سجلوا عندكم

أناكوندا (قصّة قصيرة)

Views: 9

أنور الخطيب

طابور السيارات مثل أفعى أناكوندا في شهر آب، عضلاتها مستنفرة، وأوردتها تنبض بجنون. السائقون ينتظرون أدوارهم لشراء حصصهم من البنزين، يضجرون، يغادرون سياراتهم هادئين ويعودون غاضبين. يشتمون، يكفرون، يشترون القهوة، يدخنون بشراهة، ينزعون قمصانهم، يتحدثون في هواتفهم، يخترعون أحاديث مع جيرانهم، باستثناء سائق السيارة الواقفة خلفي.

أقف في المنتصف، نوافذ سيارتي مفتوحة، أستمع لأغنية أم كلثوم “دارت الأيام”، أشعل سيجارة بعد قطع رأسها، انظر نحو جاري، يراقبني، يبتسم ويقوم بحركة بيده، أفهم منها أنني “مسلطن” وأعيش في دنيا بعيدة عن الطابور، وأنني أدخّن سيجارة حشيش، أجيبه بابتسامة، وأسحب نفساً طويلاً، أنظر إليه ثانية، يرفع إبهامه مشجعاً ومُعجبا، ينظر أمامه بتركيز، يغادر سيارته فجأة، يغيب لدقائق، ثم يعود، ويبقى خارج السيارة، يلتفت يميناً ويسارا.

لم أغادر سيارتي منذ ساعة ونصف، أراقب السائق من خلال المرآة الأمامية، ينقر على المِقود نقراتٍ سريعة، يتوقف لثوان، يشعل سيجارة، ويعود ليواصل النقر، يستقبل مكالمة هاتفية، يتحدث بعصبيّة، يشير بيده بعصبيةٍ نحو المحطة، وإلى السيارات المحاذية، كأنه يقول لمحدّثه؛ المحطة الملعونة مكتظة، وطابور السيارات ليس له نهاية.

يبدو السائق الذي يقف خلفي من خلال المرآة وسيماً وفي العشرينيات من عمره، يتوقّف عن النقر على مِقود السيارة، يمسك الهاتف بكلتي يديه، يقرأ معلومة، يبدو القلق في  قسماته، يحكّ جبينه بسرعة، وفجأة، يضرب “تابلوه” السيارة بقوة، يغادر، يحملق أمامه وخلفه كمن نفد صبره، يهزّ رأسه يائساً، يعود، يجلس، يمسك مقدّمة رأسه، يشدّ، ويهدأ.

أسكِتُ صوت أم كلثوم، أفكّر بالنزول والتوجه نحوه لأعبّر عن تضامني معه، أتراجع احتراماً لخصوصيته. يستقبل مكالمة، يمسح دموعه، ينتفض خارجاً، يصرخ بأعلى صوته: (أولاد الكلب، أولاد الكلب)، يقمع نفسه، يتكئ على سطح سيارته، لا أحد يوليه اهتماما، ينظرون إليه بإشفاق، بعضهم يردّد معه: (إيه والله أولاد كلب).

أغادر سيارتي: (اهدأ يا أخي اهدأ، أنت تأكل نفسك..). لا يجيبني، يشعل سيجارة، يقول بصوت مرتجف: (المصيبة أن الطابور لا يتحرك، وأنا المحبوس في بطن حوت او أفعى أناكوندا، يجب أن أعود إلى المنزل، أمي مريضة، وربما تحتضر.. (https://sixthboroughmedical.com/) يجب نقلها للمستشفى)، يحبس دموعه.

 أحدّث جاري ألذي أعتقد أنني “مسلطن”، يرافقني فوراً إلى المحطة، نصف حالة الشاب للمدير، كان ينهي اشتباكاً بين سائقين كاد يتحوّل إلى إطلاق نار، يقابلنا: لا يمكن أبداً، جميع الواقفين هنا لديهم التزامات، منهم المريض بالضغط او السكّري أو في طريقه لغسل الكلى، أمس انتقل إلى رحمة الله رجل مسن، وآخر أغمي عليه  ونقلوه إلى المستشفى، وقبض رجال الأمن على شاب يتحرّش بإحدى السيدات بهدف التسلية وقتل الوقت، كل واحد هنا لديه مشكلة صحية، أو أسرية، أو عاطفية، اليوم صباحاً طلّق رجل زوجته بعد إلحاحها بطلبه واستعجاله، اصبروا يا شباب، كان الله في عون صاحبكم وعون أمه، انتهينا من مشكلة المجانين وسنُسرع في تعبئة السيارات بالبنزين، إن شاء الله يكفي المخزون، أمس انتهى وطابور السيارات على حاله.

في طريق عودتنا، نشاهد صبيّةً ترقص وشاباً يطبّل، رجلاً يفترش الأرض ويشعل نرجيلته، امرأة تُرضع وليدها، شاعراً زجلياً محاطاً بالناس، رجلاً يجلس على سطح سيارته ويؤذن للصلاة،  شابين يسعفان امرأة تعاني من ضيق في التنفس، بائعي المياه والورود والقهوة وغزل البنات، ومتسوّلين صغاراً وكباراً، إناثاً وذكورا. نتجاوز سيارتينا باتجاه شباب ورجال وصبايا، يشكّلون دائرةً ويفردون قمصانهم وفانيلاتهم ليحجبوا من في الدائرة، نسمع أنيناً تارة وصراخاً وشتائم تارة أخرى، نسأل أحدهم فيجيب: (امرأة تلد.. الحمدلله هناك طبيبة معها. ).

أعود بسرعة إلى سيارتي، اقف إلى جانب الشاب، أطمئن على والدته، يقول: (حالتها سيّئة جداً..). يرن هاتفه، يتردّد في الرد، يتوقف الرنين ليعود مرة ثانية، يتردّد، يخاف، يختنق صوته، يضع الهاتف على أذنه، يستمع فقط: (يجب الخروج من الطابور..).

أستعين بجاري، يتمكّن الشاب من الخروج بسيارته باتجاه المحطة، يصل، تسبقه سيارة فخمة نوافذها سوداء، تعترض طريقه، يصرخ صاحب المحطة: (سنسمح لسيارة واحدة فقط…). يندفع الشاب، يمسك خرطوم البنزين، يصب على رأسه وجسده، يخرج من جيبه ولّاعة، يقدحها،  فتلتهمه الأناكوندا…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *