المُتع المُذنبة وهجرة القيم
د. مارلين يونس
تتأسّس الحياة الإنسانيّة على مجموع من الرغبات الكائنة في واقع الحاجة والرغبة، وكلّنا يعتمد على مستوى معيّن من المتطلّبات التي يعوم فيها الشك، لأنّنا لا نملك حقائق بل تأويلات عنها على حدّ قول نيتشه. ومن خلال التشكّل اللغويّ ورغم التقدم العلميّ والتكنولوجيّ الذي يتلثلث فيه (se vautrer) فضاؤنا الكوني، تخلق تراكيب اللغة حالة من الفوضى والغموض والدهشة التي تنسلّ داخل العقل الإنسانيّ، وهذه الحالات هي من مبتدعات عقل غائيّ مبتكر لوجود غريبٍ عن منطقه، ومهادن فوق هالات التسطّح والاستلاب المساندة له. لكن أمام هذا التصوّر كيف نقرأ الشخصيّة الإنسانيّة في ظلّ تحوّلاتها الماهويّة المبثوثة في المصطلحات الغريبة التي تُشاع في مجتمعاتنا؟ وكيف نحدّد مهام القيم ومعاييرها؟
لا شك أنّ الإنسان هو الكائن الأخلاقي الذي يحمل أمانة القيم. ومن الواضح أنّ العلاقة الجدليّة القائمة بين الواقع الاجتماعي والوعي به، لا تميّز بين وجود الإنسان في ذاته ووجوده لذاته، كما أنّها لا تميّز بين أخلاقيّات الدهاء والشطارة وأخلاقيّات الحقّ والصواب. وقد تصادر المصطلحات المُسبغة على الشخصيّة الإنسانيّة، أفق التوقّع الحقيقيّ، وذلك من خلال التركيز على مفاتن الشخصيّة فقط وليس على المنتج الأدبيّ أو الفكريّ أو الفنيّ. وهذا يعني تضخيم الشيء لكي نجعل منه حدثًا وقضيّة، ومنح الألقاب السياديّة واستنفاد طاقة الإنسان من خلال اللهاث وراء النافذين ووراء مراكز القوى، متناسين أنّ الصفة تُكتسب من القيمة التي تمثل الإبداع الإنسانيّ الموجود في كيان مثالي ثابت بعيد عن الرغبات والتصوّرات الدنيئة.
فما معنى القيمة؟ وهل نتحدّث عن حقيقة موجودة أم أنّ الكلمات هي التي تخلق الواقع الذي نعيش فيه؟ وأين يكمن موقع الكلمة المحرّر للعقل أحيانًا والمحطّم للقلب مرارًا؟
إنّ القيمة هي قيمة الأنا بوصفها إرادة مقوّمة للأشياء، وشرطًا لوجود الخيرالأخلاقيّ. وما أن نتّخذ قرارًا بتفضيل إمكان على إمكان حتّى يتمّ صنع الفكر، أي صنع اختيار القيمة وتحديدها. لكن بين الكلمة التي تخلق إيمانًا بالتجربة والقدرة والقوّة، والكلمة التي تخلق فراغًا، هل تعود الرغبة في الشيء إلى قيمته، أم أنّ قيمة الشيء تتحدّد لأنّنا نرغب فيه على حدّ قول سبينوزا؟
تنخرط الذات الإنسانيّة في العالم من خلال مبدأي الالتزام والاعتزام، وهذه المفاهيم تنطوي على طائفة من الدلالات المعنويّة والماديّة. فالحياة تطرح القيمة الغائصة في الخصومة والصراع. من ثمّ يأتي التقويم لتحديد ماهيّتها. وقد يتمّ التعرّف على وجودها بطريقة ليست متولّدة عنها بشكل مباشر. ولعلّ أكبر إشكاليّة تواجهها هذه الذات في المجتمع هي علاقتها بالجماعة التي يترتّب عنها انفصامًا في الشخصيّة. وهذه العلاقة هي أصلاً موروثة، فالناس ترث وضعها الطبقيّ كما ترث جيناتها الوراثيّة المستكنّة. وترتدي الأقنعة وتخدع أنفسها لكي تشعر بالانتماء الوهمي إلى مجتمع لا يقبل إلاّ المزيّف. وتُصبح الأحكام التي تدّعي أنّها تنبثق من تركيبات منطقيّة هي نفسها سجينة النظرة المقعّرة المغيّبة للحقيقة. إزاء هذا الوضع لا بدّ من تجريد الأحوال من ملابساتها المكانيّة والزمانيّة، وهذا يتطلّب البحث عن المعاني المطلقة والشيء في ذاته، والإذعان بضرورة وجود الإحساس القبليّ بها. وذلك من أجل القيام بتجربة القيمة، أي تجربة حامل القيمة ومبدعها، بعد هدم الأوثان المعبودة وسحق الحقائق المقرّرة سلفًا.
***
(*) أستاذة في الجامعة اللبنانيّة