العبوديّة الطوعيّة وأهل الكهف في لبنان

Views: 526

د. مشير عون

(الثلاثاء5 تشرين الثاني 2019)

من أخبث أنواع العبوديّة تلك التي تزيّن للعبد أنّه حرٌّ ! من مشاكل أغلب اللبنانيّين المستعصية أنّهم يظنّون أنفسهم أحرارًا، في حين أنّ فكرهم وقولهم وفعلهم مجبولٌ بالجهل والاستعباد. الأنكى أنّ معظم اللبنانيّين لا يريدون الحرّيّة، إمّا لأنّهم يجهلون منافعها، وإمّا لأنّهم يخافون تحدّياتها، وإمّا لأنّهم استعذبوا الاستيطان في أرض العبوديّات الطائفيّة والأيديولوجيّة، على اختلاف أنماطها وأصنافها. في المسلك الاجتماعيّ اللبنانيّ عبوديّةٌ، وفي المسلك السياسيّ اللبنانيّ عبوديّةٌ، وفي المسلك الاقتصاديّ اللبنانيّ عبوديّةٌ، وفي المسلك الثقافيّ اللبنانيّ عبوديّةٌ. 

يذكّرني هؤلاء اللبنانيّون بسيرة أهل الكهف الذين تناولهم أفلاطون حين دعاهم إلى الانعتاق من سلاسل الجهل، والخروج إلى منفسحات النور المعرفيّ وفضاءات المثُل الإنسانيّة العليا. مَن تعوَّد ظلمةَ الجهل والعبوديّة ظنَّ أنّ الوجود كلّه منحوتٌ على هذا النحو. فاعتقد أنّ السعادة الشقيّة التي ينعم بها في كهف الظلُمات أشدُّ يقينًا من النضال السعيد الذي يَعِده به مَن تحرّر من سلاسل الجهل وخرج إلى بهاءات النهار. ومن شدّة الاسترهاب، يَصبّ اللبنانيّون من أهل الكهف نارَ غضبهم على المستنير الذي يتجرّأ على استنهاضهم وتحريرهم ودفعهم إلى النور.

ما بلغ لبنان واللبنانيّون هذا المستوى من التخلّف والانحطاط والتدهور إلّا لأنّ الكثرة الجماهيريّة ترفض إعادة النظر في كلّ المباني الثقافيّة اللبنانيّة، وكلّ العمارات الاجتماعيّة، وكلّ المواثيق السياسيّة،وكلّ الإنشاءات الاقتصاديّة، وكلّ التدابير البيئيّة. اللبنانيّون من أهل الكهف الأفلاطونيّ يرفضون التخلّي عمّا اعتادوا عليه من تفكير في الوجود، وتعقّل في الحياة، وفهم في السياسة، وتصوّر في الاجتماع، وتبصّر في الاقتصاد. فهم يكرّرون أنفسهم ويكرّرون أحوالهم من غير إضافات إصلاحيّة بنيويّة، ومن غير نقلات تغييريّة نوعيّة، ومن غير إنجازات معيشيّة حاسمة. 

 

ليست هذه أولى ثورات اللبنانيّين. ولن تكون آخرها. وليست هذه أولى صرخات الفقر والظلم والذلّ والألم والجوع. ولن تكون آخرها. بيد أنّ خطيئة اللبنانيّين ما برحت هي إيّاها، إذ يرفضون أن يستعيدوا حرّيّتهم الذاتيّة الفرديّة. فلا ينطقون إلّا بمنطق طائفتهم، ولا يلهجون إلّا بمكارم زعيمهم، ولا يتصرّفون إلّا بإلهامأوليائهم. والحال أنّ العالم تغيّر تغيّرًا جليلًا من حولهم. من على يسارهم ثوراتٌ عربيّةٌ تضرّجت في بحر من الدماء، ومن على يمينهم انتفاضاتٌ غربيّةٌ إمّا تروم صون الهويّات القوميّة الذاتيّة الأُروبّيّة، وإمّا تمعن في التلاعب بمصائر الاقتصاد الكونيّ على طريقة الإدارة الأمِريكيّة الحاليّة. ومن على حدودهم كيانٌ صهيونيٌّ عدوانيٌّ ينتهك أبسط الشرائع الإنسانيّة. والعولمة التقنيّة تكتنف مصائرهم.

منطق الثورة يقتضي أوّلًا أن يبرهن الثائرون أنّهم خرجوا من ظلمة العبوديّة الطوعيّة والجهل المعرفيّ. والمنطق عينه يقتضي ثانيًا أن يبحث الثائرون في أعماق ذاتهم الحرّة عن تصوّرات جريئة للواقع الإنسانيّ في لبنان تجعلهم يبتكرون سبُلًا حياتيّة، واجتماعيّة، وثقافيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة، ومعيشيّة، تليق بكرامة الحرّيّة الذاتيّة التي أعادوا استخراجها من صميم كيانهم. والمنطق نفسه يقتضي ثالثًا أن تُترك ساحاتُ الثورة لأهل الجرأة الشبابيّة والعنفوان الخلّاق. ذلك بأنّ الشابّات والشبّان الذين يثورون اليوم هم الأقدر على ابتكار صيغة لبنان الجديد لأنّهم، على صورة الطفل الذي رسمه نيتشه، منعتقون من موروثات الجمَل التي يحملها على ظهره، ومتحرّرون من غضبات الأسد المدمِّرة. ثورة الشباب في لبنان هي التي قد تنطوي على أغنى طاقات التحفيز والتمكين تجديدًا للحياة اللبنانيّة في جميع أبعادها الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والبيئيّة. فإمّا أن تكون الثورة اللبنانيّة ثورة الشباب الذي استعاد حرّيّته الحقيقيّة، واكتسب المعرفة الوجوديّة الصائبة، وإمّا أن تُطرَح في كهف المشاحنات الأيديولوجيّة، والمنازعات الطائفيّة، والمماحاكات الحزبيّة، والمهاترات العشائريّة، وخبائث الفاسدين من أصحاب النفوذ الماليّ المحلّيّ والعربيّ والعالميّ.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *