتٍ ومرات ولكنها انتظرت دائماً وبشوق فرصةً للنهوض أتتها مغايرة بالشكل والمضمون عن كل ما كانت تتوقعه في مكان لم تعتد على مثل المحبة والرحمة التي يعطيهما دون مقابل. وفي لقاء دون أقنعة ولا نوايا خبيثة أدركت أمل أن مواجهة المجتمع تبدأ بمواجهة الذات وإصلاحها. 

ماذا أعطت أمل للمجتمع في ظل هذه العلاقة التفاعلية بينهما؟ 

أعطت أمل لكل مجتمع وُجدت فيه ما يشبهه، أعطت ظلاماً وفساداً حيث الظلام  وأعطت الرحمة والحب والتعاطف حيث المجتمع الصادق والرحوم، أعطت بسخاء ما أخفته لسنين طويلة في قرارة وجودها. 

***

*ألقيت في الندوة حول رواية “جُرح النّازفة” للدكتورة سحر نبيه حيدر، برعاية وزارة الثقافة اللبنانية وبدعوة من “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي” والكاتبة د. حيدر، في الجامعة الأنطونيّة بعبدا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *