سجلوا عندكم

الدين قرار إنسانوي مستقبلي

Views: 5

حسن عجمي

   من الممكن بحق تحليل الدين من خلال مفاهيم الإنسانوية والمستقبل والعلوم والفلسفة فنحصل بذلك على تحليل إنسانوي سوبر مستقبلي للدين. فالدين قرار إنسانوي في المستقبل. ويُتخَذ هذا القرار الإنسانوي اعتمادا ً على معارفنا العلمية والفلسفية وعلى ضوء القِيَم الإنسانية. بالنسبة إلى السوبر مستقبلية، التاريخ يبدأ من المستقبل وبذلك لا بدّ من تحليل المفاهيم والظواهر من خلال المستقبل فتصبح الظواهر والمعاني ظواهر مستقبلية مُحدَّدة فقط في المستقبل ما يُحرِّرنا من المعتقدات والسلوكيات الماضوية. من هذا المنطلق تُؤكِّد الفلسفة السوبر مستقبلية الإنسانوية على أنَّ الدين قرار إنسانوي مستقبلي لا يتكوّن سوى في المستقبل على ضوء القِيَم الإنسانية والمعرفية. 

وحدة الدين والعِلم والفلسفة

   التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي يعتمد على مفاهيم القرار الإنساني والمستقبل والعلم والفلسفة والقِيَم الإنسانية في عملية تحليل الدين. من الممكن تقديم هذا التحليل على النحو التالي : الدين قرار إنسانوي مستقبلي يتمحور حول فهم ما يُعتبَر وحيا ً على ضوء الواقع والمنطق والتفكير الفلسفي الموضوعي والعلوم والمعارف والقِيَم الإنسانية. لهذا التحليل فضائل عديدة تدعم مقبوليته وصدقه. من تلك الفضائل نجاحه في التوحيد بين الدين والفلسفة والعلوم.

   بما أنَّ الدين قرار إنسانوي في المستقبل يُعنَى بفهم الوحي على ضوء الواقع والمنطق والفكر الفلسفي الموضوعي والعلوم والمعارف والقِيَم الإنسانية، إذن يتشكّل الدين من خلال العلوم والفلسفة المنطقية والموضوعية بحيث يُفهَم الدين فيتكوّن على أساس نتائج العلم والفكر الفلسفي المنطقي والموضوعي. وبذلك لا يوجد فصل بين الدين والعلم والفلسفة بل الأديان والعلوم والفلسفة تشكِّل حقلا ً معرفيا ً واحدا ً غير منفصل بل منسجم العناصر والأجزاء. من هنا يتمكّن هذا التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي للدين من التوحيد بين الدين والعلم والفلسفة. وهذه فضيلة أساسية يمتلكها هذا التحليل. فبما أنَّ الدين مُعرَّف من خلال العلم والمعرفة والفلسفة، إذن لا بد أن تشكّل الأديان والعلوم والمعارف والفلسفة حقلا ً معرفيا ً واحدا ً ما يضمن انسجامها وعدم التعارض فيما بينها. التوحيد بين الدين والعلوم والفلسفة يضمن وحدانية العقل البشري ووحدانية المعرفة البشرية فيجنبنا الوقوع في انفصام العقل وانقسامه على نفسه وصراعاته الفكرية والعقائدية والمعرفية. وفي كل هذا فضائل متنوّعة لكنها مُختصَرة في فضيلة التوحيد بين الدين والعلم والفلسفة.

 

حلّ خلاف فكري

   ينجح التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي للدين في حلّ الخلاف بين القول بأنَّ الدين وحي إلهي والقول بأنَّ الدين وضعي من صنع البشر وذلك من خلال توحيده للقوليْن المتنافسيْن. إن كان الدين قرارا ً إنسانويا ً مستقبليا ً حيال الوحي وهو قرار على ضوء الواقع والمعرفة الحقة والقِيَم الإنسانية، إذن الدين من صنع الإنسان فوضعي لكونه قرارا ً إنسانيا ً والدين أيضا ً وحي إلهي لكونه قرارا ً إنسانيا ً حيال الوحي الإلهي. بذلك ينجح التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي في التوحيد بين الموقف القائل بأنَّ الدين من صنع البشر والموقف المنافس القائل بأنَّ الدين وحي إلهي. من هنا يكتسب هذا التحليل فضيلة أخرى لكونه يحلّ خلافا ً دينيا ً وفلسفيا ً أساسيا ً. هذا يتضمن أنَّ للدين وجهيْن هما وجه إنساني وآخر إلهي. ومن المتوقع ذلك لأنَّ الدين موجَّه للإنسان فيتخذ بُعده الإنساني. كما أنَّ الدين يحتوي بالضرورة على مفهوم الألوهية بمعنى أو بآخر وإلا لم يكن دينا ً فيتخذ بذلك بُعده الإلهي.

الدين والحرية والتطوّر

   إن كان الدين قرارا ً إنسانويا ً في المستقبل بحيث يُعنَى هذا القرار بفهم الوحي، إذن الدين يتشكّل في المستقبل على ضوء قراراتنا ما يحرّرنا من الفهم الماضوي للأديان فيدفع بنا نحو تطوير الدين كما نراه نحن ونفهمه على أساس الاعتماد على القِيَم الإنسانية والمعارف الفلسفية والعلمية الحقة. من هنا، ينجح هذا التحليل للدين في تحريرنا من الفكر الماضوي فيكتسب هذه الفضيلة الجوهرية كما ينجح في ضمان تطوير الدين لأننا نحن مَن سوف نشكّله في المستقبل على ضوء تطوّرنا المستقبلي. وضمان التحرّر من الماضوية وتطوير الدين فضيلة أساسية لهذا التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي.

   كما أنَّ هذا التحليل ينجح في تفسير لماذا الدين يتطوّر أو يتغيّر. فبما أنَّ الدين قرار إنسانوي في المستقبل وبذلك يتكوّن في المستقبل، والحاضر كان مستقبل الماضي والماضي كان مستقبل ماض ٍ قبله، إذن يتشكّل الدين في مستقبل متجدّد بانتقال المستقبل إلى حاضر فماض ٍ فيتطوّر أو يتغيّر بتطوّر أو تغيّر المستقبل المتحوّل إلى حاضر فماض ٍ. بكلام ٍ آخر، الدين يتطوّر أو يتغيّر بشكل دائم لأنَّ الدين يتشكّل في المستقبل والمستقبل متغيّر أو متطوّر عما نعهده أو عما عهدناه. وإن كان الدين قرارا ً إنسانويا ً مستقبليا ً يُعنَى بفهم الوحي اعتمادا ً على الفكر الفلسفي والعلمي الحق والقِيَم الإنسانية، إذن من المتوقع أنَّ الشعب المتطوّر في العلم والفلسفة وفي قيمه الإنسانية هو متطوّر أيضا ً في دينه بينما الشعب المتخلّف في العلوم والفلسفة هو أيضا ً متخلّف في دينه. هكذا يفسِّر هذا التحليل للدين لماذا الشعوب المتطوّرة بانجازاتها الحضارية كالعلم والفلسفة متطوّرة في دينها أيضا ً بينما الشعوب المتخلفة علميا ً وفلسفيا ً متخلفة في دينها. على هذا الأساس، يكتسب هذا التحليل للدين قدرة تفسيرية أساسية تشير إلى صدقه.

 

الدين والقِيَم والمجتمع

   ينجح هذا التحليل للدين أيضا ً في تفسير عدم انفصال المجتمع عن الدين ولماذا كل مجتمع لا يخلو من دين أو أديان. فبما أنَّ الدين قرارات إنسانوية في المستقبل على أساس المعارف العلمية والفلسفية الحقة والقِيَم الإنسانية، والقرارات الإنسانية مصدرها الفرد فالمجتمع، إذن من الطبيعي أن لا يوجد مجتمع بلا دين تماما ً كما لا يوجد دين بلا مجتمع. هكذا ينجح هذا التحليل في تفسير لماذا كل مجتمع لديه دين أو أديان. فالدين في حد ذاته قرار إنساني وبذلك هو قرار اجتماعي أيضا ً ما يحتّم وجود دين أو أديان في كل مجتمع. من هنا أيضا ً بمجرد أن وُجِد المجتمع وُجِد أيضا ً الدين بسبب الارتباط الضروري بينهما من جراء أنَّ الدين ليس سوى قرارات اجتماعية. كما أنَّ هذا التحليل للدين يفسِّر لماذا الدين بالضرورة يحتوي على قِيَم وأخلاق إنسانوية. فبما أنَّ الدين قرارات إنسانوية على ضوء القِيَم الإنسانية والعلوم والفلسفة، إذن من الطبيعي أن يحتوي كل دين على قِيَم إنسانوية وأخلاقية. فلا دين بلا قِيَم إنسانية وأخلاقية لأنَّ الدين ليس سوى قرارات إنسانية معتمدة على القِيَم الأخلاقية تماما  كما هي معتمدة على الفكر العلمي والفلسفي الحق.

لامُحدَّدية الدين

   علما ً بأنَّ الدين قرار إنسانوي في المستقبل، إذن يتشكّل الدين في المستقبل فقط على ضوء قراراتنا الإنسانوية وبذلك الدين غير مُحدَّد في الحاضر والماضي تماما ً كما تقول السوبر حداثة التي تُؤكِّد على أنَّ اللامُحدَّد يحكم العالَم. من هنا، هذا التحليل للدين هو تحليل سوبر حداثوي بالإضافة إلى كونه تحليلا ً إنسانويا ً وسوبر مستقبليا ً بسبب تحليله للدين من خلال القرارات الإنسانوية ومن خلال المستقبل أيضاً. على هذا الأساس، تشكِّل الاتجاهات الفلسفية السوبر حداثوية والسوبر مستقبلية والإنسانوية حقلا ً فلسفيا ً واحدا ً منسجم الأجزاء والعناصر. هذا التحليل للدين هو تحليل سوبر إنسانوي أيضاً لأنه يقول إنَّ الإنسان يُحدِّد الدين في المستقبل لأنَّ الدين قرار إنسانوي مستقبلي. وبذلك يغدو الدين مُحرِّرا ً للإنسان (لأنَّ الدين من نتاج الإنسان وإن كان يمتلك بُعداً إلهياً) بدلا ً من أن يكون سجنا ً للإنسان. فلا دين بلا حرية وبلا إنسانوية تماما ً كما لا حرية ولا إنسانوية بلا دين. لامُحدَّدية الدين تُحرِّر الإنسان لأنها تجعله المُحدِّد الأساس للدين غير المُحدَّد ما يضمن استمرارية الأبحاث الدينية بهدف تحديد مضامين أي دين ومقاصده. وفي هذا فضيلة كبرى فلا قيمة لدين يقتل استمرارية التفكير والإبداع. 

 

إنسانوية الدين

   بما أنَّ الدين قرار إنسانوي مستقبلي حول فهم الوحي على ضوء القِيَم الإنسانية والعِلم والفلسفة، والقرارات الإنسانوية معتمدة في تشكّلها على الإنسان، إذن الدين نتاج الإنسان وإن كان نتاج الوحي أيضا ً بكونه قرارا ً إنسانويا ً مستقبليا ً حول فهم الوحي. من هنا يتضمن هذا التحليل للدين أنَّ الدين من صنع الإنسان على ضوء قراراته الإنسانوية. وبذلك يتفق هذا التحليل للدين وينسجم مع المذهب الإنسانوي القائل بمحورية الوجود الإنساني ودور الإنسان الفعّال في تكوين الظواهر كافة. (Provigil) هكذا يُعبِّر هذا التحليل للدين عن الإنسانوية لكونه يتضمنها ويؤدي إليها. وهذا هو جوهر التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي للدين لأنه يعرِّف الدين من خلال القرارات الإنسانية المستقبلية. بفضل هذه النتيجة نصل إلى أنسنة الدين الكامنة أولا ً في اعتبار أنَّ الدين من نتاج الإنسان والكامنة ثانيا ً في تشكيل الدين على ضوء القِيَم الإنسانية. فبما أنَّ الدين قرارات إنسانوية مستقبلية، والقِيَم الإنسانوية كالحرية والمساواة والسلام جوهر المذهب الإنسانوي، إذن الدين يتضمن بالضرورة احترام واتباع القِيَم الإنسانوية واستخدامها في تشكيل الدين ما يُلزِم هذا التحليل للدين بقبول الإنسانوية واعتبارها صادقة المعاني والدلالات. لا دين بلا قِيَم إنسانية تماما ً كما أنه لا دين بلا علوم وفلسفات. هكذا تشكّل المعارف الإنسانية المختلفة حقلا ً معرفيا ً واحدا ًغير منفصل بل منسجم الأجزاء والعناصر ما يُوحِّد العقل البشري فيُوحِّد الحضارة الإنسانية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *