سجلوا عندكم

“لبنان ومسألة الشرق الأوسط وحركة التاريخ”  للمؤرّخ كمال الصليبي

Views: 70

سليمان بختي

صدر في بيروت وفي الذكرى العاشرة لرحيل المؤرخ كمال الصليبي (1929-2011) كتاب “لبنان ومسألة الشرق الأوسط” عن دار نلسن باللغتين الانكليزية والعربية وبترجمة موفقة من محمود شريخ تلميذ الصليبي في الجامعة الأميركية في بيروت.

 والدراسة نشرها له مركز الدراسات اللبنانية في اكسفورد عام 1988 وهي الورقة الثامنة ضمن سلسلة أوراق لبنانية. وبحسب توطئة المترجم محمود شريح “أنها ورقة سعى فيها صاحبها إلى رصد حركة تاريخ لبنان الحديث منذ إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920 وصولاً إلى نكبة فلسطين مروراً بالحرب الأهلية في لبنان ثم تنامي الحرب العراقية الإيرانية.

 

وكما اليوم، كما الأمس، يرى الصليبي أن التوصل إلى تسوية للمسألة اللبنانية بمعزل عما يحدث خارج لبنان مسألة شائكة لا يمكن التكهّن بمصيرها. ومع أن الصليبي يقرر أن التسوية العامة في الشرق الأوسط هي عملياً تسوية النزاع العربي الإسرائيلي. إلا انه ينتبه إلى النزاع القائم في الخليج والناجم بالأساس عن الحرب العراقية الإيرانية وامتداداتها (وهذا ما أكدته شواهد الأيام). وعدا طبعاً النزاعات ضمن المنظومة العربية. وقبل أن يلج الصليبي إلى تحديد مفهوم تسوية مسألة الشرق الأوسط فهو يفكك الصورة إلى مشاهد. المشهد اللبناني والمشهد الإقليمي والمسألة الفلسطينية والأصولية الإسلامية والحرب العراقية الإيرانية وينهي باعتبار لبنان قياس التجربة.

ينطلق الصليبي في تحليله المشهد اللبناني من طبيعة لبنان السياسية الذي شكّلته فرنسا دولة مستقلة في العام 1920 وارتباط مشروع الدولة اللبنانية بتصور مسيحي للبنان. وإن المسلمين ارتضوه على انه دولة وظيفية وليس الدولة الأمة كما أراده المسيحيون، باعتبار انتماء المسلمون إلى أمة عربية أوسع. هذا التباين في النظر إلى لبنان ولّد تمسّك مسيحي بالامتيازات والمناصب ومطالبة الإسلامية بالإصلاح ورفع الغبن الناتج عن طبيعة النظام السياسي في لبنان. هذا الانقسام الاجتماعي كأساس للصراع الوطني يضعف بالتالي السيطرة القوية على الدولة ويستدعي المشهد الإقليمي. يسأل الصليبي: “وما هو منشأ النزاعات الإقليمية والى أي مدى كان لبنان جزءاً منها؟”.

 

يميّز الصليبي لبنان بالنسبة للدول العربية بنقاشه الحرّ في مسائله الوطنية وغير الوطنية وفي أن تشكيله تمّ من قبل فرنسا بالتشاور مع سكانه المحليين (المسيحيين). في حين أن فلسطين جرى تصورها مع طرف خارجي أي الحركة الصهيونية لإقامة دولة للشعب اليهودي فيها. أما موقف المسلمين والمسيحيين من العروبة فتشوبه تباينات: عروبة قائمة على هوية وطنية علمانية متمايزة عن الإسلام بالنسبة للمسيحيين. وعروبة ملتبسة بالإسلام بالنسبة للمسلمين. ولكن العروبة بحسب الصليبي أسيء فهمها وحتى العلاقات داخل جامعة الدول العربية (1945) شابها تدخل فيما بينها وزعزعة استقرار لدولها. وبرأيه أن الولاء السياسي في العالم العربي تلمس دربه عبر مصلحة الدولة المستقلة ذات السيادة، وثانيهما ما تقتضيه العروبة. وكانت النتيجة اختبارات تدميرية ومخاطر وقمع وتحديات. وبدا ذلك جلياً في الساحة اللبنانية. أما ثالث القضايا الجوهرية القضية الإقليمية فهي المسألة الفلسطينية وتداعياتها أي تشتّت الفلسطيني في الدول العربية ونتائج اتفاقية الهدنة (1949) والعدوان الثلاثي (1956) وحرب (1967) وبعد هذه التطوّرات نجح الفلسطينيون في الإمساك بزمام أمرهم وتمسّكوا بهويتهم الوطنية المستقلة ونظموا أنفسهم كثورة مستقلة تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية.

وأقلق هذا الأمر العرب واللبنانيين ولا سيما المسيحيين. ومما جعل الأطراف العربية تلاحظ:

1-إن الثورة الفلسطينية أكثر حرية وشرعية فلسطينياً وعربياً.

و2- قدرة الثورة الفلسطينية من موقعها العروبي والفلسطيني على زعزعة الدول العربية.

 

بدأ ذلك في عمان بدءاً من 1970. ولكنه وبدعم سكان شرقي الأردن الأصليين الذين التفّوا حول النظام وساعدوه في سحق الثورة في أراضيه. في لبنان نعم الفلسطينيون بنجاح أطول حتى استفاق المسلمين في لبنان لوعي لبنانيتهم. وفي 1982 جرى تدمير الثورة الفلسطينية في لبنان من قبل إسرائيل برضى المسيحيين. بعدما أحجمت الثورة عن كونها ثورة إذ أبعدتها عن أحداثها الشرعية وشتّتها السياسة العربية. يسميها كمال الصليبي “ثورة مكثفة، أصغر حجماً بيد أنها ذات طاقة أقوى”، وذلك باعتمادهم على أنفسهم في قضية وطنية تخصّهم وحدهم. ويتوقف الصليبي أمام عاملين سيكون لهما تعريف أوضح وهما: مصالح الدولة المستقلة والتزاماتها بالعروبة.

وفي أعقاب 1984 بات لبنان مدمراً ومنصة لقضية حسّاسة أو مسألة إقليمية حديثة في البوتقة اللبنانية: الأصولية الإسلامية ومع نجاح الثورة الإيرانية والجديد فيها قيادة إيرانية لا عربية وشيعية وليست سنية وانها تضع العرب الشيعة في وجه العرب السنّة. وظهر كل ذلك مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية. والنتيجة نزاع بين دولتين إسلاميتين، إحداهما أصولية دينية، والثانية تتبنى القومية العربية العلمانية. مواجهة بين عرب وإيرانيين. بين إسلام شيعي في إيران وإسلام سني مهيمن في العالم العربي. ووجدت إيران دعماً من الأنظمة العربية المتنازعة مع العراق. وشيعة عرب يتعاطفون معها. (https://zegaapparel.com/) وأصوليين سنّة يعادون العلمانية القومية التي يتبناها العراق.

 

ولكن ما يلاحظه الصليبي هنا أن خلف التواني العربي شعوراً نشأ للمرة الأولى وبأن هناك أبعد مما هو مسألة سياسية على المحك. في الفصل الأخير وتحت عنوان: لبنان قياس التجربة: يفصّل الصليبي المسألة على الوجه التالي فقد أدّت أولاً الموجة الأصولية في صفوف الشيعة إلى زيادة قلق السنّة ما جعلهم يرغبون في معالجة وتسوية الوضع مع المسيحيين. وثانياً، ضربت الأصولية الإسلامية أساس الحياة الناشئة التي اعتادها أكثرية المسلمين شيعة أو سنة. وثالثاً، هدّدت الأصولية شرعية سيادة الدولة اللبنانية في حين أن النشاط الشيعي يرضى بالشرعية السياسية. كما أن الرأي الإسلامي التقليدي في لبنان شيعة وسنّة تمحور حول رمز شرعية الدولة اللبنانية أكثر من قبل.

يؤكد الصليبي في تحليله على حقيقة الصراع بين حقيقة الدولة العربية ومتطلبات العروبة. وإن الثورة الفلسطينية أرست النزاع مركزياً على مدى المنطقة وفي العالم العربي وهناك المسيحيين الذين دافعوا عن شرعية الدولة في وجه العروبة. والمثل الآخر هو العراق التي وجدت نفسها في حرب مع إيران التي تحاربه تحت شعار الأصولية الإسلامية. وهكذا، كلا التصورين: الدولة العربية ذات السيادة، وتصوّر العروبة في مواجهة الأصولية الإسلامية وضمناً صدام داخل الإسلام شيعة وسنّة. يسأل الصليبي في نهاية الكتاب هل يمكن التوصل إلى تسوية للمسألة اللبنانية بمعزل عمّا يحدث خارج لبنان؟ وكيف؟

 

ومنذ العام 1975 فإن القضايا العالقة شهدت تحلّلاً وتقلّصاً إلى حبوب دقيقة بين رحى المطاحن السريعة في لبنان. وثمة ثلاث حقائق مختلفة في المنطقة: نظام الدولة العربية ذات السيادة، وما أسماه الالتزام الأخلاقي بالعروبة، والقضايا الاجتماعية والتاريخية للإسلام في المنطقة. ويسأل كيف سيكون في المستقبل التآلف بين هذه الحقائق هو ما يجعل المرء يقدر ما يخبئه المستقبل للمنطقة.

أخيراً، وعلى الرغم من أن الصليبي كتب هذه الدراسة قبل ثلاثة عقود وأكثر إلا أن مقاربته ورؤيته الثاقبة تثبتها الأيام وسياق التحليل والمنهجية الحاذقة التي استخدمها كمال الصليبي وتجعل من هذه النقاط نقاط حراك وبلورة لوضع لبنان والعالم العربي. وبرأيي أن المؤرخ كمال الصليبي وضع في تصوره نقاط الارتكاز والتحولات التي تعصف بمستقبل العرب في الشرق الأوسط (الجديد) ودون أن يشير إلى ذلك ولا بكلمة.

وثيقة قيّمة لمؤرخ مثير للجدل وقلّ نظيره بين المؤرخين اللبنانيين والعرب.

***

(*) الصورة الرئيسية: من اليمين: محمود شريح، كمال الصليبي، سليمان بختي

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *