في ذكرىَ وعد بلفور المشؤوم

Views: 33

د.محمّد محمّد خطّابي *

نزاعات مذهبيّة، ومواجهات أيديولوجيّة، وحروب دينيّة، وصراعات طائفيّة، وخلافات سياسيّة، ومساجلات لسنية غارقة في الوحل والضّحالة!

 هذا هو المشهد المُزري للأوضاع الرّاهنة، هذا المخاض العسير، وهذا الأوار المُستعر، الله وحده يعرف ما هي عاقبته، وما هو مآله، ومنتهاه.

القضيّة الفلسطينية ما فتئت تتغلغل في أفئدة وقلوب كلّ المحبّين العاشقين للحريّة والمتعطّشين للكرامة، والانعتاق في كلّ مكان، من كلّ الجنسيات، والملل، والنّحل، والإثنيات والأعراق. إنّ المحن والأهوال التي عانى وقاسى منها الكثير هذا الشعب الصّامد لم تثنه قطّ عن تقديم المزيد من التضحيات، تلو التضحيات لتحرير أرضه، وَصَوْن كرامته، وإقامة دولته، في خضمّ ما أصبح يُنعت أو يُعرف بأمّ الهموم العربية التي حاقت بهذا الشعب المناضل منذ ما يُعرف ب: “وعد بلفور” المشؤوم. منذ الرسالة التي وجّهها وزير الخارجية البريطاني إبّانئذٍ آرثر جيمس بلفور بتاريخ الثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، يعلن فيها عن تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. مروراً بالتقسيم اللعين 1947، أو ما أصبح ينعت ب”النكبة” التي أفضت إلى قيام “دولة إسرائيل” عام 1948، وصولاً إلى “النكسة ” عام 1967.

وأخيراً الشقاقات والخلالفات التي شرخت الجدار الفلسطيني.. إنّها أحداث تاريخية مؤسفة نراها تترى نصب أعيننا، ومفاجآت مؤلمة خبّأها القدر للعديد من أبناء فلسطين الذين رمت الأقدار بكثيرين منهم خارج وطنهم، وبعيداً عن أرضهم قهراً وقسراً، فانتشروا في بلاد الله الواسعة في مختلف أنحاء المهاجر، من أقصى أصقاع العالم إلى أقصاه. ولكنّهم مع ذلك ظلّوا مشدودين إلى أرضهم الأمّ، متشبّثين بحقوقهم المشروعة، ذلك أنّ “النواة” التي صِيغ منها هذا الشعب هي من نوع خاص، حيث خصّه الله بطاقة لا تُقهر صبراً، وجَلداً، وتحمّلاً، وتمرّساً، ومواجهةً، ومقاومةً، وتحدّياً، وإصراراً.

 

حملات مسعورة

لقد عملت الصهيونية العالمية منذ ذلك الإبّان من دون هوادة، ولا كلل ولا ملل، من أجل القضاء ليس فقط على هذا الشعب وإستئصاله من جذوره وطمس هويّته وتشويه ثقافته ومحو كل أثر له، بل إنّهم حاولوا محو حتّى جغرافيته وطمس تاريخه في حملات مسعورة بإستعمال مختلف ضروب الحيل، والدسائس، والخسائس، والمَكر، والمكائد لتحقيق هذه الغايات الدنيئة.

وتفجّرت الثورات، وانطلقت الإنتفاضات الواحدة تلو الأخرى، وطفق الشعب الفلسطيني في كتابة صفحات جديدة من تاريخه البطولي الناصع، حاملاً رمز كفاحه وثورته الكوفية الفلسطينية المرقّطة، أوالمنديل الفلسطيني، وأغصان الزّيتون، وإرادة لا تقهر فأذهل العالم، وأعاد إحياء هويّته وشخصيته وجذوره وذاكرته التاريخية والثقافية والتراثية الجماعية من تحت الأنقاض. وما فتئ الأبطال الفلسطينيون الشهداء من كلّ الأعمار يروون ثرىَ أرضهم الفيحاء، وما انفكّت الآلة الحربية الإسرائيلية تقتّل وتنكّل بهذا الشعب من دون رحمة وتسلبه هويّتَه وأراضيَه وقراه ومزارعَه وضيعَه ومداشره، وتزجّ بأبنائه في غياهب وظلمات جحيم السّجون، وقد أحرموهم ليس فقط نعمة صلة الرّحم مع ذويهم وأقاربهم وخلاّنهم، بل والهواء الطلق، والنّسيم العليل، وزرقة السّماء، ونور الضياء، بل ليُحرَموا كذلك القوت اليومي لسدّ رمقهم ورمق أهاليهم.

وما زالت الأنفس تتنفّس الصّعداء،وتعدّ العدّة للمراحل القادمة الحاسمة من كفاح هذا الشعب، وما برحت ألسنة اللّهب تتصاعد،وأعمدة الدخان تتعالى. إنّهم يستشهدون من أجل بلادهم لانّهم صادقون في حبّهم لأمّهم الأولى الأرض.

ما زال الفلسطينيّون يعانون الأمرّين. التعنّت والتنكيل من طرف اسرائيل من جهة في السّاحة أيّ على الأرض في مختلف المناطق الفلسطينية، ومن جهة أخرى الشّقاق الداخلي والتشرذم والخلافات وتصدّع جدار أو بالأحرى صرح الوحدة الوطنية المنشودة بتعثر تحقيق المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية، التي ما انفكّت تكبو كلما همّت بالإنطلاق والخروج من القمقم الذي زُجّت بداخله قهراً وقسراً لأسباب لا تخفى على أحد. ويا للعُجب فقد يؤول ذلك التعثّر أو ترجع هذه الكبوة في بعض الأحيان لأسباب واهية مثل “تبادل الإتّهامات” و”مشادّات كلامية حادّة” قد تنشب بين الفصائل الفلسطينية. ولعلّ الله يأتي بفرَج قريب فآخر الليل الطويل نهار.

الإعتقالات والتعسّفات والمواجهات بين شرطة المحتلّ والمتظاهرين، والإضرابات الشاملة للأسرى الفلسطينيين التي عمّت السّجون الإسرائيلية الرهيبة يزيد من تأجيج الوضع القائم على مختلف المستويات. هذه السجون التي لا تعرف معنى للشّفقة والرحمة حيث تضرب إسرائيل عرضَ الحائط بكلّ العهود، والمواثيق الدّولية التي لها صلة بحقوق “الأسرى”المعترف بها دولياً. ناهيك عن سوء المعاملة التي يُوسَم بها هؤلاء الأسرى الفلسطينيون داخل هذه الدهاليز المظلمة، وتعرّضهم لأقسى وأعتى ضروب التعذيب والتنكيل، ممّا أدّى ببعضهم إلى الإستشهاد داخل هذه الأقبية المعتمة، وإستمرار المواجهات الشعبية المتوالية، والمتواترة على جميع الأصعدة مع قوات الإحتلال، وسواها من التجاوزات الخطيرة التي تقترفها السلطات الإسرائيلية من دون خجل أو وجل.

 

مسألة بقاء أو لا بقاء

الأشقّاء المشهود لهم بالشّقاق لم يقتنعوا بعد بأنّ المسألة مسألة بقاء أو لا بقاء. إنّهم فقط يذرفون الدموع حارة ساخنة وينزوون بأنفسهم لينظموا لنا أشعاراً وقصائد مسجوعة مشحونة بالغضب. وتمرّ الأيام، وتنقضي الليالي، وتتوالى الشهور والأعوام وفي رحمها وخضمّها تتولّد وتستجدّ الأحداث، وننسى أو نتناسى ما فات. المآسي ما زالت تترى أمام أعيننا وعلى مرأىً ومسمعٍ منّا، فيشاطرنا العالم طوراً أحزاننا وأحيانا يجافينا، ونكتفي بالتفرّج والتصفيق والتهليل، والتحسّر بلغة مؤثّرة باكية، شاكية، كئيبة،حزينة، مذلّة. أمّا الآخرون فإنّهم ما زالوا بتعنّتٍ وتمنّعٍ يتمسّكون بكل شبر سلبوه، وبكلّ مدينة علقوا بها، يبسطون نفوذهم بلا رحمة ليس على الأرض وحدها وحسب، بل وعلى العقول، والألسن، والقلوب.

ما زلنا نزهو بلوحات الشّرف التي تمتلئ بها دورُنا، وتعلو جدرانَ قصورنا، وما زلنا نفتخر بالنياشين والأوسمة التي نمتشقها، وتنمّق صدورَنا، ونعود إلى التاريخ لنستلهمَ منه الدروس والعبر، ونستشفّ منه معنويات جديدة لإستئناف مسيرتنا. ولكنّ لا نجد في راحات أيدينا في آخر المطاف سوى قبض من ريح، أو حصاد من هشيم.

قوم رحماء بغيرهم، مشهود لهم بالصّفح والتسامح، رحماء بالقويّ والضعيف، معروفون بهذه الثنائية المركبّة التى تجمع بين القوّة والليّن، والبّأس والرّخاوة، والصّلابة والطراوة، فهم (قوم تذيبهم الأعينُ النّجلُ/على أنّهم يذيبون الحديدَا… طوع أيدي الغرام تقتادهم الغيد/ويقتادون في الطّعان الأسودَا…. وتراهم يوم الكريهة أحراراً /وفي السّلم للغواني عبيدَا !… أمّا ” الآخرون” فلقد إقتدّت الرحمة من قلوبهم، وكأنّها قلوب صيغت من فولاذ ، إنّهم ينكّلون بدون تمييز،وعزاؤنا الوحيد أنّ التاريخ يسجّل لهم ” بشاعة المجازر” ويدوّن لنا ” سجايا المفاخر”. وما زلنا نستعطف العالم ونستجدي رحمتَه ونصف له الأهوالَ والفظائعَ،والرّزايا والذرائع. إنّنا حالمون،واهمون، منشغلون بقضايانا، منبهرون مشدوهون بالأوار المُستعر وسط الساحات، و البيوتات،. أمّا هم فما فتئوا يفتكون وينكّلون. (www.sliderrevolution.com)

إننا ما فتئنا نأمل بإمعان التقارب المنشود، والتداني المعهود، والتصافي المفقود، لإقصاء البعاد والتجافي، وتحقيق التفاهم والتصافي، والتلاحم والتراحم، وإستغلال كل الطاقات والخبرات، والنبش في عمق الثرىَ، والتراب، والتراث لردّ وصدّ فداحة الموقف الذي أمسينا نتردّىَ فيه.. صيفنا قائظ مُستعر، وخريفنا شاحب مُكفهرّ، وشتاؤنا صقيع مُنهمر، وربيعنا مُزهر مُزدهر، نحمل همومَنا، وهواجسَنا، وأوهامَا على ظهورنا ونمضي، ولا أحد يبالي، ولا أحد يكترث بأحزاننا وعذاباتنا ومعاناتنا.

 

“صمويل” العصر

“صمويل” هذا العصر لم يعد يبالي بأيّ شي مثلما كان عليه الحال مع جدّه الأبعد “السّموأل” القديم، الذي كان يُضرب به المثل في الوفاء عند جيرانه وخلاّنه من العرب الأقدمين، فكان قائلهم يقول في مجال إحترام المواثيق، والوفاء بالعهود القول المشهور، والمثل المأثور: “أوفى من السّموأل” ذاك البعيد الغائر في ثبج الزّمان، وفي سديم المسافات السرمدية، على عكس إبن جلدته القريب، كان يأبى أن يدنّس عرضه أو أن تهان كرامته بشتّى ضُروب اللّؤم والمكر والخديعة، فكانت تبدو وتغدو كلّ الثّياب الرثّة والأسمال البالية التي يرتديها جميلة عليه.! لنا تاريخٌ حافل وماضٍ تليد وتراثٌ زاخر، ولكنّ أعوادنا أمستْ هشّةً، واهية،إنطلقنا نتوق نحو بطولات دونكيشوتية، وتمرّدية، وهمية، واهية على حساب المشرّدين، والمُهجَّرين، والمُبعدين من أوطانهم، دخلنا حروباً، فكشفنا عن مدى ضعفنا، ووهننا، وخذلاننا، وخيبتنا، ولزمت الكآبة مُحيّانا، وسكنت الحسرة قلوبَنا، والحرب سِجال والأيّام دول!.

***

(*)- عضو الأكاديمية الأسبانية . الأميركية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *