الفنان بيار شديد مبدع ريشة وإزميلا

Views: 1967

د. جورج زكي الحاج  

يقول لسنغ : ” الرسم شعرٌ أخرس والشعر رسمٌ ناطق.”

والفنُّ يحفر هُوَّةً بين ظاهرِ هذا العالمِ الرديء والقابلِ للهلاك ووهمِهِ من جهةٍ، والمضمونِ الحقيقيِّ للأحداثِ من الجهةِ الأخرى، كي يُلبسَ هذه الأحداثَ وتلك الظواهرَ واقعيةً أعلى وأسمى، متولِّدةً من الروح. هكذا نجدُ أنّ ظواهرَ الفنِّ، البعيدةَ عن أنْ تكونَ محضَ ظواهرَ وأوهامٍ بالنسبة إلى الواقعِ الجاري، تمتلكُ واقعيةً أسمى، ووجودًا أكثر حقيقةً.  فأسمى مقصدٍ للفنِّ هو ذلك المشتركُ بينَه وبين الدينِ والفلسفةِ، فهو كهذينِ الأخيرين، نمطُ تعبيرٍ عن الإلهيِّ، وعن أرفعِ حاجاتِ الروحِ وأسمى مطالبِهِ.

  والفنُّ الحقيقيُّ هو من إبداعِ التخيُّلِFantaisie، وليس من إنتاجِ الخيالImagination، لأنَّ الأولَ خيالٌ مبدعٌ، بينما الثاني خيالٌ عاديٌّ يعتمدُ على الذاكرةِ، كما يقول هيغل.

  بين الخيالي والتخيُّلي فرقٌ كبيرٌ، فإذا كان الأول يستعينُ بالذاكرةِ لاستعادةِ شريط الصور، فإنَّ الثاني (التخيُّلي) يقول: أُريد أن تُلقي روحي ضوءًا على الأشياء، وأن أعكس هذا الضوء على الأرواح الأخرى، لأنّ الفنان الكبير لا يرى في العالم ما يُعجبه، لذلك كانت صرخة بودلير الشهير: L’Art, c’est faire changer le monde.. الفن هو أنْ تُغيِّرَ العالم.

 وإذا كنّا نريدُ أن نعطيَ الفنَّ هدفًا نهائيًّا، فإنه لا يمكنُ أن يكونَ سوى هدفِ كشفِ الحقيقةِ، وتمثيلِ ما يجيشُ في النفسِ البشريةِ تمثيلاً عَينيًّا . وهذا الهدفُ مشتركٌ بينَه وبينَ التاريخِ والدين.

  أنا لستُ هنا في صددِ إلقاء محاضرةٍ في الفن، وإنما للكلامِ على فنّانٍ لبنانيٍّ مُبدعٍ ريشةً وإزميلاً، ولن أقول قلمًا وحنجرةً أيضًا، هو الصديق بيار شديد، وسأتناولُه بعناوينَ سريعةٍ.

د. جورج زكي الحاج

 

  هذا الفنانُّ الذي غاصَ في الأصولِ إلى أعماقِ الكلاسيكيةِ الصّافيةِ، ليَخرجَ منها إلى العوالمِ الأخرى، فَتَجَلْبَبَ بعباءاتِ المدارسِ والمذاهبِ من دون أنْ يتمَدْرَسَ أو يتمذهبَ، وإنما بقيَ أمينًا للفنِّ وللفنِّ وحدَه… وأنا من الذين لا يؤمنونَ بالتمدرُسِ أو بالتمذهبِ في الفن، ولكن حتى وإنْ جرّني النقدُ في بعضِ الأحيانِ إلى مثلِ هذه التصنيفات، فإنني أقول: إنَّ بيار شديد فوقَ المدارسِ والمذاهبِ والتيَّاراتِ لأنه خاضها، جميعها، وكان فيها نِعْمَ المبدع، ثمَّ اختطَّ لنفسهِ مذهبًا خاصًّا به، فتميز عن غيره، وباتت له بصمتُهُ الفارقة، فالأمرُ ليس في أن يكتبَ الكاتبُ جيِّدًا أو أن يرسمَ الرسَّامُ جيِّدًا، بل هو في أنْ يوضحَ الفرقَ بينهُ وبين غيره… لذلك أجزم بالقول: إمّا أن يكون هناك رسّامٌ ولوحة أو لا يكونان…

  موضوعاتُ لوحاتِهِ هي هو، هي انطباعاتُهُ وعواطفُهُ إزاءَ الطبيعةِ، لأنه، على رأي ديلاكروا، ينظرُ إلى نفسِهِ لا إلى ما حوله. فبيار شديد لا يرسمُ بالألوانِ وإنّما بالعاطفةِ، من هنا تجدُ لوحتَهُ قصيدةً مُغنّاة، أو سيمفونيةً تُحاكي أصداءَ الرياحِ وحفيفَ أوراقِ الشجرِ، وخريرَ السواقي الشتويةِ في ليلةٍ ميلاديةٍ يركعُ فيها الكونُ بأسره ليُسبِّحَ خالقَه..

  لوحةُ بيار شديد على صلةٍ وثيقةٍ بالديني، ولا أقصدُ لوحاتِه الدينيةَ كرفقا ووجهِ يوحنا وغيرِهما، وإنما أقصدُ المسحةَ الدينيةَ التي تغشى على اللوحةِ بشكلٍ ضبابي… مسحةٌ إيمانيةٌ، ربما يعودُ أصلُها إلى تربيةِ بيار البيتيةِ والمدرسيةِ والاجتماعية… فهو إبن كاهن الضيعة، وقد تفتّحت عيناه على الممارسات الدينية، والتمعُّن بصور القدّيسين، كما تشنّفت أذناه بسماع تراتيل العصر والمساء في قريته الجبلية ، خصوصًا في أيّام الصوم الكبير، فكان يسكر بترانيم التراتيل وبأصداء أصوات أجراس الكنائس بين الجبال والأودية.

بيار شديد وأيقونة سيدة إيليج

 

  ولقد تحوّلت علاقتي ببيار من علاقةٍ فرديةٍ، أو علاقة صداقة بين شخصين،  إلى أخرى فنيّةٍ، فكنتُ أقصِدُهُ من “بصاليم” حيث أُقيمُ، إلى “عمشيت” أو إلى “حْبوب” حيث يرسمُ، وكنت أجلسُ الساعاتِ وأنا أُراقبُ ريشتَه التي كانت تُبدعُ اللونَ/ الصدى… أقولُ الصدى لأنّ اللونَ عنده يتماوجُ ليتماهى في النهايةِ مع اللالون… فتتركّزُ عيناي على التفاصيلِ الدقيقةِ التي تسحَرُني، وأنا العاشقُ الرسمَ ولي فيه محاولاتٌ متواضعة تجسّدتْ في حوالى سبعينَ لوحة.

  ولقد قُدِّر لي أن أُواكبه في لوحته/ التُّحفة “رفقا”، التي قطع فيها الطريق على الفنّانين الأوروبيين، وتحديدًا الإيطاليين، الذين اعتادوا رسم لوحات القدّيسين في لبنان وفي غيره من البلدان…

  فعندما قُدِّر له أن يكون مُبدع لوحة “رفقا”، إنكبَّ على القراءات التي لها علاقة بتلك القدّيسة، وبرهبنتها، وبالزمن الذي عاشت فيه في الدير… ولم يكتفِ بذلك، بل راح يُقابل أخواتها من الراهبات اللواتي يعرفنها أو سمعن عنها…وقد استغرق ذلك أسابيع وشهورًا… وكان يستوحي من بعض الوجوه النسائية التي يراها شيئًا من سمات “رفقا” ومن ملامحها… سالكًا بذلك طريق ليوناردي فنشي عندما رسم لوحته الشهيرة “العشاء الأخير”، فراح يفتش عن شَبهٍ ليسوع المسيح…ثم عن شَبَهٍ ليهوذا الإسخريوطي، من خلال ما قرأ عنهما في السِّير والقصص التي رُويت عنهما…. ثم ترك لموهبته أن تقود ريشته المبدعة، فينساب اللون على القماش، ليتحول بلُطفٍ ساحر إلى براءةٍ فإلى قداسة… وتنتصب “رفقا” بقامتها، وبسُبحتها والإنجيل المقدّس، ويتجلّى صفاء السماء في صفاء عينيها ودموعها… وما سلكه في لوحة “رفقا”، سلكه أيضًا في لوحته “يوحنا”، التي قرأت فيها درجةً عاليةً من الإبداع الكلاسيكي في الرسم والنحت.

  ما يأخذني عند بيار شديد هو أسلوبُه. وأسلوبُه ساعدني على فهمِه هو كفنان وكإنسان، ألمْ يقل بوفون: “إنّ الأسلوبَ هو الإنسانُ نفسُه.”. فأسلوبُ بيار بعيدٌ عن التقليدِ، هو نابعٌ من طريقةِ الشعورِ الخاصةِ، لأنّ العملَ الفنيَّ ، كما يقولُ زولا، هو إظهارٌ حرٌ ورفيعٌ للشخصيةو”الفنُّ يبدأُ حيث ينتهي التقليد“، على حدِّ تعبير أوسكار وايلد.

  لوحةُ بيار شديد قريبةٌ إلى القلبِ والذوقِ الفنيِّ معًا…لأنها انعكاسٌ له ولشخصيتِه، فبيار يُحاكي نفسَهُ كي يستطيعَ محاكاةَ الآخر، وهذا هو وجهُ الأسلوبِ عند هذا الفنان الأصيلِ والمبدع…فالفنانُ، كلما ضمَّ نفسَه إلى نفسِه، يقولُ غوتيه، أوشكَ على الوصولِ إلى النفوسِ الشقيقةِ…

  لقد قلتُ إنّ علاقةً وطيدةً بين لوحةِ هذا الفنانِ والإيمان..وأقول أيضًا إنك تستطيعُ أن تسمعَ فيها تموجاتِ ترجيعاتِ الحنينِ التي تُطلقها شبَّابةُ راعٍ في جبالِ لبنان أو في سهولِه… وهنا ألتقي مع الناقد الألماني كونارد كيلمن في قوله: ” ما يلفتُ في أعمالِ الفنانِ بيار شديد هو الإيقاعُ الخطّي وصداهُ اللونيّ، مما يُذكّرني بجان سبستيان باخ“. ويسهلُ الفَهمُ عندما نعرفُ مدى تعلّقِ بيار بالموسيقى الكلاسيكية، خصوصًا الألمانية منها، وهو الذي قضى ردحًا من الزمنِ في ألمانيا…وربما يكون بيار قد نالَ بعضَ حقِّه من بعضِ الدولِ العربيةِ وبعضِ الدولِ الأوروبيّةِ أكثرَ مما نالَها في بلدِهِ لبنان… وهذه هي مأساةُ المُبدعِ في هذا الوطن.

  لا يمكنُ الكلامُ على هذا الفنانِ بسطورٍ أو بدقائقَ أو بكلمةٍ موجزَةٍ، فأعمالُه بحاجةٍ إلى دراساتٍ مُعمّقة، لأنها موضوعاتٌ صالحةٌ للرسائلِ والأطاريحِ الجامعيةِ لطلابِ الفنونِ التشكيليةِ كما للنقادِ في مختلفِ العلومِ الإنسانيةِ والفنية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *