تكريم الأديب والباحث والمؤرخ وجيه كوثراني في الجامعة الأنطونيّة

Views: 12

سحر نبيه حيدر
هو حدثٌ، يترصَّده كلّ من تاقت نفسه إلى لثم الثقافة كأساً تدير العقول وتذكرنا بأننا على الأرض حملة أقلام وأصحاب رسالة. هو المكان، الإرث الحضاري الذي يهدف منذ بزوغه إلى بناء العقل ولملمة الأحرف المبعثرة ونفخ روح المعرفة، علماً، أدباً، إجتماعاً، إرتقاءً، ثقافةً وموسيقى. إنه اللقاء العهد الذي عهدناه مع “إرادة” الجامعة الأنطونيّة في لمّ شمل الأحباء في كلّ عام، للإحتفاء بعلمٍ من بلادي، من الألى وَعَوا الوجه الحقيقي للحياة ونهجوا نحو الإرتقاء، فمهّدوا الطريق وسَقَوا العقول فبات إسمهم “إسم علم”[1].
“إسم علم” مبادرةٌ رسمت الرهبنة الأنطونيّة كبرى عناوينها وخطّت أدق تفاصيلها، من خلال جامعتها الأنطونيّة التي لا تتوانى عن مقارعة أهل الفكر لتستزيد منهم رفعةً ومكانة، مشيرةً بالبنان إلى بعضٍ من لفيف لا يستهان بعبقرية تفكيره، من رواد الإبداع وحراس هيكل الثقافة والحضارة العلميّة، في زمن تكافلت الشدائد على حرق الوطن بغوغائية الطائفية وسُحبت العقول إلى الدرك الأسفل حيث اللادولة واللاإستقرار، ما خلا مَن رسموا التاريخ بشفافيّة وأدركوا أنّ البقاء لله وحده وأن لا نصرة إلا للحقّ، وأنّ طائر الفينيق لا بد وأن ينهض في وطنِ إعتاد اجترار الألم. حيث كلمة ” الإستسلام” مغيّبة من قواميسه والرّضوخ أمسى سلّماً مَشَقه طلاب الغدّ وتخطاه بجرأةٍ دعاة العلم والإنسان.
البحث العلميّ الأكاديميّ
تدعونا الجامعة الأنطونيّة إلى وليمتها السنويّة إلى لقاء ضيف شرفٍ ، صاحب فكرٍ نيرٍ، لقّن التواضع درساً بالتواضع حين اتّخذ البحث العلميّ الأكاديميّ نبراساً يأبى التنازل عنه. ما غرّته المناصب وما قضّ مضجعه يوماً غير التنقيب عن الحقيقة وماهيّة تدريب من مشوا إلى جانبه على إعتناقها. فلمع اسمه باحثاً تاريخياً في أقطاب العالم العربي وعلى امتداد مساحته، وأضاءت كُتبه ” الدياجير” المبهمة، متّخذاً نهج البلاغة الصادق وروح المعرفة المتجرّدة ليقدّم لخلانه ورفاق عقله، ما تصبو إليه النفوس العطاش.
أنه الأديب والباحث والمؤرخ وجيه كوثراني، اللبنانيّ الأصل، الإنسانيّ الفروع، لأسرة إختارها القدر أن تكون من جنوب لبنان، من قرية طبعت في ذاكرته حبّ الوطن والتوق إلى الحرية، قرية  “أنصار”. حمل التاريخ في قلبه وطوّعه واختصر الطريق على من هفا إليه ليطّلع على ما غاب عنه، فأوفى التاريخ حقه بعد أن توّج دراسته بشهادتي دكتوراه، إحداهن في التاريخ من جامعة باريس الأولى والثانية بالآداب من جامعة القديس يوسف. إنضمّ إلى الهيئة التعليميّة في كليّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة ، وله من المؤلفات ما يُستزاد به دون ارتواء نسوق منها:  تاريخ التأريخ: اتّجاهات، مدارس، مناهج ؛ بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه: الدولة والمواطن؛  هويّات فائضة.. مواطنة منقوص ؛ مدخل إلى علم التّاريخ: التّأريخ ومدارسه في الغرب وعند العرب؛ مشروع النّهوض العربيّ وأزمة الانتقال من الاجتماع السلطانيّ إلى الاجتماع الوطنيّ؛ السّلطة والمجتمع والعمل السياسيّ من تاريخ الولاية العثمانيّة في بلاد الشّام؛ المسألة الثقافيّة في لبنان: الخطاب السياسي والتّاريخ؛ الاتّجاهات الاجتماعيّة والسياسيّة في جبل لبنان والمشرق العربيّ…
ميدانه فضاءٌ عربي لا أفق له، إتّخذ لنفسه وسيلةً لرصد الحقيقة : “الإشتغال على الفكر” ورأى أن التاريخ لا يعيد نفسه وفقاً لنسخ مكررة ” فثمة تحولاتٍ قد تكون هجينة، فتشير حقيقة أو وهماً إلى تداخل المراحل وتتابعها وبالرغم من أهمية الوعي والخبرة التاريخيّة في عمليّة التعلّم من الزمن، إلا أن الشعوب قلّما تستفيد من تجاربها التاريخيّة”. ساعدته الموسوعيّة الفكريّة على الإنفلاش الثقافي فآمن أن حدود التاريخ وفهمه لا يقتصران على التخصّص بعينه، فالأرض جزء من التاريخ بكليّتها، والأدب بجزله وضعفه جزء من التاريخ، والتاريخ معرفة منها يستقي معالم الحياة، ولا يمكن لحضارة من الحضارات أن تحتكر ” وحدها إنجازات المعرفة”.  كما أنّ المنهج التاريخيّ  ذاته ليس ثمرة زمن واحد ونتاج حضارة واحدة، إنما هو موضوعٌ دائمٌ لقواعد وضوابط وتقنيات سُعِيَ ويُسعى إليها على نحو دائم.
سحر الكلمة وفنونها
إنّ الحديث عن رائدٍ من رواد العلم والثقافة أمثال وجيه كوثراني لا يحتاج إلى سحر الكلمة وفنونها إنما إلى الكثير من الرهافة في إنتقائها وصوغ العبارات،  لما في نتاجه من جواهر تذهب بالوعي، فيخشى من عَزَم على سبر أغوار ديانته الخاصة من شتات عقلٍ إن كان ضعيف القلب، أو زلةٍ قلمٍ ما لم يكن ملكاً. من تعرّف إلى وجيه كوثراني – وإن عبر قراءة كتاباته – يخاله فيلسوفاً إذا ما أراد بلورة الأفكار ونحت المفاهيم ويلمس في تصرفاته شغف الأديب إذا ما أخرج للناس السرديات الكبرى أما من ناحية صياغة تراجم الشخصيّات الكبيرة  فهو يتصرّف كعالم نفسٍ، وكعالم اجتماع، في تشريح الوقائع الإجتماعية ناهيك عن منافسة أهل الصّحافة إذا ما أراد توصيف الأحداث الحقيقيّة. وهو معلّم حقّ ممن نوه بهم أحمد شوقي حين قال” قم للمعلّم وفّه التبجيلا، كاد المعلّم أن يكون رسولا” رسولَ قدوة، يفاخر به الفكر وتتماهى فيه الثقافة. نسي بصماته في عقول من تتلمذوا على يديه- كان لي النصيب من وَسمِها- وكان المعلّم والرائد المتميّز الذي حمله حبّ الآخر إلى مرافقته على درب التعلّم فحمل المشعل ومهّد الطريق لجيل الغدّ مؤسساً بذلك مدرسة جديدة في تأريخ التاريخ وفهمه بهدف إصلاح ما أفسدته” أيديولوجيّة” التفكير المنمّط.
إنّ من تنسّك في صومعة الكلمة، ليلُ بحثه لا يغيب قمره، وخيره غيضٌ من فيض يعطي للحياة معناها، وعبر كلماته يأخذ الوجود معناه فتبقى كتاباته لقَبس العلم منائر تنافس الفجر خصوبةً ورؤى. “رجلٌ في وطن، وطنٌ في رجل” انتدب نفسه لعبور خضم الصَّعب بإرادة لا تقهر. تفور في حناياه نار العروبة لتحرق جهل الإدّعاء المعرفي فبات نموذجاً لغدٍ ما زال يعيش بيننا. (Adipex) حين سُئل يوماً عن ” العلمانيّة” وعلاقة الدّين بالسياسة أجاب بجرأة الفقيه وبراعة الباحث أن ” العلمانيّة تعني أول ما تعنيه في حياتنا السياسيّة والمدنيّة، وقبل دلالاتها الأخرى التي هي موضوع نقاش وآراء وإتجاهات- تعني التسامح- بمعنى قبول الآخر”. وباعتقاده أنها السبيل إلى وضع حدٍ لمن ” نهجوا الإستقواء” بالدّين في الشأن السياسي والمدني والشخصيّ ولكن “ضمن شروط”.
***
ولأنّ قائمة وصفه تطول لما أنجزه في شتى الحقول نخشى أن لا ندركه، ونكتفي بقطف بعضٍ من زهور حدائقه، باقة عطرٍ وألوان تشي بما هو أكثر سخاءً وجمالاً وزهاءً وندعو كلّ من اشتاقت نفسه إلى الثقافة للمشاركة في إحياء عرس الثقافة في أحضان واحة الجامعة الأنطونيّة علّنا نتزود بما اختاره لنا حملة الأقلام من جعبة الضيّف المكرّم وعلنا في غيبة الصفاء نركن إلى التأمل ونصقل عقولنا ببعضٍ من التبر ونستعيد وهجاً كدنا نفقده في عالمِ” التعدديات الفارغة” إلا من وهم الحقيقة.
وجيه كوثراني “إسم علم” يليق بك أيها المحتفى به في دارٍ اعتادت إكرام أهلها، وهنيئاً لمن انضوت مكتبته على غنى كتبك واستزاد من نبعك فانتعش. ليتنا نستعير جرأتك في تعرية المواقف ونقتبس من نهجك لنسير على طريق الخلاص ” في ظل دولة شموليّة تسلطيّة” حيث “القبيلة والعشيرة” أضحتا سيّدتا الموقف.
 
[1]– حفل تكريم المؤرخ وجيه كوثراني، ضمن المبادرة السنويّة التي أطلقتها الجامعة الأنطونيّة في العام 2008 تحت عنوان “إسم علم” وذلك يوم السبت الواقع في 21 حزيران 2014 الساعة السادسة مساءً في الحرم الرئيس للجامعة الأنطونيّة في الحدت- بعبدا
كلام الصور: 1-  المؤرخ وجيه كوثراني 2- الشاعرة سحر حيدر 1- غلاف الجزء الثامن من سلسلسة “إسم علم”، بعنوان “وجيه كوثراني مؤرخ البنى والتحولات”صورةصورةصورة

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *