سجلوا عندكم

ريمون جبارة… و “آلو سِتّي”

Views: 82

 الدكتور جورج شبلي

بالرَّغم من أنّ مسارَ التّاريخ ليس في حالٍ مستقيمة، من الوجهة الواقعيّة، غير أنّ كيانَه لم يتبدّل، منذ ولادتِهِ وحتى السّاعة، كونَه يرتبطُ، حُكماً، بكيان الإنسان الواحدِ الحضورِ والحياة. فالأحداثُ، وإِنِ اختلفَت أسبابُها، وابتُكِرَ أداؤها، وتمايزَت أنماطُها، عبرَ الزّمن، تبقى مفاتيحُها واحدة، ترتبطُ بمعادلةِ الخيرِ والشر، والتي تُختَصَرُ بِ ” الأنا ” البغيضة…

ريمون جبارة ذو النزعة الوطنيّة، كان يحملُ في يدِهِ مقبضاً يُتقِنُ النّقرَ على مفاصلِ الأحداثِ وفواصلِها، بلمسةٍ جريئةٍ صادقة، وكأنّه لاعبٌ أساسيٌّ في حملاتِ المواجهة. إنّ لبنانيّته لم تكنْ تقليداً موسميّاً، فالأرضُ ذاتُ مَدٍّ موصولٍ في حياتِه، وفي لهجتِهِ، وفي قوالبِ تآليفِه، وهو المؤمنُ بعنقائيّةِ لبنانَ، بالرّغم من المِحرقةِ الجنائزيةِ التي فرضَها عليهِ المتآمِرون، بلدِيّين وغرباء.

كان ريمون جبارة، في ” آلو سِتّي ” الإذاعيّة، مليحاً، وبِطباعٍ مرحة، لكنّه لم يُبْدِ وجهَ المودّةِ، في طلّاتِهِ، اتّقاءً لشرِّ النّاسِ الذين أَنطقَ مشاهدَهم في عِبَرٍ تُحرِج ، ولا لسَخطِ المسؤولين الذين قصدَ الى أن تصطكَّ لهم الرُّكَب، ولم يقصدْ رضاهم ليحذرَ كَيدَهم، ويكونَ منهم في مأمَن، فلم يكنْ له من عَيشِهِ إلّا لذّة الحقيقة المتطرِّفة، ولو تأطَّرَت بالخطر، لذلك، لم يتردَّد في أن يُزيلَ عن كلٍّ أمرٍ غطاءَه، وبدونِ موقفٍ فاتِر، حتى قيلَ إنّ كلامَ ريمون جبارة هو زَوابعُ في ضحكة. وغالِباً ما عوتِبَ، ومراراً ما تمَّ تحذيرُه، لكنّه استمرَّ في عصيانِه، فلم يُقَبِّلْ تُفّاحَ خَدِّ أَحَد، ولم يمتثلْ لأيِّ تهديد.

ريمون جبارة في ” آلو سِتّي “، لم يجمعْ بين التُّقى والفُجور، ولا بين ذواتِ الضَّبعِ وذواتِ الحَمَل، وكان يعرفُ، تماماً، إِلامَ يرمي في المَدارِ الذي أقحمَ نفسَه فيه، وهو مَدارُ النَّقد اللّاذع، وكذلك، الأهداف التي اصطلحَ مع نفسِهِ على بلوغِها. لقد أقامَ حواراً مع ” سِتِّهِ ” التي فَوق، بلسانٍ واحد، وبلا ضوابط، وكان يُبلغُها أنّ دربَ الوطنِ كثيرُ الحُفَر، وقد سألَها، في إحدى الجَولاتِ الحواريّة، أن تتقصّى له، فوق، عن ” الغامض ” الغَيبيّ، لأنّ المسؤولين الجهابذة، عندَنا، اعتادوا على أن يغسلوا أيديَهم مِمّا يحصل، وما يحصلُ كَريه، ويُحيلوهُ الى ” الغامض “!!!

لكنّ جبارة لم يقصدْ، مرّةً، تَفادي التّصادم مع ممارساتِ الذين سيطرَ عليهم ” الخَرَف والزَّيَف “، وتربّعوا، بِ ” جَيِّتهُن “، على رؤوس الناس، وتفاسدوا حتى جعلوا البلادَ في حالةٍ متهالكة، فوصفَهم ” بالخَلطة الكِذّابة ” المُطبِقَةِ على الدولة، والتي تُدمِنُ السّرقةَ، والنّهبَ، والسّمسرات، والصّفقات المشبوهة، ما عَوَّمَها فوقَ ثرواتٍ امتصَّت تعبَ النّاس. كلُّ ذلك، بحسبِ جبارة الذي يُقَوِّلُ ” سِتَّه ” المُستَنتِجة، أدّى الى سقطةٍ تراجيديّة للبلاد، وهذه السّقطةُ لها ” أبطال ” يسرحون ويمرحون، وينتشون كَغُرابٍ فوق جيفةِ… وطن.

لقد كان من حقِّ ” سِتّ ” ريمون جبارة، أن تشعرَ بالقَرَف، ولا شكَّ في أنّه انتقلَ إليها بالعَدوى، والقَرفُ ليس مُتَخَيَّلاً، إنّه نتيجةٌ تلقائيّةٌ لحقيقةٍ مُعيبةٍ يتخبّطُ البلدُ بمرارتِها. وقد كانتِ ” سِتُّهُ ” الجليلة، في كلِّ مرةٍ يتفاقمُ قَرَفُها، تَعمَد، فوراً، الى قَطعِ الاتّصال، لتنجوَ من تَراكُمِ الاشمئزاز، فلا يعودُ ريمون يسمعُ إلّا ” توت… توت …”. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *