من انتفاضة الغضب إلى ثورة التغيير

Views: 756

د. مشير عون

(الأربعاء 6 تشرين الثاني 2019)

للثورات في العالم أزمنتُها وقرائنُها وأحوالُها وقضاياها وآفاقُها ومصائرُها ومآلاتُها. وعليه، ميَّز الفكرُ السياسيّ المعاصر الهيجانَ من العصيان، والعصيانَ من الانتفاضة، والانتفاضةَ من الثورة. يبدو لي أنّ اللبنانيّين يختبرون اليوم هذه الأحوال كلَّها على شيء من الالتباس والاختلاط. في أذهان بعضهم الحراكُ هيجانٌ، وفي ظنّ بعضهم الآخر عصيانٌ، وفي اعتقاد كثيرين منهم انتفاضةٌ، وفي رجاء الجميع ثورةٌ. يبدو لي أنّ ما نشهده في لبنان هو ائتلافُ جميع هذه العناصر في بوتقةٍ غامضة ما استطاع أحدٌ حتّى الآن أن يستخرج لها اسمًا جامعًا أو عنوانًا شاملًا. 

من بعد الثورات الدِّموقراطيّة الثلاث الكبرى، الإنكليزيّة الأولى (1642-1652) والثانية (1688-1689) والأمِريكيّة (1765-1783) والفرنسيّة (1789-1799)، والثورات الاجتماعيّة (البولْشِفيّة 1917) والثقافيّة (الصينيّة 1966-1976) والدينيّة (الإيرانيّة 1979)، دخل العالم كلُّه في ثورة علميّة تقنيّة تواصليّة غمرت جميع هذه الثورات، وجعلت كلَّ حراك ثقافيّ واجتماعيّ وسياسيّ واقتصاديّ يدخل في سياق التحوّل المعرفيّ الكونيّ الشامل الذي ولّدته ثورةُ التكنولوجيا الأخيرة في جميع أبعادها ومقتضياتها ونتائجها وآثارها. 

أقول هذا كلّه لأبيّن أنّ المجتمعات المعاصرة لا يمكنها أن تثور إلّا من خلال النماذج المعرفيّة والآليّات الإجرائيّة والقوالب الإبلاغيّة التي فرضتها العولمة الكونيّة الجارفة. قد تنتفض هذه المجتمعات وتتمرّد وتنقلب انقلاباتٍ شتّى. غير أنّ هيجانها لا يستطيع أن يُنتج لها اليوم تحوّلًا بنيويًّا جذريًّا يُعتقها من إطباق الزمن التكنولوجيّ عليها.

ينطبق هذا الوصف أيضًا على المجتمعات النامية التي لم تدخل زمن الحداثة الفكريّة دخولًا كاملًا. من هذه المجتمعات المجتمعُ اللبنانيّ الذي يصبو جمعٌ غفيرٌ فيه إلى ثورة كبرى تصيب جميع حقول الحياة اللبنانيّة. يبدو لي أنّ مثل هذه الثورة المعرفيّة الشاملة تحتاج إلى تصويب فكريّ سديد. فالمجتمع اللبنانيّ يجب عليه أن يثور فينتقل من طور القرون الوسطى إلى طور الحداثة، وذلك قبل أن يأمل في الانتقال إلى طورِ ما بعد الحداثة. غير أنّ الانتقال الأوّل لا يتيسّر للّبنانيّين طالما استمرّوا على تصارع في تصوّرهم الثقافيّ، واضطراب في مُتّحدهم الوطنيّ، وتنازع في مؤتلفهم الاجتماعيّ. وعلاوةً على هذا الاضطراب، يصطدم الثوّار اللبنانيّون بإعاقات العبوديّة الداخليّة والتبَعيّة الخارجيّة. ذلك بأنّ أغلب اللبنانيّين ما برحوا يستعبدون أنفسَهم لطوائفهم ولزعمائهم، ممّا يُسوِّغ لطوائفهم وزعمائهم أن يخضعوالأوامر السياسات الخارجيّة العربيّة والإقليميّة والعالميّة. تحرّرُ الفرد اللبنانيّ يُبطل التبَعيّة الخارجيّة.

ومن ثمّ، فإنّ جهود الثوّار اللبنانيّين، ولاسيّما الشبّان والشابّات منهم، ينبغي أن تتعاظم وتتضافر من أجل الانتقال من طور الانتفاضة العابرة إلى طور الثورةالشاملة. شروط الانتقال كثيرة. أوّلُها أن يدرك اللبنانيّون الثائرون صعوبة الانعتاق من سطوة النموذج المعرفيّ التكنولوجيّ الكوني السائد في العولمة الجارفة. ثانيهاأن يعملوا على الخروج من زمن القرون الوسطى والدخول في الحداثة. ثالثُهاأن يحرّروا أنفسهم من العبوديّة لكي يتحرّر لبنان من التبَعيّة.رابعُهاأن يبتكروا نموذجًا جديدًا في البناء الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ يؤهّلهم في إعادة ترميم الكيان اللبنانيّ بأسره.خامسُها أن يقتنعوا بأنّهم ما زالوا في المراحل الأولى من التغيير، وأنّ التغيير البنيويّ الشامل يستوجب التصبّر والتجلّد، والمجاهدة والمثابرة، والعلم والفطنة، والحنكة والمراس. فالمجتمع اللبنانيّ الذي سار على هذا النهج طوال مئة عام لا يمكنه أن يتبدّل تبدّلًا حقيقيًّا في مئة يوم. لتكن إذًا اليوم بداية الثورة اللبنانيّة التي تدرك موقعها في السياق العالميّ والعربيّ. فتجتهد في تقويم الوعي الذاتيّ الفرديّ لدى كلّ إنسان لبنانيّ يروم أن ينتقل من حالة الشاة المسوقة المجدوعة إلى حالة الفرد الحرّ المستقلّ. إذا استطاع اللبنانيّون أن يكتشفوا مباهج الحرّيّة الفرديّة الذاتيّة، أمكنهم الانتقال بالانتفاضة الغاضبة من حالة الهيجان الساخط إلى حالة الثورة البنيويّة الشاملة.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *