إذا فَسُدَ المِلْحُ

Views: 370

الأب كميل مبارك

غالِبًا مَا يرَى النَّاسُ في الأَمَلِ بالغَدِ الأَفْضَل قوَّةَ ثَباتٍ ودَفْعًا للبَقاءِ وحافِزًا على العمَلِ من أَجْلِ أَنْ يَنْعَمَ الأَبْناءُ بِمَا عَجِزَ عن تحْقيقِه الآباءُ، وأَنْ يعيشَ الصِّغارُ مَا حُرِمَهُ الكِبار.

عَيْرَ أَنَّ الخَيْبَةَ الكُبْرى والصَّدْمَةَ القاسِيَةَ تَجْعَلُ هؤُلاءِ النَّاسِ يُقارِبونَ اليَأْسَ من خيْرٍ مُرْتَقبٍ أَو إصْلاحٍ مَنْشودٍ أَو حُلْم يتَحَقَّق، فيَرْتَمونَ في مُسْتَنْقَعاتِ التَّرَدُّدِ القاتِلَةِ ويُغْمِضون أَعْيُنَهم رَفْضًا لِمَنْ كانَ سَببَ هذا القَلَق ويَصُمُّونَ آذانَهم عن التَّفاهاتِ الَّتي تُقالُ في الشَّوارِعِ والسَّاحاتِ والإذاعاتِ والتِّلفزْيوناتِ والمَهْرَجاناتِ والخطاباتِ الَّتي تعْكسُ سُخْفَ الأَفْكارِ وعُقْمَها، وتحَجُّرَ العُقولِ وشحَّها، وقَساوَةَ القُلوبِ وعَتْمَ الدُّروب، عِلْمًا أَنَّ النَّاسَ يأْمَلونَ بأَنْ يكونَ قادَتُهم ومُرْشِدوهم ومُعَلِّموهم وأَرْبابُهم مَحَطَّ آمالِهِم، فإذا بِهِم يَقَعون على أُناسٍ ضالِّين ومُضِلِّين ومُفْسِدين، أَعْمَتْ

أَعْيُنَهم أَكْياسُ الفِضَّةِ وصَمُّوا آذانَهم عن صَوْتِ الحَقِّ وأَغْلَقوا عُقولَهم عن المَنْطِق السَّليم والرَّأيِ السَّديد، فَتاهوا وجَعَلوا بعْضَ النَّاسِ يَتيهونَ وراءَهم كالقِطْعانِ بوَعْيٍ أو بلا وَعي، بجَهْلٍ أَو حِقْدٍ أَو خَلَلٍ في التَّفْكير، وبهذا تكون الطَّامَةُ الكُبْرى، أَيْ ضلالُ النَّاسِ، أَقسى من اللَّعْنَةِ الأُولى، أي غباءِ المَسْؤُولِ، الَّذي يَدَّعي أَنَّه خَميرةُ المجْتَمَع، وقد نَسِيَ النَّاسُ أَو حاوَلَ هو خِداعَهم كي يَنْسَوْا الفَسَادَ الَّذي عَمَّمَه، والدَّمْعَ الذي أَنْزَلَه، والدَّمَ الَّذي سَفَكَهُ، والمالَ الَّذي نَهَبَهُ وكيْفَ باعَ الأَبْرِياءَ بخدْعَةٍ بَرَّاقَةٍ تَصْدُرُ عن شَهْوَةِ السُّلْطَةِ أَو رَنين الأَصْفَرِ اللَّمِع.

إذا فَسُدَ المِلْحُ فأَيُّ شَيْءٍ يُمَلِّحُه يقولُ الله. فهل بَقِيَ أَمامَنا نحن النَّاسَ أَساليبُ أُخْرى عَجِزَ الله عنْها لنَرُدَّ إلى المِلْح مُلوحَتَه وإلى البَحْرِ زُرْقَتَه، وإلى الثَّلْج بَياضَه، وإلى العُقولِ الخَرِبَةِ توازُنَها ومَنْطِقَها وحُسْنَ أَدائِها؟ إذا فَسُدَ المِلْحُ فلا شَيْءَ يُمَلِّحُه ولَو اجْتَمَعَتِ النَّاسُ وأَجْمَعَتْ وهَلَّلَتْ وصَفَّقَت، فالله أَعْرَفُ بالقُلوبِ وأَدْرى بالنِّيَّاتِ وهو الوَحيدُ القادِرُ على أَنْ يَبْنِيَ من الشَّرِّ خَيْرًا كيْ لا يُرْمَى المِلْحُ الفاسِدُ في الطَّريق لِتَدوسَهُ النَّاس.

تشرين الأول  أُكْتوبر، 2008

***

(*) من كتاب “حين يكثر الحصرم” الصادر عام 2018.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *