بلا تحفّظ” لـ نادين طربيه الحشاش..

Views: 595
د. نادين طربيه الحشاش
د. نادين طربيه الحشاش

إسبانيا-د. محمّد محمّد خطّابي:

“غِبتُ بكَ عنِّي فأيقنتُ أنّكَ أنِّي..صمتي يدمن همسَك.. لا زيادة كنقصاننا.. نتلاصق… نتشرّد… نعود.. كلّ ما فيّ يتشظّى فيكَ.. كلّ ما ينهبنا يصلبنا يشفينا.. أنتَ لي… كجنوني.. كشهواتي.. كهدير الحنين في كبدي….!

إلى آخر هذه القصيدة الجميلة التي تذكّرني بإفصاحات الشاعر الكولومبي ألفارو موتيس فى قصيدة له بعنوان “الصّمت” كنت قد نقلتها إلى اللغة العربية منذ بضع سنوات خلت والمُدرجة فى كتابي “حجر الشمس .. ثلاثون قصيدة من الشّعر الأميركي اللاّتيني المعاصر” الصّادر عن المجلس الأعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة بالقاهرة 2001)…  ممّا جاء فيها: يخيَّل إليّ أحياناً أنَّ ساعة الصمت قد أزفتْ /أن أترك جانباً الكلمات/ تلك الكلمات المسكينة المستهلكة /حتى آخر نبراتها المهانة مرّة ومرّات/ حتى ضاعت منها أقلّ رموز دلالاتها الأصليّة/في تسمية الأشياء والكائن والمناظر والأنهار /ومشاعر الرّجال الزائلة وهم يمتطون خيولَهم المسوّمة/ المزدانةَ بألوان الزّهو والفخار/ / في الصّمت، قالها رَامْبُو ذات مرّة، ينبغي للقصيدة أن تقطن/ يُخَيّلُ لي أحياناً أنّه قد حان أوانُ الصّمت/ إلّا أنَّ هذا السّكوت سيكون عندئذٍ تكريماً غيرَ لائق /وفضلاً فائق الوصف لا أظنني أستحقّه بَعْدُ حتى الآن!.
لست أدري كيف عادت بي قصيدة الشاعرة المبدعة الدكتورة نادين طربيه الحشاش إلى قصيدة ألفارو موتيس، هل لأنّ مطلع كلتا القصيدتين ينطق أو ينطلق من الصّمت..؟! فصمت د. نادين فى قصيدتها الرائعة يدمن الهمس، والهمس ضرب من الغنوص المههوس، أوالصّمت المهموس المنطوق بأقل وأخفّ حشرجات الحبال الصوتية الخافتة فى اللهاة.. والمنتهية فى أطراف الشفاه التي تكاد أن تكون مُطبَقة..وفى قولها ( لا زيادة كنقصاننا) تردّنا إلى الشاعرالأندلسي أبو البقاء الرُّندي (نسبةً إلى مدينة رُندة الإسبانية ) الذي يقول فى نونيته الشهيرة: (لكلِّ شئٍ إذا ما تمّ نقصانُ / فلا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ) ..فى هذا السياق الشاعري الجميل تأبى الشاعرة المُجيدة إلاّ أن تفجّر فى مآقينا ،وتحيي فى جوانحها أعمق المشاعر التي تختلج فى ثنايا أضلعنا، فالتلاصق، أو الإتصال، يعقبه الإنفصال أو الفراق، الذي قد يبلغ أشدّ أنواع المعاناة التي تفضي بنا إلى التشرّد أوالتجرّد والإنسلاخ أو الإفصاح عمّا فى دواخلنا من آهات وتطلّعات.. ولكن سرعان ما تأتينا النجاة منسابة على قدر مُشعلٍ على شفاهنا.. بالرجوع أو العودة إلى الخلّ، وما أحلاها عودة ،ذلك أنّ كلّ ما يعتمل فى أعماق الشاعرة ” يتشظّى” ويتلظّى فيه.. وكأنّ لسانَ حالها يقول: لقد غبتً بك عنّي، فأيقنتً أنّك أنّي.. وهي أعلى مراتب التوحّد أوالإتحاد النيرفاني عند المتيّمين الوالهين الهائمين الغارقين فى أعمق أعاميق يمّ العشق والهوى وبحورالحبّ والجوى،”وداوني بالتي كانت هي الدّاء” ! فالشّفاء كامن فى الصبّ والصّبابة، فيه شفاؤنا ،ودواؤنا، وبلسمنا، وهناؤنا ، وملاذنا ،ومنتهانا.. .. (المحبوب.. كجنونها.. كشهواتها.. كهدير حنينها المنبعث من بين أعطاف وأطراف كبدها.. فلا يحلو لها أيّ عيشٍ في غيابه.. وهي لا تكتمل إلاّ معه، ولا تمتلئ إلّا به.. وهي تؤكّد لنا كذلك قطعيّاً من باب توارد الخواطر، أووقوع الحافر على الحافر ما سبق أن تغنّى به الشّاعر التشيلي المُعنّى بابلو نيرودا فى ديوانه ” عشرين قصيدة حبّ” والذي إنجلي فى تجليّات الشّاعرة الإسبانية خوسيفينا عطّار وهي فى قاعة الإنتظار بالمشفى لإجراء عملية جراحية صعبة .. وبيدها “عشرون قصيدة حبّ” كعكّازٍ لهمّتها، ولآلامها، وتباريحها، (أنظر مقالنا عنها المنشور مؤخراً فى جريدة ” الأنوار” الزّاهرة)..

الدكتورة نادين تباعدت، وتدانت، وأبدعت، وأمتعت، وأجادت ثمّ تساوت فى آخر المطاف مع الشاعرين حسّاً رقيقاً، ومعنىً شيّقاً رشيقاً.. فأكّدت لنا برمزيةٍ عميقة فى ديباجة قصيدتها أعلى مراتب المحبّة، وأسمى منازل العِشق إذ من فرط الإنتظار الطويل..يتولّد الشّوق العارم حتى ولو جرّها مع ( المخاطَب المتيَّم) (كشهيديْ حربٍ، كشهيديْ حبّ، أو كشهيدي عشق..) ها هوذا فجرهما يتسلّق الألمَ حتّى القيامة، إنها تتمسّك به، تتعلّق بتلابيبه،فمعه لن يعرفها الغرق، يحملها فوق كفّه كطفلته…كحلمه… ككرامته، فالأملُ وطيد لتتعرّف إليهما أمّهما الحياة..!
ألف مبروك على هذا الإشراق والإبهار، والإمتاع والإبداع.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *