قصّة قصيرة

Views: 47

تَنوِيعَاتٌ مُختَلِفَة علىَ أَوْتَار الكَآبَة

khattabi
د. محمّد م. خطّابي

مدريد – د. محمّد م. خطّابي*

oudayas6

الشاطئ يمتدّ عبر المدىَ البعيد، الصّخورالمُدبّبة تملأ المكانَ حتى ليتعذّر على المرء المشي بمحاذاة السّاحل إلاّ بحَذرٍ شديد، الأمواج الهادرة غاضبة مُزبدة، تتلاطمُ على الصّخور الكبيرةَ التي تواجهها في صمودٍ حادٍّ عنيف، يتطاير رذاذها المتناثر في كلّ إتجاه . أخذ بعضُ الصيّادين أمكنتهم المعتادة بين الصّخور، ينظرون إلى ثبج البّحر في صبر، وإصرار، وأناة، حتى ليخيّل للناظر إليهم أنّهم تماثيل حجرية منصوبة على أشكال مُجسّمات أدمية متباينة منذ أقدم العصور.

port

بعض السّكارى يتكوّمون عند مدخل مغارةٍ مظلمة، يحتسون في سلام أردأ أنواع النبيذ، يحدّقون في البّحر، ولكنّهم يلتفتون بين الفينة والأخرى صوبَ ناحيةٍ من نواحي الشاطئ المترامي الأطراف، الذي تمتدّ على مقربة منه طريق طويلة تؤدّي إلى سوق الخُضر، وإلى ضريحٍ تعلوه قبّة ناصعة البياض، يقع بمحاذاة الشاطئ، أكثرُ روّاده ممّن هم واقعون تحت وطأة الخرافات، والأضاليل، والشعوذة، أو ممّن بهم جنون، أو مسّ، أو مروق، أو من الإناث اللاّئي يبحثنَ عن فارسٍ من فوارس الأحلام، بعد أن خانهنّ الحظّ في العثور على شريك العمر، إذ في إعتقاد السكّان أنّ من قصدت منهنّ هذا الضريح لا يحولُ عليها الحولُ حتى تصبحَ في عِداد المتزوّجات..! في هذا المكان تقام ما يُعرف عندهم بالحضرة، وعلى أنغام موسيقى الكناوة الصّاخبة تهتزّ، وتتمايل أجساد النساء والصّبايا، قبل أن يتبرّكن بدماء الذبائح والقرابين لطرد السّحر، أو إبطال مفعول الثقاف المعقود على أجساد الضحايا البريئات.

mario-scolas-2471-1

*   *   *   *   *

على الجانب الأيسر من الشاطئ تنتشر دور الصّفيح، وأكواخ الخشب المختلفة الأشكال والأحجام، وغيرُ بعيدٍ يوجد الحيّ الشعبي الذي يحمل إسمَ دفين الضريح الوليِّ الصّالحِ “سيدي موسىَ”. عند كلّ مساء يخرجُ السكّان، قبيل غروب الشّمس إلى أبواب أكواخهم ليهيّئوا بعضَ الطعام، وقبالة كلِّ بيتٍ من هذه البيوت مجموعة من الأطفال الصّغار عراة إلاّ من سترات رثّة، وأردية بسيطة تقيهم لفحاتُ البّحر القارصة، كلّهم تبدو عليهم الفاقة في أحلك وأحطّ صورها، مُعظمهم يصرخ لأسبابٍ أو بدونها، وفوق سطوح البيوت المتواضعة نُشرت بعض الألحفة والحُصُر منذ الصّباح الباكر لتُبعِد عنها أشعّةُ الشمس آثارَ رطوبة اللّيل، وبلله، وبرودته التي تحوِّلُ ليلَ السكّان إلى عذابٍ مقيم حتى الصّباح .

gnawa-marrakech

بعيداً عن البحر تمتدّ بعض المراعي والحقول، التي ظلّت جرداءَ، قاحلةً، يابسة على الرّغم من أنّ الفصل كان ربيعاً..! وفي بعض جوانبها ترعى أسرابٌ من الحيوانات من أبقار، ومعز، وأغنام، ودوابّ بقايا الكلإ، والحشائش الجافة، تبدو هزيلة، نحيلة ومُرهَقة.. وحول جدران أطلال بالية مهدّمة تتسكّع بعض الكلاب السّوقية الضّالة، تشمّ الأرضَ، وتحشرُ أفوفَها أسفلَ أجداعَ الأشجار بدون إنقطاع، في عصبيّة وتوتّر وهلع، وعبر الطريق الطويلة الممتدّة نحو السّوق والضريح تمرّ بين الفينة والأخرى بعض العَرَبات المُحمَّلة بأنواعٍ مختلفةٍ من الخُضر، والفواكه الموسميّة، وبعضُ الدرّاجات النارية، والعَجَلات، وبعض المارّة .

marrocos-kasbah-oudaya-rabat-luis-filipe-gaspar

هذه الصّورة المتداخلة والمتعدّدة المشاهد، لا يمكنك أن تظفر بها في مختلف أرجاء هذه المدينة البيضاء العتيقة، مدينة الأولياء والصّالحين المحاذية لوادي أبي رقراق إلاّ إذا جلستَ عند مقهى الحاج علاّل، الذي كان موفّقاً في إختيار هذا الموقع حيث نصبَ بعضَ الأخشاب المهترئة ليقيم بها شبهَ مقهى متواضعة يؤمّها بعض المارّة، وعشّاق البّحر، ولكنهم قليلون جدّاً بالقياس إلى الأكوام البشرية الهائلة التي تقطع الطريقَ الطويلة كلّ يوم بدون إنقطاع منذ الفجر حتى آخر النهار.

daily-100516-3

*   *   *   *   *

أخذتُ مكاني كالعادة على مقعدٍ مُنحنٍ من المقاعد الخشبيّة القديمة الموجودة عند مدخل المقهى التي غيّرَ أشكالَها البللُ، وكستها رطوبةُ البحرلوناً رماديّاً باهتاً، وأضفتْ عليها شكلاً دامغاً بالياً مهترئاً، فإذا بالحاجّ علاّل يُسرع نحوي هاشّاً باشّاً وهو يقول بصوتٍ مبحوح :
– أهلاً بالأستاذ..مرحباً لم أرك منذ مدّة ..؟
شكرته على ترحيبه، وملاطفته، وطلبتُ منه كوباً من القهوة المُرّة الخالية من السكّر أو السّكارين..عاد إلى داخل المقهى يجرّ الخطىَ بتؤدةٍ، وتثاقل . https://macularetinavitreouscenter.com/ كان الحاج علاّل رجلاً بديناً، ضخمَ الجسم، يرتدي سروالاً مغربياً تقليدياً أصيلاً يزيد من بدانته، يطلق عليه أهل البلد “القندريسة”، لم أفكّر قطّ في إقتفاء أصل، أو أثل، أو جِذر هذه الكلمة.. وحول خصره يلتوي شالٌ أحمرُ اللون قانٍ بدأ البلىَ يدبّ فيه، وقميصاً بالياً رثّاً لا ترتاح العينُ لرؤيته، وتغطّي فروة رأسه قلنسوة في لون شاله تلفّها عمامة بيضاء اللّون يشبك حواشيها بدبّوس عند أعلى القلنسوة، على طريقة لبس أهل الشّام . وأوّل ما تصيب العينُ من هذا الرّجل البدين هو شاربه المعقوف الكثيف الأشيب الذي يحجبُ فمَه الصّغير، كما أن ّ حاجبيْه كانا كثّيْن أشيبيْن يكادان يغطّيان عينيْه لولا أنّه يرفعهما نحو الأعلى عندما يتحدّث، ويصعبُ عليك إدراك إذا ما كان الحاج علاّل سعيداً أم حزينا إلاّ من جرّاء حركات رأسه.

*   *   *   *   *

عاد إلى داخل المقهى، وسرواله الفضفاض يجعله يبعد قدميْه عن بعضهما عند المشي وهو يهزّ رأسَه فرحاً جذلاً بمقدمي. لقد تعوّدتُ زيارة هذا المكان لكونه كان مرتعَ صباي وطفولتي، ويصعبُ على المرء أن يطرد من ذاكرته بقايَا الماضي، ورواسبَ الطفولة البعيدة، وأشلاءَ الزّمن الغابرالتي تظلُّ عالقةً، لصيقة بأهداب عقله الباطنوماثلةً نصبَ عينيْه إلى أن يوارىَ التراب.
إنّني لست أحسن حالاً ممّا كنت عليه من قبل. حتى ولو أصبحتُ أحمل لقباً أمقته لأنّه لا يمنحني صفتي الحقيقية، ولا يزيد في فتات مرتّبي الشّهري المتواضع حبّة خردل، فأينما حللتُ أو إرتحلتُ أو أقمتُ أجده أمامي، فأنا أستاذ عند الجزّار، أستاذ عند البقّال، أستاذ عند الخُضري، أستاذ عند الحدّاد، أستاذ عند الإسكافي، وأستاذ عند الحاج علاّل، جميع أهل مدينتي الصغيرة يلحقون بي هذه الصّفة، وإن أنا في الواقع إلاّ “مدرّس” بسيط يلّقّنُ الأطفالَ الصّغارَ أبسطَ المبادئ الأولى للكتابة والهجاء..
كان والدي صيّاداً ماهراً، كان ذا قوّةٍ وصبرٍ عجيبين فقدهما مع مرور الزّمن، وتقدّم العمر وبتأثير رطوبة البّحر، وصقيع الليل، وطول السّهر، وذاك الدّخان الرّخيص اللعين القاتل، ولكنّه، مع ذلك، كان يوفّر لأسرتنا معيشة أكثرَ رخاءً ممّا أوفّره لها أنا اليوم..!

story-4

منذ أن توفّيّ والدي أصبحتُ العائل الوحيد لأخواتي الصّبايا الثلاث اللاّئي فاتهنّ قطار الزّواج، ووالدتي العجوز، ولزوجتي وولدي الوحيد، وحتى ولو إنتقلنا للعيش في مدينة مجاورة لهذا المكان، فإنّه كثيراً ما يحلو لي أن أزوره بين المرّة والمرّة.

*    *   *   *   *

حضر الحاج علاّل وقطع عليّ حبلَ تفكيري بسُعاله الجريح المُحشرج الذي يخيّل لسامعه وكأنّه يُخفي مرضاً فاتكاً بين ثنايا ضلوعه. وضع الفنجانَ على الخشبة المتآكلة الموضوعة أمامي، وهزّ رأسَه معتذراً عن نوبة السّعال التي عاودته وانصرف.
أحسستُ بنوعٍ من الإشمئزاز من القهوة التي حملها إليّ، وتخيّلتُ أنّه أصابها برضاب فمه أثناء السّعال، ولكنّي مع ذلك لم أجد بدّاً من شربها، فصرتُ أحسوها ببطء، وأشعلت سيجارة، من نفس الصّنف الرّديئ الذي كان يدخّنه بشراهة والدي، وطفقت أسرح بنظري، وفكري، وخيالي هنا وهناك حول تلك الصّخور المُدبّبة، التي حفرها تحاتّ البّحر، ومرور الزّمن بالثقوب، وملأها بالتجاويف، و تمتدّ على يساري المراعي البئيسة التي كانت يوماً مّا مرتعاً لطفولتي البعيدة، وملاذاً لسعادتي وأفراحي الصغيرة. وتدور في مخيّلتي أشرطة الذكريات، وأنا أهزّ رأسي أسفاً وحسرةً على فقدان ذلك الوقت الذي ولّى، ومضى، وإنقضى وليس له إيّاب. وعلى النقيض من ذلك تولّدتْ في نفسي فجأة سعادة غامرة عابرة دبّت كدبيب النمل في كلّ جسمي، فتناسيتُ قليلاً البيتَ ومشاكلَه، وزوجتي، وولدي، وأخَوَاتي الثلاث، ووالدتي العجوز، ونسيتُ الدّنيا وكلّ ما حولها.
– آه يا والدي العزيز كيف خلّفتَ وراءك ولداً وثلاثَ بنات..؟ ألم تفكّر في المستقبل ..ولكن أنَّى لك ذلك..؟ ثمّ إنّ الذنب ليس ذنبك، فليس أقسى عليّ أن أرى هؤلاء البئيسات القعيدات، وهنّ يسرعن الخُطىَ كلّ يوم إثنين مُهرولاتٍ لملاحقة عربة من العربات التي تجري حاملة فوقها أكواماً من النساء، والذبائح، والقرابين، من خرفان، وتيوس، ودواجن، وسوى ذلك من الزّاد والمُؤن إلى هذا الضريح، لعلّ اللهَ يسهّل عليهنّ أمرَ الزّواج .!
مذ كنتُ صغيراً وأنا أرى ذلك المنظر الذي كنت فيما مضى أومن به إيماناً راسخاً من أعماقي . غير أنّ إيماني به اليوم إندثر وتلاشى تماماً عندما عايشتُ تجربة أخَوَاتي اللاّئي أخفقنَ جميعُهنّ في العثور على زوجٍ صالحٍ أو طالح، وهنّ من أكثر الصّبايا إرتياداً لهذا المكان..!.

*   *   *   *   *

كانت الأفراح بهذه المنطقة تكتسي صبغة غريبة من الحزن والكآبة، فقد كان محظوراً على السكّان أن يَضحكوا بأصوات عالية مُجلجلة،  أو أن يُغنّوا، أو يزغردوا، أو يَرقصوا بتبرّج إحتراماً لقدسية هذا المكان الذي تُقام فيه طقوس غريبة من السّحر، والشعوذة، والدّجل، والخرافات، والغيبيّات، لذا قلّتِ الإبتساماتُ فيما بينهم، وملأت الكآبةُ والحزنُ، والوجومُ والشّجنُ والترقّبُ وجوهَ الجميع .
OLYMPUS DIGITAL CAMERA
كانت الشمس آيلة نحو المغيب، وبدأ قرصُها الأحمر الذهبيّ يدنو من الأفق البعيد رويداً رويداً، وصار يختفي بين السّحب الداكنة، والغيوم الملبّدة شيئاً فشيئاً، وطفقت بعض البيوت تغلق أبوابَها الصّغيرة، وبدأ عدد الأطفال يقلّ تدريجياً، كما أنّ الأبقار، والمواشي، والدوابّ تستعدّ هي الأخرى للعودة إلى إصطبلاتها من حيث أتت.
الكلُّ في حركةٍ دائبةٍ، وفى هرولةٍ وعجلةٍ من أمره، إلاّ أنا فقد خيّل لي في تلك الهنيهة أنّني كنت أستمتعُ بأسعد لحظات عمري. بينما أنا على تلك الحال إذا بموكبٍ يتراءى لي من بعيد، فَخِلتُه بحكم العادة أنّه موكبُ إحتفالٍ إمّا بعقيقة، أو إعذار، أوعرس أنهى مراسيمَ التبرّك بأعتاب الضريح الصّالح وهو عائد من حيث أتى. فتسمّرتْ عيناي محدّقتين في ذلك الحشد البشري الهائل القادم نحوي، وجالت الذكريات من جديد بخاطري، فتمثّلت أمامي أيّام الطفولة البريئة، وهنيهات الصّبا الأغرّ، أيّام َ مَا كنتُ صغيراً أركضُ وراء هذه الجموع الغفيرة لعلّي أظفر في الأخير ببعض الحلوى أو الأكل الذي غالباً ما كان “الكُسكُس”، وصرتُ أرقب الحشدَ عن كثب، والبسملة لا تفارق شفتيّ . كانت أصواتُ الموكب تنتهي إليّ من بعيد متداخلة، لم يتبيّن لي مدلولها بعد، ووجدتُ نفسي في حالةٍ من الذّهول، لهذه الصّدفة الغريبة التي سأزداد بها متعة لا شكّ، واصلَ الحشدُ مسيرتَه البطيئة في إتّجاهي، وما أن دنا منّي حتى داهمني صوتٌ جهوريٌّ رهيب أحال إبتسامتي إلى وجوم، وجَذلي إلى خشوع :
– البقاء للّه .. ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله..

كان الجميع يردّد هذه الكلمة في رتابة، وفى آلية، ولا مبالاة غريبيْن، كان النعش يتوسّط عربة حصان، وكان الحصان ذميماً هزيلاً، ونحيلاً تعلو عنقه الكدمات، لابدّ أنّه كان حصاناً مريضاً أو عجوزاً، كان يمشي الهُوينى، ويهزّ رأسَه من أعلى إلى أسفل بدون إنقطاع، حول النعش إلتفّ جمعٌ غفير من المُشيّعين، وقد إتكأوا بلا إكتراث على المَحمل وهم ينظرون إلى الغادي والرّائح مردّدين بشكلٍ متوالٍ رتيب نفسَ الكلمة المُرَخّمة المألوفة :
– البقاء لله.. ولا حولَ ولا قوّة إلاّ باللّه..
كان الناظر إليهم يحار فيما إذا كانوا حقّا حزانى أم لا..!
تابع الموكبُ طريقه في لامبالاة، ولم يلتفت أحد إلى الموكب الجنائزي، ظلّ الصيّادون في وضعهم السّابق، أصوات السّكارى لم تنقطع عن الوشوشة والعربدة، صيحات الأطفال بقيت كما كانت عليه من الصّراخ والصيّاح، نباح الكلاب لم يهدأ.. حتى الحاج علاّل لم يكفّ عن السّعال وعدم الإكتراث، كنت الوحيد المتتبّع للموكب، ظللتُ أرمقه بنظري برهةً حتى بَعُد عنّي وخفّت أصوات الحشد . ثم غاب عن الأنظار.
لم أفق من سباتي أو غفوتي، إلاّ عندما رَبَتَ الحاج علاّل بيده على كتفي بلطف وهو يقول :
– الأستاذ..الأستاذ.. هل أنت نائم..؟
أدرتُ رأسي نحوه، فإذا به يبتسمُ لي وهو ينتظر الحساب، ولم أدرِعلى وجه التحديد هل كنتُ نائماً حقّاً، أم كنت في حالةِ غفوةٍ، أو صحوةٍ، أوذهول… إرتبكتُ قليلاً، ثم نهضتُ من مكاني، ودفعتُ له الحساب، ثمّ حيّيته وإنصرفت.

*   *   *   *   *

women

في طريق العودة إلى البيت، إلتقيتُ بجموع النّساء الغفيرة العائدات من الضّريح الصّالح إلى بيوتهنّ، وعلامات الغِبطة والجذل، والإنشراح تملأ وجوهَهنّ بالبِشْر، و الأمَل، والحُبور، بعد أن قمنَ بجميع الطقوس اللاّزمة للغاية التي قَدِمنَ من أجلها إلى هذا المكان، وكلّهنّ شوقٌ، وتطلّعٌ، وترقّبٌ، وإنتظارٌ لما سوف يأتي به الغدُ القريب من أخبار سارّة قد تنبئهنّ بقدوم فوارس الأحلام، وشركاء العمر، وهم يمتطون صَهوات جِيادهم المُسوّمة البيضاء..! عندئذٍ تذكّرتُ أخَواتي البنات الصّبايا الثلاث الحسيرات، الكسيرات، الكسيفات، وأسِفتُ لعدم قدومهنّ اليوم كذلك ليجرّبنَ حَظّهنّ، هنّ الأخريات مرّة أخرى من جديد، بعد أن سبق أن قَدِمْنَ إلى هذا المكان مرّاتٍ، ومرّاتٍ عديدة من قبل دون جدوى…!
الآن تذكّرتُ، وأيقنتُ أنّه عندما رَبَتَ الحاج علاّل بيده على كتفي، وصحوتُ من غفوتي خُيِّل لي أنني رأيتُ في منامي فيما يراه النائم ُوقت الظهيرة، أنّ الحشد الجنائزي الهائل المَهيب الذي مرّ أمامي قبل قليل، والذي ذهبَ بدون رِجعة، وإختفى عن الأنظار، لابدّ ولا جَرَمَ أنّه كان يحملُ معه داخلَ النعش ليُوَارىَ التراب كومة التقاليد البالية السّائدة، أو رزمة العوائد المتوارثة العتيقة .؟! ..كانت بقايا أصداء أصواته المُبهمة، والغامضة ما زالت تزدحمُ، وتتفاقمُ، وتتلاطمُ بداخلي في عنفٍ وزخمٍ، وتملأ أسماعي، وأعماقي بنفس تلك النّبرة الحزينة، القويّة، الرّخيمة، الحادّة، المؤثّرة والرتيبة إيّاها.

story


*كاتب، وباحث، ومترجم، وقاصّ من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأميركية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا
 
 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. لوحة عبور مستمرّ من الحياة الى الموت وما بينهما، يطغى عليها طابع البؤس الشامل، في البشر والحيوان والنبات والحجر… أي في المشهد بكلّيته، على الرغم من تعدّد الألوان ووضوحها! لوحة تزخر بالعادات والتقاليد والمعتقدات التي ينقلها لنا الدكتور خطاّبي على طبيعتها من دون تصنّع، ما يزيد من عبثيّة حباة العابرين ضمن هذه الأقصوصة – اللوحة، حيث يبدو الراوي هو الوحيد المدرك لهذه العبثيّة والغارق فيها في آن، على الرغم من وعيه – ولو لبرهة – لعبثيّة حياة أيناء مدينته ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم! ولا يخفى ما للصور المضافة عبر موقع ألف – لام من قيمة فنيّة مؤثّرة، تحوّل الأقصوصة الى واقع شبه ملموس.

  2. لوحة عبور مستمرّ من الحياة الى الموت وما بينهما، يطغى عليها طابع البؤس الشامل، في البشر والحيوان والنبات والحجر… أي في المشهد بكلّيته، على الرغم من تعدّد الألوان ووضوحها! لوحة تزخر بالعادات والتقاليد والمعتقدات التي ينقلها لنا الدكتور خطاّبي على طبيعتها من دون تصنّع، ما يزيد من عبثيّة حباة العابرين ضمن هذه الأقصوصة – اللوحة، حيث يبدو الراوي هو الوحيد المدرك لهذه العبثيّة والغارق فيها في آن، على الرغم من وعيه – ولو لبرهة – لعبثيّة حياة أيناء مدينته ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم! ولا يخفى ما للصور المضافة عبر موقع ألف – لام من قيمة فنيّة مؤثّرة، تحوّل الأقصوصة الى واقع شبه ملموس.

  3. شكراً للأديبة المبدعة، والناقدة اللاّمعة الأستاذة الفاضلة مارلين وديع سعادة Marleine Saade حفظها الله على هذه القراءة الأدبية الرّاجحة، المُوفية، الوافية الذكية والصّريحة، الخالية من أيّة محاباة،أومصانعة، أومجاملة، الحافلة بالغِنىَ والثّراء ، واالصّفاء والنقاء، وتأكيداً لما ذهبتْ إليه الأديبة المثابرة و الكاتبة المواظبة الاستاذة مارلين عند إستبطانها، وإستغوارها، وإستكناهها لهذه الأقصوصة بجهدٍ جَهيد ، وكدٍّ عتيد مستندةً إلى بعض النظريات، أو المقاييس، أو المعايير المعروفة والمألوفة فى النقد الأدبي الغربي، أقول إنّ ” مَالاَرْمِيه” كان يرى :” أنّ أعظم أنواع الإبداع هو الذي لا يرقى إليه الفهمُ سوى بضربٍ باهظٍ من الذّكاء، والصّبر، والمعاناة، والمكابدة “، والعمل الأدبي الجيّد هو حوارٌ مع الكون ، ومناوشة دائمة له، وإستكناه لما وراءه. وتلك عملية صعبة ومركّبة تنطوى على مجازفة خطيرة لأنّها بداية إحتراق وكيّ، في تناوش، وتشاكس ،وديمومة متجدّدة. فالمبدع الحقّ ، شديدُ المراس،لا يُؤخذ جانبُه بسهولة ويُسر. والإبداع ليس قصراً على التذوّق الفنّي، أوالإحساس المُرهف ، أو التسامر أو الإنطواء أو الإنتماء. ..أو الوصف الآلي للمرئيات والملموسات بل هو مواجهة صريحة للواقع، وإستكناه لخباياه وإستجلاء لغوامضه ، وإنفعالٌ وتفاعلٌ معه، ومعانقة للآمال والآلام التي تترى نصب أعينه وأنظاره .
    يقول ممنوناً ومشكوراً الناقد الحصيف الأستاذ المهدي فى جريدة (هسبريس) المغربية الواسعة الإنتشاربعد قراءته لهذه الأقصوصة بالذات : “بل أنت أيها الكاتب المحترم أستاذ الأساتذة وأكثر ، تواضعاً منك تقول أنّ الكلمة لا تمنحك صفتك الحقيقية وأنك مجرّد معلّم لكنّ طريقتك في السّرد والوصف الدقيق الذي يخرج القارئ من ذاته ويتجوّل به في الفضاءات التي برعتَ في وصفها يجعله يرى الحاج علال وقد نسخت صورته في المخيلة حتى وإن لم يسبق له ان رآه ، يشعر القارئ أنّ رذاذ البحر على ضفاف سيدي موسى لا يزال يبلله ، الكاتب الذي يتذكّر مرتع الصّبا، ويزوره دون ترفع على القدامى الذين منعهم الفقر وانسداد الآفاق من الانطلاق نحو فضاءات أرحم وأكثر رغداً جدير باحترام من ذكرهم وباحترام القارئ ، وكلّ الروائع الأدبية التي لا تزال شامخة تدين بذلك لبراعة أصحابها في نقل ما يجري في عتمات المدن وأحيائها الخلفية والهامشية وليس واجهاتها الوهّاجة الخادعة ، تذكّرني بالبؤساء لفيكتور هيجو ، ومكسيم غوركي وكتابات ألكسندر بوشكين ، ليو تولستوي ورائعته الخالدة ” الحرب والسلم” ، وشيء من زقاق المدقّ لنجيب محفوظ ، تحياتي ايّها الكاتب الوفيّ لبؤساء مدينته “.
    و لهذا قلت ذات مرّة إنّ الكاتب الحقيقي لا يحيد أبداً عن رغباته، وهواجسه، وهََوَسِه الإبداعي شعراً كان أم نثراً أم تشكيلاً. إنّه كلّما إزداد علماً بعالمه المادّي، كلّما تعرّف أكثر على مدى ضآلته وصِغره في الكون. وعظمة وجلال كلّ ما لا نعرف عنه شيئاً ، ولا نجرؤ على التفكير فيه، أو الخوض في غماره. إنّه لمن العبث أن نجد الحلولَ الجاهزة للأدب الذي أصبح بمنأىَ عن الدّور الذي كان يضطلع به في العالم الإغريقي، واللاّتيني، والعربيّ ، إذ أنّ الأدب على أيامنا فقد إحدى خاصّياته الأساسية وهي الشّمول، وأصبح أكثرَ تجزيئاً. وتقليصاً ، فالكوميديا الإلهية “لدانتي ” ( المستوحاة من رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي) كانت تسعى إلى إقامة نظرة كونية منطقية متكاملة،شاملة . كان “دانتي أليغيري” يريد أن يقول كلّ شيء في ملحمته. وكان الكاتب الأرجنتيني”خورخي لويس بورخيس” يُعرب عن إرتياحه وإنشراحه عند ما يعثر على بيتٍ واحدٍ من الشّعر الجيّد الجدير بالقراءة في عملٍ مّا . كانت باكورة أعماله الإبداعية بعنوان” الألف ” تعبيراً عن إعجابه بالتراث العربي ،وهيامه بلغة الضّاد. وكان النقاد لا يفهمون،ولا يدركون ما ذا كان يريد قولَه أوإبلاغَه حقيقة للناس ، ويعتبرون كلامَه غامضاً مبهماً غيرَ واضح،ويذكّرنا هذا بما كان يحدث مع شاعرنا العربي الكبير أبي تمّام الطّائي الذي كان يُعابُ عليه هو الآخر أنّه كان يقول كلاماً لا يُفهم ،حيث كان الناس (القرّاء) يقولون له : لماذا تقول ما لا يُفهم..؟ وكان يجيب : ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟!، الأديبة الرقيقة مارلين وديع سعادة قالت لنا خلال هذا التعليق المقتضب الجميل كلاماً مفهوماً ،واضحاً ،وصريحاً غير مُبهم ولا غامض وهي تخوض بألمعية فى عملية الخلق، والعطاء، والإبداع،وهذه هي سِمات النقد الهادف الواعي الملتزم، بكلّ ما تعنيه هذه الكلمات من معنىً حيال النصوص الإبداعية التي نقرأها ، ونتفحّصها، ونسستبطن أبعادَها،ونسبرأغوارَها ومراميَها، وجماليتَها، ومضامينَها.ولا عجب فهي الباحثة الحصيفة، والمدقّقة المتخصّصة والمُتفحّصة التي تُبهرنا كلّ يوم بقراءاتها الرّائعة . لله ذرّكِ سيدتي الكريمة، ودام لكِ إطّراد التألق،ودوام التوفيق ، وبارك اللهُ فى مَعينك الذي لا ينضبّ . -مدريد – السّفير د. محمّد محمّد خطّابي.

  4. شكراً للأديبة المبدعة، والناقدة اللاّمعة الأستاذة الفاضلة مارلين وديع سعادة Marleine Saade حفظها الله على هذه القراءة الأدبية الرّاجحة، المُوفية، الوافية الذكية والصّريحة، الخالية من أيّة محاباة،أومصانعة، أومجاملة، الحافلة بالغِنىَ والثّراء ، واالصّفاء والنقاء، وتأكيداً لما ذهبتْ إليه الأديبة المثابرة و الكاتبة المواظبة الاستاذة مارلين عند إستبطانها، وإستغوارها، وإستكناهها لهذه الأقصوصة بجهدٍ جَهيد ، وكدٍّ عتيد مستندةً إلى بعض النظريات، أو المقاييس، أو المعايير المعروفة والمألوفة فى النقد الأدبي الغربي، أقول إنّ ” مَالاَرْمِيه” كان يرى :” أنّ أعظم أنواع الإبداع هو الذي لا يرقى إليه الفهمُ سوى بضربٍ باهظٍ من الذّكاء، والصّبر، والمعاناة، والمكابدة “، والعمل الأدبي الجيّد هو حوارٌ مع الكون ، ومناوشة دائمة له، وإستكناه لما وراءه. وتلك عملية صعبة ومركّبة تنطوى على مجازفة خطيرة لأنّها بداية إحتراق وكيّ، في تناوش، وتشاكس ،وديمومة متجدّدة. فالمبدع الحقّ ، شديدُ المراس،لا يُؤخذ جانبُه بسهولة ويُسر. والإبداع ليس قصراً على التذوّق الفنّي، أوالإحساس المُرهف ، أو التسامر أو الإنطواء أو الإنتماء. ..أو الوصف الآلي للمرئيات والملموسات بل هو مواجهة صريحة للواقع، وإستكناه لخباياه وإستجلاء لغوامضه ، وإنفعالٌ وتفاعلٌ معه، ومعانقة للآمال والآلام التي تترى نصب أعينه وأنظاره .
    يقول ممنوناً ومشكوراً الناقد الحصيف الأستاذ المهدي فى جريدة (هسبريس) المغربية الواسعة الإنتشاربعد قراءته لهذه الأقصوصة بالذات : “بل أنت أيها الكاتب المحترم أستاذ الأساتذة وأكثر ، تواضعاً منك تقول أنّ الكلمة لا تمنحك صفتك الحقيقية وأنك مجرّد معلّم لكنّ طريقتك في السّرد والوصف الدقيق الذي يخرج القارئ من ذاته ويتجوّل به في الفضاءات التي برعتَ في وصفها يجعله يرى الحاج علال وقد نسخت صورته في المخيلة حتى وإن لم يسبق له ان رآه ، يشعر القارئ أنّ رذاذ البحر على ضفاف سيدي موسى لا يزال يبلله ، الكاتب الذي يتذكّر مرتع الصّبا، ويزوره دون ترفع على القدامى الذين منعهم الفقر وانسداد الآفاق من الانطلاق نحو فضاءات أرحم وأكثر رغداً جدير باحترام من ذكرهم وباحترام القارئ ، وكلّ الروائع الأدبية التي لا تزال شامخة تدين بذلك لبراعة أصحابها في نقل ما يجري في عتمات المدن وأحيائها الخلفية والهامشية وليس واجهاتها الوهّاجة الخادعة ، تذكّرني بالبؤساء لفيكتور هيجو ، ومكسيم غوركي وكتابات ألكسندر بوشكين ، ليو تولستوي ورائعته الخالدة ” الحرب والسلم” ، وشيء من زقاق المدقّ لنجيب محفوظ ، تحياتي ايّها الكاتب الوفيّ لبؤساء مدينته “.
    و لهذا قلت ذات مرّة إنّ الكاتب الحقيقي لا يحيد أبداً عن رغباته، وهواجسه، وهََوَسِه الإبداعي شعراً كان أم نثراً أم تشكيلاً. إنّه كلّما إزداد علماً بعالمه المادّي، كلّما تعرّف أكثر على مدى ضآلته وصِغره في الكون. وعظمة وجلال كلّ ما لا نعرف عنه شيئاً ، ولا نجرؤ على التفكير فيه، أو الخوض في غماره. إنّه لمن العبث أن نجد الحلولَ الجاهزة للأدب الذي أصبح بمنأىَ عن الدّور الذي كان يضطلع به في العالم الإغريقي، واللاّتيني، والعربيّ ، إذ أنّ الأدب على أيامنا فقد إحدى خاصّياته الأساسية وهي الشّمول، وأصبح أكثرَ تجزيئاً. وتقليصاً ، فالكوميديا الإلهية “لدانتي ” ( المستوحاة من رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي) كانت تسعى إلى إقامة نظرة كونية منطقية متكاملة،شاملة . كان “دانتي أليغيري” يريد أن يقول كلّ شيء في ملحمته. وكان الكاتب الأرجنتيني”خورخي لويس بورخيس” يُعرب عن إرتياحه وإنشراحه عند ما يعثر على بيتٍ واحدٍ من الشّعر الجيّد الجدير بالقراءة في عملٍ مّا . كانت باكورة أعماله الإبداعية بعنوان” الألف ” تعبيراً عن إعجابه بالتراث العربي ،وهيامه بلغة الضّاد. وكان النقاد لا يفهمون،ولا يدركون ما ذا كان يريد قولَه أوإبلاغَه حقيقة للناس ، ويعتبرون كلامَه غامضاً مبهماً غيرَ واضح،ويذكّرنا هذا بما كان يحدث مع شاعرنا العربي الكبير أبي تمّام الطّائي الذي كان يُعابُ عليه هو الآخر أنّه كان يقول كلاماً لا يُفهم ،حيث كان الناس (القرّاء) يقولون له : لماذا تقول ما لا يُفهم..؟ وكان يجيب : ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟!، الأديبة الرقيقة مارلين وديع سعادة قالت لنا خلال هذا التعليق المقتضب الجميل كلاماً مفهوماً ،واضحاً ،وصريحاً غير مُبهم ولا غامض وهي تخوض بألمعية فى عملية الخلق، والعطاء، والإبداع،وهذه هي سِمات النقد الهادف الواعي الملتزم، بكلّ ما تعنيه هذه الكلمات من معنىً حيال النصوص الإبداعية التي نقرأها ، ونتفحّصها، ونسستبطن أبعادَها،ونسبرأغوارَها ومراميَها، وجماليتَها، ومضامينَها.ولا عجب فهي الباحثة الحصيفة، والمدقّقة المتخصّصة والمُتفحّصة التي تُبهرنا كلّ يوم بقراءاتها الرّائعة . لله ذرّكِ سيدتي الكريمة، ودام لكِ إطّراد التألق،ودوام التوفيق ، وبارك اللهُ فى مَعينك الذي لا ينضبّ . -مدريد – السّفير د. محمّد محمّد خطّابي.