جورج طرابلسي: أيّهما أصحّ؟

Views: 50

د. جميل الدويهي

 

 (من كتاب “أفكار خارج العزلة” – يصدر عام 2022)

 

يسأل الأستاذ جورج طرابلسي: أيّهما أصحّ: أنا أفكّر إذن أنا موجود، أم أنا موجود إذن أنا أفكّر؟

انطلاقاً من مفهوم فلسفيّ طرحه الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وتداولته الأمم، وهو “أنا أفكّر إذن أنا موجود”، يبدو للوهلة الاولى أنّ الكلام صحيح، ولا يخضع للمناقشة. ولو تمعّنّا في العمق، نرى أنّه غير صحيح، لأنّ الموجودات لا تخضع لشرط “الفكر”… وربّما ينقسم الجمهور بين “أنا أفكّر إذن أنا موجود”، و”أنا موجود إذن أنا أفكّر”، باعتبار أن ديكارت طرح رؤية ثابتة. وفي العلم والفلسفة والاكتشاف لا شيء ثابتاً ومؤكّداً. starsoffline.com وتناقُض الفلاسفة حول موضوع معيّن يثبت أنّ لا ثبات لنظريّاتهم، وخصوصاً مَن يتناولون الغيبيّات، وهي لا تُرى ولا تخضع للبرهان، فكيف يميّز الناس بين حقيقتها ولا حقيقتها؟

كتبت على صفحة الأستاذ الكبير جورج طرابلسي: “أنا موجود ولو لم أكن أفكّر”. فالموجودات في نظري لا يحدّدها التفكير فقط، وليس الفكر وحده سبب الوجود. بل إنّ الموجودات تتحدّد بأنّها “موجودة” بأحكام الحواسّ التي تراها وتلمسها… وهناك موجودات كثيرة في كواكب ومجرّات لم يصل إليها الإنسان، لا تعرفها الحواسّ إلاّ عندما نصل إليها في المستقبل… وعلى كوكبنا توجد السماء، والبحر، والأشجار والحقول والصخور، وأصغر الكائنات التي تتكوّن من خليّة واحدة. فمن أين لها التفكير هذه الموجودات؟ وهل هي غير موجودة لأنّها لا تفكّر؟

ديكارت

 

أعتقد أنّ ديكارت يتحدّث عن قيمة الإنسان بطريقة أدبيّة أكثر منها فلسفيّة، كما كان سقراط قد حدّد قيمة الإنسان بالكلام “تكلّم كي أراك”. والحقيقة أنّ سقراط يستطيع أن يرى أيضاً الأخرس الذي لا يتكلّم، فلا يجب أن تؤخذ كل المفاهيم التي تصدر عن فيلسوف بحرفيّتها، واعتبارها مقدّسة ولا تخضع للجدال.

أؤمن بأن الفكر شرط لرقيّ الإنسان، ولصنع السلام والمحبّة، وللاكتشاف والمعرفة… لكنّني لا أفهم كيف يكون شرطاً للوجود. وقد كتبتُ في “حاولت أن اتبع النهر … النهر لا يذهب إلى مكان” (2016) نصّاً بعنوان “ديكارت” أقول فيه:

“لعلَّ ديكارت لم يكن يقصدني

عندما قال: أنا أفكِّر، إذن أنا موجود.

فإنَّني مثل كلِّ شيء،

حين لا أفكِّر

أكون موجوداً أيضاً”.

هذه هي رؤيتي في كلام الفيلسوف، فإذا كان يريد أن يطرح مفهوماً نهائيّاً ثابتاً، فهو على خطأ… وإذا كان يطرح فكرة أدبيّة عابرة، فهي فكرة لا علاقة لها بفلسفة صحيحة، ولا يجب أن تؤخذ بحرفيّتها.

“أنا أفكّر إذن أنا موجود”، “أنا موجود إذن أنا أفكّر”… “أنا موجود ولو لم أكن أفكّر”… في ملّتي واعتقادي أنّ الثالثة هي الأصحّ.

***

(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني 2021

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *