"الفيس بوك" المنتدى الثقافي-الاجتماعي الأكبر

Views: 135

د. ناتالي الخوري غريب

أصبح “الفيس بوك”  واقعًا حتميًّا، أخرج الكثيرين من عزلتهم الاجتماعيّة، ضمن محاولات تقريب النفوس من بعضها وتسوية التعقيدات العلائقيّة لأنّه ربّما سهّل الشروط التفاعليّة بين الناس، على قاعدة إمكانيّة الهروب وسهولته، أو على قاعدة أنّ الكلمة الجميلة الراقية مفتاح القلوب. من هنا، لم يوفّق كثيرًا من أطلق على عالم التواصل الاجتماعي صفة “العالم الافتراضي”، لأنّه بين المزح والجدّ، أصبح الافتراضي هو العالم الواقعي وهذا الأخير في غيبوبة إدمان.

إذا صحّت تسمية “الفيس بوك” وأخواته وإخوانه عالمًا افتراضيًا، ما تراه يكون العالم الواقعي؟ إذا كانت صداقاتنا وأراؤنا وأعمالنا وحياتنا وصورنا وأشكالنا تحيا في هذا العالم؟ إذا كنا في داخل هذا الواقع نقرأ ونكتب ونشارك ونتشارك ونحاور ونتحاور مهملين متجاهلين من حولنا على أرض الواقع، أو قل هم أصلًا في داخله، وكلّ منا يحمل هذا العالم في هاتفه أو حاسوبه  ويعيش فيه. أمّا الحوار على أرض الواقع فيكون على هذا العالم الذي يسمونه افتراضيًّا، وفيه الواجبات، تعزية وتهنئة، تردّ زيارة اللايك بزيارة لايكيّة، واحتفاليّة الكومنت المدّاح بشكر مدّاح، وأهون الردود على الشتّام زر إقصائي إلغائي، تماما كما في الحياة التي تسمى بالتقليدية، في كلّ المجالات منها، وفيه الصبحيّة على فنجان قهوة، وفيه الأصدقاء مجموعات(غروبات) والمنتديات، وفيه الصور الفوتوغرافية عن الطبيعة وجنونها وجمالاتها، عن السياسة ورجالاتها، عن الحروب وعبثيّتها، عن حالات إنسانية، تفرح لأفراحهم وتحزن لأحزانهم وتسرّ بتخرّجهم وتنتظر تحقيق طموحاتهم، حتّى إنّ بعض الوجوه تفتقد إلى رؤيتها حين تطيل الغياب… وفيه تبادل الآراء، أو المرح وتبادل النكات، والبحث عن المفقودين من الأصدقاء والأقارب، الذين نتجسّس على أخبارهم إمّا حبّا أو حشرية، ويصبحون هم أبطال واقعنا عنهم نتحدّث في مجالسنا ويأخذون حيّزًا كبيرا من اتصالاتنا وأحاديثنا وعواطفنا ومشاعرنا.

لا شكّ أيضًا في أنّ “الفيس بوك” تحوّل إلى أداة تثقيفيّة كبرى، وكأنّي به أصبح منتدى ثقافيًّا كبيرًا يوفّر عليك الذهاب والإياب ولعنة الطرقات، وبخاصّة إذا كان أصدقاؤك من القرّاء أو الكتّاب الذين ينتقون مقالات تعنى بالفكر أو النقد أو السياسة أو السياحة،  فيصبح بذلك “الفيس بوك” دليلًا انتقائيًّا شاملًا لأنواع الفكر المختلفة، يثقّفك ويجعلك مطّلعا على آخر المستجدّات والإصدارات وما كُتب فيها، على آخر المدوّنات والندوات، كلمات المنتدين ومن حضر ومن تغيّب، ويكون بذلك قد تجاوز عوائق الجغرافيا والمسافات وانتصر على ضرورة الحصول على تأشيرات. ولا شكّ في أنّه بات الصالون الأدبي الأبرز، والوسيلة الإعلاميّة-الإعلانيّة الأكثر قراءة وانتشارًا.  فجميع الشعراء والروائيين والفنّانين المحترفين أو المواهب الشابّة، في صالون واحد، الكلّ يكتب ويرسم، الكلّ ينشر، الكلّ يقرأ، الكلّ يمارس النقد، وهذا أمر مهمّ يسهم في تعرّف الناس جميعًا إلى نتاجهم مع تكافؤ الفرص في التأثّر والتأثير والتعلّم. وطبعا عدد اللايكات لا يحدّد بالضرورة أهميّة الكاتب، كما أنّ عدد الحضور في ندوة ما لا تحدّد قيمة الكتاب. فالواجبات هي هي.

لقد أصبحت صفحاتنا مرآة لواقعنا، وأقوالنا حُكْمًا انعكاسًا لأحوالنا، فيشكّل الفيس بوك مرآة المرء في حياته اليوميّة وكيفيّة معاملاته ولياقاته وصداقاته، فسريع البديهة وصاحب النكتة الظريفة هو هو، والصادق لا يمكن أن يبطن عكس ما يظهر، لأن الفيس بوك فضّاح نفسيات وخبايا وخفايا، كذلك هناك الذي يحبّ أن يعجب الناس بكلّ ما يقول، ويعتبر نفسه أكبر من أن يضغط على زرّ الإعجاب بأحد ظنّا منه أن “لايكته” شهادة عظيمة يخشى عليها الهدر.

أيضًا وأيضًا، تجد من يقضي معك ساعات وسهرات، ولا يريد منك أن تعرض صورته معك أو مع بعض الحاضرين، لأنّه ربّما يخشى  أن ينتقص من قيمته ظهوره في صورة برفقة الحاضرين، وتراه لا يكلّف نفسه عناء كتابة تعليق، فيستسهل الاتصال على أن يكّلف نفسه عناء لايك، لأنّه يظنّ أنّ هذا ينتقص من سمّو مكانه.

أمّا المحبّون، فتراهم هم هم، في الحياة وعلى الفيس بوك، والمبغضون هم هم، والحشريون هم هم، وقس على ذلك صورة المدّعين والمتفاخرين والمتواضعين.

   لا يمكننا أن ننكر أيضًا أنّه بات الوسيلة الإعلاميّة الأكثر فعاليّة، فدوره في الثورات العربيّة لا يمكن أن يغضّ الطرف عنه، ودروه في الحملات الاتهاميّة أو الدفاعيّة لا يغيب، كذلك يعدّ وسيلة الترف الأكثر تسلية، ووسيلة التثقيف الأكثر سرعة، ووسيلة الاتصال والتواصل الأكثر اجتماعية، فمن كان يعيش وحيدًا بات يشعر أنّه محاط بالأصدقاء الذي يسألون عنه، ومن كانت تحوجه العاطفة بات يجدها عند أشخاص ما يحوطونه، لم يكن الوصول إليهم أمرًا متوقّعًا.

هكذا، أصبح الفيس بوك مائدة كبيرة يحلّق حولها الكبار والصغار ومَنْ بينهما، فيها الصلاة والدعاء وفيها الراحة والغذاء غثّه والسمين في مختلف الميادين، وما عاد عيبًا أو سوءًا الإدمان عليه، المهمّ أن يعرف المرء كيف يفيد نفسه ويتثقّف ويقرأ ويستمتع مع الذين يقضي معهم ساعاته، ويشاركهم أفكارهم ويشاركونه تطلّعاته، نقاشًا وتحليلًا وقراءة.

 صورة

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *