“المثقَّف” و”السِّياسة”و”المجتمع”

Views: 897

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

المثقَّف صاحب رسالة، ومبادئ، يحمل أفكارا لتغيير الواقع الاجتِماعيّ والسِّياسيّ؛ وحول هذا الدور نسجت العلاقة بين الثَّقافة والسِّياسة عبر العصور. ومنذ القرن الثامن عشر أصبح المثقَّف، في أوروربا، يتصدى للنِّظام السِّياسيّ والاجتِماعيّ في بيئته، ويستمد منه سلطته، ومنه يستوحي رسالته ودعوته إلى الحرية والعدالة، والتقدم.

لا تزال السِّياسة في لبنان تأخذ  طابعاً مشخَّصناً إلى حد كبير؛ فلا وجود ناضجاً لأيَّة عملية مؤسَّسيَّة للسِّياسة؛ وهذا يشير إلى تخلف ما في مفاهيم البنى الاجتِماعيّة، من جهة؛ كما يقود إلى غُرْبَةٍ أكبر للمثقَّف والثَّقافة عن الفعل السِّياسيّ، من جهة أخرى؛ وعلى هذا الأساس يصبح هامش تمثيل الثَّقافة للمصالح المجتمعيَّة ضيِّقاً، وتصبح حريَّة تعبير المثقَّف عن ذاته الاجتِماعيّة أكثر انكماشاً.

إنَّ العلاقة بين “الثَّقافة” و”السِّياسة”، علاقة جدلية؛وتنبثق منها إشكاليَّة معقَّدة ومركبة، تنتهي في الغالب إلى صراع مرير بين طرفي المعادلة: “سلطة الفكر” و”سلطة السِّياسة”. بيد أنَّه لا يجب النَّظر إلى هذا الصِّراع على أنَّه صراع إلغائي على الإطلاق؛إذ لا بدَّ من اعتبارأنَّ ثمَّة ترابطاً وتأثيراً متبادلين، بين ما هو “ثقافة” وما هو “سياسة”؛ ولعلَّ في الدَّليل على هذا النَّظر ما يشهدُ له النَّظرُ في أحداث التَّاريخ الإنساني السِّياسيّ، وما يمكن أن يجد توضيحاً له في مقولة “مالك بن نبي”[1] التي تنصُّ على أنَّ الفكرة لا تقاوَم إلاَّ لأنَّها العاملُ الفعَّال المُحَرِّض في الحياة السِّياسيّة. 

قد يمكن التَّفريق، ههنا، بين مفهومي السِّياسة والسُّلطة.السِّياسة،تنبع من سلطة ما، بل هي الأداة المنفِّذة لهذه السُّلطة؛لكنَّ السِّياسة، بحدِّ ذاتِها، لا تعني السُّلطة، بل لا يمكن للسِّياسة، إلاَّ أن تكون وليدة فكرٍ ما؛ وهذا ما يؤكِّدُ أنَّ الثَّقافة ليست منعزلة عن السِّياسة، ولذا يمكن التفريق بين علاقة الثَّقافة بالسِّياسة، وعلاقتها بالاحتراف السِّياسيّ، أي علاقتها بالأحزاب السِّياسيّة التي تكمن السُّلطة في جوهرها.

إنَّ الثَّقافة، بما هي معرفة، بحاجة إلى الواقع كي تخرج من عالم المُثل وتقترب من الواقعية؛ والواقع، بما هو ممارسة عمليَّة، بحاجة إلى المعرفة كي يتعرف إلى معالم الطريق. وعلى هذا، فالسِّياسة والثَّقافة بحاجة مشتركة إلى بعضهما،وكلاهما لن يقوم بفاعليته بل يكون في حال من النقص عندما يبتعد عن الآخر. لذا لا بد من التواصل والتفاعل فيما بينهما؛كما أنه لا بد من أن تنهض الثَّقافة، أرضيَّة أساساً للسِّياسة، أي أن تكون السِّياسة مبنيَّة على فكر معرفي. ولا بد، ههنا، من الاعتراف أنه لا توجد ثقافة من دون أهداف سياسية، مباشرة أو غير مباشرة. فالثَّقافة بحد ذاتها لا يمكن أن تكون منعزلة عن المجتمع، وإلا فقدت نفسها كثقافة وأصبحت لا معنى لها. فالسِّياسة يجب أن تكمن في الثَّقافة، والثَّقافة يجب أن تكمن في السِّياسة، وأن التطور المجتمعي، كما تدل على ذلك المؤشرات السياسية في العالم، سيؤدِّي، في خاتمة المطاف، إلى إضعاف العامل الذاتي في السِّياسة، وإلى بناء السِّياسة على أرضية مؤسَّساتيَّة. وهذا ما تمكن ملاحظته بأشكال مختلفة في البلدان المتطورة من دون النظر إلى طبيعتها الاجتِماعيّة.

يرى “ميكافللي”[2]، في كتاب “الأمير”، أنَّ سلامة الدولة مقدَّمة على كل مصلحة أو شريعة؛ ويدعو، تالياً، ولاة الأمر أن يسوِّغوا عملهم للشعب بما يقنع هذا الشَّعب بتأكيد إيمانه بالشريعة وقوانين الإخلاص للحكم؛ فالحكم القوي، في تصوُّر “ميكافللي”، يمزج بين دهاء الثَّعالب وجرأة الأسود؛ وذلك سعياً إلى التفافِ حبٍّ ومهابةٍ وثقةٍ من قِبَلِ رعاياه حوله وليس سعياً إلى التفافِ خضوعٍ ومذلَّةٍ و استسلام.

تتجلى أساسيَّة نجاح ربط الثَّقافة بالسِّياسة عبر تركيز عالم السِّياسة الأمريكي، دفيد إيستون[3]، على التَّوزيع السُّلطوي للقيم في المجتمع؛ إذ يرى إيستون أنَّ بإمكان رجل السِّياسة أن يتبنَّى سياسة معيَّنةً أو يتَّخذ قراراً ما أو يرجِّح قيمةً على أخرى، باعتباره يمتلك قوة التَّمثيل والتَّنفيذ معا؛ وذلك بخلاف المفكِّر، الذي قد يُطلق فلسفة للقيم قد يتقبلها الناس أو يرفضوها.

وإذا ما كان المثقَّف، كائناً رافضاً بطبعه، يعيش بالأفكار، ومن أجل الأفكار؛ ويقوم بتوظيف كامل الأفكار، بوصفها قيما تقود الحياة الاجتِماعيّة؛ فيمكن القول، تالياً، إنَّ جماعة ما يمكن تسميته بالصَّفوة من المفكرين (الانتلجنسيا)، هم ضمير الأمة، وهم أولى من يمكن أن يكون ممثِّلاً للشَّعب وناطقاً صادقاً باسمه. ويطرح هذا الادعاء مسألة التمثيل المعرفي أو السِّياسيّ، لزمرة المثقَّفين ومدى صدقيتها أو شرعيتها.وما ينبغي التأكيد عليه بخصوص هذه المسألة يمكن إجماله في أن الفكر هو شهادة على عصر وعلى حكم على واقع وكشفٍ لحقيقته، من جهة؛  وأن المفكر أو المثقَّف هو الذي يحمل رسالة الفكر؛ إلا أن رسالة الفكر، وفاقاً كما يذهب إليه الأستاذ “حسن حنفي”،[4] ليست بعرض اكبر مجموعةٍ من المعلومات والسعي إلى تغطية الواقع وتغليفه بها، بدعوى نشر الثَّقافة،كما أن رسالة الفكر ليست في ترديد أي نظريات في أية بيئة حضارية كانت؛ وهي ليست، أيضاً، تقف عند استخدامٍ لما يمكن وسمه بلغة العلماء والقيام بعرض النظريات على المستوى العلمي الخالص.

يصدر التفكير إما عن مرجعية ثقافية،تتمثل بالأفكار والنظريات التي تتناول موضوعات الفكر؛ أو عن مرجعية معرفية، تتمثَّلً بمفاهيم ونظريات لمقاربة موضوع يتناول معطيات الواقع، سعياً إلى تحليل له، وتفسير. ومن هذا المنطلق يمكن التأكيد على وجود علاقة محددة بين الأفكار وبين ضروب النشاط البشري،  يصاب النشاط بالوهنِ، عندما يدير ظهره للفكرة، كما تصاب الفكرة بالشلل اذا ما انصرفت عن الاهتمام بما يمور به الواقع من قضايا وأحداث.تكمن رسالة الفكر في التعبير عن الواقع بأسلوب مباشر يؤثر فيه، وهي التحليل المباشر للواقع أو عرض الواقع؛ وتالياً، فإن المفكر الذي يقدر له البقاء، هو المفكر الذي يعبر عن واقع عصره أو يعي روح عصره. ولقد وقع العالم المعاصر في منحدر الأزمات نتيجة الحروب، والتلوث، والتقدم التقني السريع. ولقد أفقدت الفوضى العالمية المتحصَّلة عن هذه الأزمات العالم إنسجامه وتماسكه، ورمت به في متاهات، لا قرار لها؛ إذ حولت العقلانية الأفكار إلى مذاهب، وعقائد تقولب العالم في صيغ جاهزة تقضي على التنوع والتعدد والاختلاف.

يكمن مفتاح المشكلة، في توجيه الأفكار لإقرار التوازن الضروري في هذا المجال، حتى لا يبقى هناك فراغ؛ فالثَّقافة رسالة، تتجاوز الإيديولوجيات الجاذبة والخادعة، إذ الثَّقافة مجموع الصفات الخلقية، والقيم الاجتِماعيّة المؤثرة في الأفراد، تربط سلوكهم بأسلوب الحياة، باعتبارها فلسفة ومقومات للفرد والجماعة. ويقول رولان دلامبير[5]، إن غليان الأفكار، مثل السيل الجارف، يحطم الحواجز، ومثل المد والجزر في المحيطات، يلقي إلى الشاطئ بأشياء، ويحمل معه أشياء أخرى.

إذا ما كان من نظرٍ في العلاقة بين المثقَّف والفعل السِّياسيّ في إطار مجتمعي،قد يكون مجتمع لبنان أو سواه من المجتمعات، فكلٌّ منهما، بطريقة أو بأخرى، نتاجٌ مجتمعي. وإذا ما كان من تأمُّلٍ في الفعل السِّياسيّ والفكر، سواء في تعارضهما أو توافقهما، بمنظار تاريخي؛ فكل منهما يشير إلى مستوى التطوُّر المجتمعي للجماعة التي يكون فيها. يمكن القول، تالياً، إنَّ مستوى التطوُّر المجتمعي، في لبنان أو سواه، يعكِسُ فاعليَّةً كبرى على هذه العلاقة بين المثقَّف والفعل السِّياسيّ؛ إذ يزداد تغرُّب المثقَّف عن الفعل السِّياسيّ، في النُّظم الاستبداديَّة؛ كما تنفرج هذه العلاقة، أكثر فأكثر، في النُّظُمِ الديمقراطية؛ وذلك بقدر ما تتيح، هذه الدِّيمقراطيَّة للمثقف أن يعبَّر عن آرائه بحرية وعبر أرضية اجتماعية أكثر اتِّساعاً.

***

[1]– مالك بن نبَي(1905-1973)، مفكِّر جزائري، يعتبر من أبرز رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين؛ كما يُعدُّ من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة. تركَّزت جهوده في مجالات بناء الفكر الإسلامي الحديث ودراسة المشكلات الحضارية. من أبرز أعماله: وجهة العالم الإسلامي 1954، .الفكرة الإفريقية الآسيوية 1956، النجدة…الشعب الجزائري يباد 1957، فكرة كومنولث إسلامي 1958.مشكلة الثَّقافة 1959، الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة 1959، حديث في البناء الجديد 1960، تأملات 1961، في مهبِّ المعركة 1962،.مذكرات شاهد للقرن _الطفل 1965، الإسلام والديمقراطية 1968.

[2]– نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي (1469-1527)، بالإيطاليةNiccolò di Bernardo dei Machiavelli)‏ (، كان مفكراوفيلسوفا سياسيا إيطاليا إبان عصر النهضة؛ يعتبر الشخصية الرئيس والمؤسس للتنظير السِّياسيّ الواقعي، والذي أصبحت آراؤه، فيما بعد، عصب دراسات العلم السِّياسيّ. أشهر كتبه على الإطلاق، كتاب الأمير(1513)،والذي كان عملاً  منه أن يكتب تعليمات للحكام. نُشرَ الكتاب بعد موته، وأيد فيه فكرة تقوم على أن ماهو مفيد فهو ضروري، وهي فكرة تقدِّم صورة مبكرة للنفعية والواقعية السِّياسيّة. ولقد فُصلت نظريات مكيافيلي في القرن العشرين. من أكثر مؤلفاته شهرة وانتشاراً “كتاب “الأمير“.

[3]– ديفيد إيستون David Easton، (1917-201499)، باحث أميركي من أصل كندي؛ يعد من أبرز المفكرين السِّياسيّين ممن لهم إسهامات في مجال البحوث والتحليلات السِّياسيّة التي تنظر إلى الظواهر السِّياسيّة نظرة وظيفية- وهو من أهم الكتاب والأكاديميين المتخصصين في مجال تحليل النظم السِّياسيّة؛ وهو  صاحب النموذج التحليلي الشهير لتحليل النظم السِّياسيّة المعروف باسم “نموذج المدخلات والمخرجات” – وهو ذلك النموذج الأكاديمي الذي  يدرس تقريبا في كل جامعات العالم. قام بتعريف السِّياسة على انها التوزيع السلطوي للقيم المختلفة في المجتمع؛ وسعى ديفيد إيستون في كتابه المسمى The Political System إلى الربط بين تفسير الظواهر السِّياسة وبين الوظيفة التي يؤديها النظام السِّياسيّ داخل المجتمع والتي حصرها، فيما أطلق عليه إيستون، بعملية التخصيص السلطوي للقيم.

  • من أبرز مؤلفاته:
  • 1951, The Decline of Modern Political Theory, in Journal of Politics
  • 1953, The Political System. An Inquiry into the State of Political Science, New York: Knopf.
  • 1957, An Approach to the Analysis of Political Systems, in World Politics
  • 1965, A Framework for Political Analysis, Englewood Cliffs: Prentice-Hall.
  • 1965, A Systems Analysis of Political Life, New York: Wiley.
  • 1966, Varieties of Political Theory, (Ed.), Englewood Cliffs.
  • 1969, Children in the Political System – Origins of Political Legitimacy, (with Jack Dennis), McGraw-Hill.
  • 1990, The Analysis of Political Structure, New York: Routledge.
  • 1991, Divided Knowledge: Across Disciplines, Across Cultures, (Ed. with C. Schelling).
  • 1991, The Development of Political Science: A Comparative Survey, (Ed. with J. Gunnell, and L. Graziano), New York: Routledge.
  • 1995, Regime and Discipline: Democracy and the Development of Political Science, (Ed. with J. Gunnell and M. Stein).

[4] – حسن حنفي (1935 – ) ، مفكر مصري، يعتبر من منظّري تيار “اليسار الإسلامي” وتيار “علم الاستغراب“، وأحد المفكرين العرب المعاصرين من أصحاب المشروعات الفكرية العربية؛ له عدد من المؤلَّفات في فكر الحضارة العربية الإسلامية. منها: “تأويل الظَّاهريَّات” و”ظاهريَّات التَّأويل”.

[5] – رولان دالمبير  Jean le Rond d’Alembert))، (1717- 1783)، عالم رياضيَّات وفيلسوف وموسوعي فرنسي. برز بإشرافه على إصدار “موسوعة الفنون والعلوم والحرف” بالاشتراك مع  دنيس ديدرو؛كما اشتُهر أيضاً بأبحاثه في الرِّياضيَّات  في مجال المعادلات التَّفاضليَّةوالاشتقاق الجزئي.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *