الصُّورةُ الشِّعْرِيَّة (مفهوماً وانبناءً)

Views: 495

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

الصُّورةُ الشِّعْرِيَّة

إذا ما كان مصطلح “الصُّورَة الشِّعْرِيَّة” دخلَ دنيا الدِّراسات الأدبيَّة العربيَّة في مرحلة متأخِّرة نسبيَّاً، فهذا لا يمكن أَنْ يعني، أبداً، أنَّ ظاهرة الصُّورَة الشِّعْرِيَّة لم تسبق المصطلح؛ وأنَّ كثيراً من النِّتاج الأدبي العربي الصَّادر في عصور أدبيَّة غابرة لم يعرفها. لقد سبق لكثيرين من شعراء العصور الأدبيَّة العربيَّة السَّالِفَة، وحتَّى تلك المُمْعنة في قِدَمِها الزَّمني، أنْ قدَّموا نماذج غنيَّة ومثيرة من الصُّوَر؛ ومن الواضح أنَّ هؤلاء ما خَمَّنوا في حينه، أن ما يقدِّمونه سوف يُعْرَف في مستقبل الأيَّام باسم “الصُّورَة الشِّعْرِيَّة”. أمَّا عدم انتباههم، ومن عاصرهم من نُقَّاد، إلى فاعليَّة ما للصُّورة الشِّعْرِيَّة في هذا المجال، فلا يمكن أن يكون مؤشِّرا حقيقيَّا أو موضوعيَّاً لِعَدَمِ استخدامهم، الواعي أو غير الواعي، للصورة أو للعناصر المُكَوِّنة لها والمحرِّكَة لفاعليَّتها. ومن نافلة القَوْلِ، والحالُ كذلك، أنَّ هؤلاء القوم اعتبروا ما اعتمدوه من عناصر للصُّورة، ووفاقاً للمفاهيم الأدبيَّة والجماليَّة التي كانت سائدة زمنذاك، مُجَرَّدَ ممارساتٍ بلاغيَّة قائمة بحدِّ ذاتها؛ ولم ينظروا إليها على أنَّها عوامِلَ  تُسَاهِمُ في تَشْكيلِ ما يُمْكِن أن يُعْرَف اليوم بـ”الصُّورَة الشِّعْرِيَّة”.

        واقع الحال، إذا ما كانت الصُّورَة، بالمفهوم الأدبي، هي التَّركيبةُ اللفظيَّة التي يُبْرِزُ بها الأديب فكرته؛ أو هي، المواءمة المقصودة، أو الحيويَّة، بين الفكرة والتعبير عنها أسلوبيَّا؛[1] فإنَّ في هذا ما لا يحولُ دُوْنَ القَوْلِ بأنَّ هذه المواءمة وتلك الصياغة قائمتان، في أجزاء أساسيَّة من فاعليتهما، على المفاهيم البلاغيَّة العربيَّة التقليديَّة. وهذا الفَهْمُ لِفاعِلِيَّة الصُّورَة يأتي متوافقاً مع كثير من التَّعاريف التي سعى منظِّرون كِبارٌ ونقَّادٌ مشهودٌ بريادتهم في هذا المجال، إلى وضعها تقريباً لِفاعِلِيَّتِها من المَدارك. لقدجاء في”Princeton Encyclopedia Of Poetry And Poetics” ما مفاده أنَّ للصُّورَة الشِّعْرِيَّة فاعليَّةً مُعَيَّنَةً في اللُّغَةِ، عَبْرَ ما تُنْتِجُه من مُدْرَكَاتٍ أو انْطِباعات؛[2] وغَنِيٌّ عن القول إنَّ كثيراً من الصِّياغات البلاغِيَّة العربيَّة التقليديَّة هي من المُحَفِّزات الأساسيَّة للإدراك أو التَّأثير في النَّص الشِّعري. ومما يساعد على التعمُّق في توضيح هذا الأمر، ما جاء به  لِويْسC. D. Lewis  من أنَّ الصُّورَة الشِّعْرِيَّة ليست سوى رسم بالكلمات المشحونة بالعاطفة أو الإحساس؛ فهي، حِسِيَّةٌ بالكلمات، كما أنَّها مشحونةٌ بالإحساس أو العاطفة المميّزة التي تنساب نحو القارئ.[3] ويُرَسِّخُ هذا الفهم للصورة، ويؤكِّدُ فاعليته، ما يُنْقَلُ عن إِليوُت T. S. Eliot  بقوله إنَّ الصُّورَة الشعريَّة تكمن في التَّعبير عن العاطفة بمجموعة أُمورٍ أو مواقف أو سلسلة من الأحداث التي تُؤَلِّفُ في ما بينها الصِّيغة التي توضع فيها تلك العاطفة.[4] ولعلَّهُ مِنَ المُمْكِنِ الاطمئنان، ههنا، إلى تعريف أكَّاديمي مُعاصِر، موجز وشامل، للصورة مفاده أنَّ الصُّورةَ مجموعةٌ من الاستعمالات البلاغيَّة القديمة والمعاصرة، من تشبيهات ومجازات واستعارات وكنايات وتشخيصات وتجسيدات وتجريدات، وسواها من العناصر التي تقوم بالفِعْل التَّعبيريِّ الذي تؤدِّيه هذه الوحدات البلاغيَّة مجتمعةً في ما بينها ومتناغمةً ضمن هذا الاجتماع وبه.[5]

تَشَكُّلُ الصُّورةِ الشِّعْرِيَّة

لَيْسَتِ القَصيدةُ، إذاً، وفي حقيقة فِعْلِها الشِّعريِّ، مُجرَّد تركيبات بلاغيَّة يقوم كلُّ واحد منها بذاته، أو عبر تجاوره مع سواه وتناسقه معه. فالقصيدة، فضلاً عن هذه الفاعليَّة الأحاديَّة لعناصرها البلاغيَّة، قادرةٌ على تقديم كَيانٍ جَمْعِيٍّ ينتظمُ هذه العناصر فيما بينها، ويُقَدِّمها عبر ظُهورٍ يؤلِّفُ ما يُعْرَفُ باسم الصُّورة الشِّعريَّة.[6] ويُمكن الحديثُ، في هذا المجال، عن ألوانٍ متعدِّدةٍ ومتنوِّعةٍ لهذا الظُّهور بوساطة التَّشَكُّل الجَمْعيِّ للعناصر البلاغيَّة. فإنَّ لهذه العناصر البلاغيَّة أَنْ تقودَ، عَبْرَ تناغمها فيما بينها، ومِن خلال ما يُمْكِنُ أَنْ يَنْتُجَ عن هذا التَّناغم مِنْ تأثيرات فنيَّة، إلى حَرَكِيَّةٍ للصُّورةِ في القصيدة. وليست هذه الحركيَّة سوى المساحة الديناميَّة لِلْفِعْلِ الشِّعريِّ؛ وقد يُساهم التَّوسُّعُ في استعراضها ودرسها على تقديمِ تقعيدٍ أكَّاديمي لِما يُمْكِنُ أن يُشَكِّلَ فهماً لبعضِ مناحي البلاغة الأدبيَّة المعاصرة ومفاهيمها.

قد لا يقف الأمر عند هذا الحدِّ في بعض القصائد ذات الرَّوعة الفنيَّة المميَّزة، إذ تَبْرُزُ الفنيَّة الشعريَّة للقصيدة من خلال حركيَّة تنتظم تشكُّل الصُّورة عَبْرَ حيويَّة التَّفاعُل الذي يمكن أن يقوم بينها وبين مُسْتَقْبِلِها.[7] إنَّها الوجودُ الحيُّ المتمثِّلُ في العَلاقةِ التي يمكن أَنْ تقومَ بين مُسْتَقْبِل النَّص الأدبيِّ والنَّصِّ بِحَدِّ ذاتِه من ناحية أُخْرى. فالفِعْلُ الشِّعريُّ، لا يكون سوى فاعليَّةٍ مستمرَّةٍ لحيويَّةِ العَلاقة القائمة، أو التي يمكن أن تَقوم بين العناصِرِ المكوِّنة للنَّص والفاعلة في تشكُّله وتأطُّره وبين مُسْتَقْبِلِه، مع اختلاف الأمكنة والأزمنة والمفاهيم التي يكون هذا المستَقْبِل ضمنها.

ثمَّة حيويَّة أساسٌ، إذاً، تظلُّ رابضةً في صُلْبِ النَّص الشِّعْري، أو ما يُمكِن أن يُسمَّى، اصطلاحاً، “القصيدة الرَّائعة”. وهذه الحيويَّة جزءٌ أساسيٌّ من الرَّوعةِ الشِّعريَّة، بل من أهم دواعي وجودها. إنَّها حَرَكِيَّةُ التَّفاعُلِ الجَدَلي بينَ النَّص ومُسْتَقْبِله؛ وقد تَدْخُلُ هذه الحيويةُ، وفاقاً لطبيعةِ مَن يَتلقَّاها مِنْ الأشخاص تِبْعاً لمفاهيمهم وأزمِنَتِهِم وأمْكِنَةِ وجودِهِم وعَيْشَهِم، في مَحَطَّات كُمُونٍ تُعيقُ انكِشافها، أو تَظْهَرُ عبر تجليَّات تَحُثُّها على الزَّهو بِنَبْضِ الفِعْلِ الشِّعري في وجودِها.

***

 

[1] – يُنْظَر:

  • حفني محمَّد شرف، الصُّورَة البيانيَّة بين النَّظريَّة والتَّطبيق، دار نهضة مصر للطبع والنَّشر، الفجَّالة، 1965، ص. 211.
  • محمَّد حسين الصَّغير، الصُّورَة الفنيَّة في المَثَل القرآني، وزارة الثقافة، بغداد، 1981، صص. 32-33.

[2]– يُنْظَر في هذا المجال:

  • Princeton Encyclopedia Of Poetry And Poetics, Enlarged Edition, 1974, p. 363.

[3]– يُنْظَر:

  • C. D. Lewis, The Poetic Image, London, 1968, pp. 19-20.

[4]– يُراجَع:

  • ل. روزنتال، شعراء المدرسة الحديثة، ترجمة جميل الحسني، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنَّشر بيروت – نيويورك، منشورات المكتبة الأهليَّة، بيروت، 1963، ص. 123.

[5]– يُنْظَر:

  • مُصْلِح النجَّار، الصُّورَة الشِّعْرِيَّة في شعر التَّفعيلة، (أطروحة دكتوراه – الجامعة اللبنانيَّة، كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة، إشراف الدكتور وجيه فانوس) سنة 2000، ص. 6.

[6]– محمَّد حسن عبد الله، الصُّورَة والبناء الشعري، دار المعارف، القاهرة، 1981، ص. 19.

[7]– المقصود بالمُسْتَقْبِل، ههنا، القارئ بوجه عام أكان مجرَّد فرد مُطالع للنَّص الشعري، أو كان جمهوراً عامَّاً، أو كان ناقِداً، أو كان باحثاً أدبيَّاً، أو كان مُحَقِّقاً عِلْمِيَّاً أو مَعْرِفِيَّاً.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. مقالة تستحق القراءة لتقديمها أولاهما عن مفهوم الصورة ومكوناتها وتحولات هذا المفهوم عبر مرجعيات متعددة وكثيفة، لا سيما اي اد التعريفات الحديثة لسي دي وليس والبيوت … ولهذا قدم أ.د وجيه مفهوما اختزالها وعميقة الصورة عبر شعرية النص وعلاقة هذه الشعرية بالحواس وجاذبية التلقي، وتعزيز فتيات النص…