كلّنا عباقرة لولا..

Views: 518

أميرة غنيم

يُولد الإنسان وجسدُه مجهّز بيولوجيّاً بأكثر موجودات الكون تركّباً وتعقّداً وغموضاً. نسيج هلاميّ رخو مخزون في تجويف الجمجمة بين العظم الجبهيّ والعظم الجداريّ، لا يزيد حجمه التشريحيّ عن مقدار ما تحمله راحتا اليدَين إذا ما تلاصقتا، ولا يربو وزنه على ثلاثة أرطال. شكله كئيب منفّر متى انكشف لعَين الرّائي، شبيه بفلقتيْ حبّة الجوز مُجتمعتَين، إلّا أنّه رماديّ مغضّن مشوب بحمرة ذميمة باهتة تكسوها سوائل مُخاطيّة خاثرة تغلغلت لُزوجتها خَلَل أجزائه كي تمسكها فلا تنفصل. حتّى ليكاد المرء يتساءل: كيف يُمكن لهذه المادّة الدبقة القبيحة المسمّاة دماغاً أن تنطوي على سرّ الوجود الرّائع؟

يوشك الدماغُ أن يُعادلَ، بتركّبه من جُزيئاتٍ هائلة العدد، تركّب الأفلاك وأبراجِها والسماوات وأطباقها، بل العالَم بأسره. فكأنّما يحمل الإنسان في ظلمة رأسه “عالَماً صغيراً مُختصَراً من العالَم الكبير”، على حدّ عبارة إخوان الصفا. حتّى ليكاد النظر في الدماغ وتركيبه أن يغني المتدبّر عن تفحّص الكون وأقسامه. ذلك أنّه، إذا احتكمنا إلى آخر المعطيات التي تزوّدنا بها بحوث عِلم الفيزياء الفلكيّة، يكافئ عدد النورونات التي ينطوي عليها الدماغ البشريّ ما يُظنّ أنّه مقدار الأجرام السماويّة في واحدة من المجرّات الكونيّة. أمّا إذا استفتينا عِلم الأعصاب التشريحيّ في ما تشتغل به هذه النورونات، ألفينا آخر الأبحاث النظريّة تحصي على وجه التكهّن حوالى خمسة عشر ألف مليار خليّة دبقيّة تحفّ بالخلايا العصبيّة وتلزق بها لتزوّدها بالطاقة الكهرومغناطيسيّة وتضمن ترابطها وتفاصلها في آن واحد. ويُعادل هذا الرقم المدوّخ عدد النجوم والأفلاك في مئات المجرّات. وأمّا النورانات نفسها فلا تنفكّ تولد مثل الشموس كلّ يوم أو تموت، ويتّصل بعضها ببعض بفضل أنظمةٍ شبكيّة بالِغة التعقّد يصل عددها إلى سبعة آلاف نظامٍ بالنسبة إلى الخليّة العصبيّة الواحدة. والعجيب أنّ هذه الأنظمة تسمح للخليّة بأن تتبادل المعلوماتِ مع غيرها وفقاً لعشرة آلاف إمكانيّة مختلفة بفضل نقاط اشتباك عصبيّ يبلغ عددها، على القشرة الدماغيّة فحسب، ما يربو على مائة وخمسة وعشرين مليون مليار نقطة اشتباك، أي ما يُعادل تقريباً عدد النجوم في ألف وخمسمائة مجرّة. وأمّا الأسلاك الدماغيّة الناقلة للإشارات العصبيّة بين الخلايا العصبيّة في ما بينها، وبينها وبين الخلايا العضليّة، فإنّها قصيرة نسبيّاً إذ لا تُعادل من حيث الطول سوى أربع دَورات كاملة حول الكرة الأرضيّة!

طاقات مهولة وإمكانات مجهولة

عن النشاط العصبيّ للدماغ تتولّد طاقة كهربائيّة بسيطة يقول عُلماء الأعصاب إنّها تعادل من الناحية النظريّة ما يحتاج إليه تنويرُ مصباحٍ صغير يشتغل بقوّة عشرين واطاً. والغريب أنّ هذه الطاقة الضئيلة، بالمقاييس التي تقدّر بها القدرة الكهربائيّة، هي التي أوجدت العالَم المنير كما نعرفه اليوم بمولّداته الكهربائيّة الصناعيّة ذات القدرة الفائقة، وبمحطّاته المتطوّرة لاستخراج ضروب الطاقة المتنوّعة وتكريرها وخزنها وتحويلها. وما من شكّ في أنّ عشرات ملايين السنين من التطوّر الطبيعيّ كانت كفيلة بتجويد عمل الدماغ البشريّ بحيث تمكّن من أن يركّز نشاطه على الأساسيّ الحيويّ ويهمل، في المقابل، ما يبدو له من باب العرض الزائد. وأغلب الظنّ أنّ مشغل حفظ النَّفس الذي يسمّيه الناس “غريزة البقاء” لم يكُن الهمّ الوحيد للدماغ البشريّ خلال سيرورة الارتقاء وإن كان مُستأثراً، ولا شكّ، بالعناية الفضلى. ولهذا السبب ارتقى الإنسان عن الحيوان درجة، فأَوجد اللّغة والرياضيّات، واخترع العمارة، واستنبطَ العلوم والفنون والآداب، واعتنقَ الأديان.

أمّا ما يقعُد دونه الدماغ البشريّ ويقصر عنه فلا يبلغه، ويُعجزه فلا يُدركه، فالظاهر أنّه لا يُعرف بعد. وأرجح الظنّ أيضاً أنّه لم يخلق قطّ ولن يُخلق أبداً. ذلك أنّ عدداً محدوداً من النسخ المتميّزة الممثّلة للدماغ البشريّ، وهي النسخ التي نسمّي أصحابها عباقرة ونوابغ، لا تنفكّ تؤكّد على مرّ التاريخ أنّ طاقة الدماغ الحقيقيّة لم تُسْتَكنه بعد، وأنّ ما خفيَ منها أعظم ممّا ظهر، وأنّ المستحيل هو مجهول مؤقّت لا غير. فهذه “شاكونتالا دافي” (1929-2013) ابنة مدرّب الأسود الهنديّ التي انقطعت عن الدراسة طفلة وقضت شبابها في السرك تقدّم عروضاً ترفيهيّة للمُشاهدين، تنجح في استخراج الجذر التكعيبيّ للعدد 188138517 أسرع من الحاسوب، وتحسب الجذر رقم 23 لعددٍ متكوّن من 201 رقمٍ في أقلّ من دقيقة واحدة، وتحسب ذهنيّاً في أقلّ من ثمانية وعشرين ثانية ضارب عددَين يتكوّنان من 13 رقماً. والأعجب من ذلك أنّها نجحت خلال حياتها في جمع ثروة طائلة بفضل قدراتها في التنجيم! وهذه “بريانشي سوماني”، المُلقَّبَة بالحاسبة البشريّة، تتمكّن خلال مُسابقات كأس العالَم للحساب الذهنيّ سنة 2010، وسنّها اثنا عشر عاماً، من حساب عشرة جذور تربيعيّة لأعدادٍ غير صحيحة بثمانية أرقام بعد الفاصلة العشريّة، وذلك في أقلّ من ثلاث دقائق! أمّا الإسبانيّ “ألبرتو كوتو”، بطل السرعة بلا مُنازع في الحساب الذهنيّ، فقد تمكّن من جمع أعدادٍ مكوّنة من 100 رقمٍ في 17 ثانية لا غير، أي بمعدّل ستّ عمليّات حسابيّة ذهنيّة في الثانية الواحدة!.. بينما تمكَّن سنة 2018 فتىً كوريّ من تحطيم الرقم القياسيّ العالَميّ للزمان المستغرَق في حلّ مكعّب روبيك ذي مليارات الإمكانيّات في التباديل، وذلك في أقلّ من خمس ثوان!

فهل إنّ أدمغة هؤلاء العباقرة أكبرُ من دماغي ودماغك؟ وهل تنطوي على عدد من النورونات يفوق عدد نوروناتي ونوروناتك؟

الجواب بالنفي قطعيّاً. فلئن كانت عضلات الجسم تكبر بالتمرين وتتمدّد وتنتفخ، فيكون جسد البطل في رفع الأثقال أضخم من أجسادِ جلِّ مَن سيقرأون هذا المقال، فإنّ الدماغ المحشور في تجويف الجمجمة لا يتغيّر بالتمرين حجمُه، ولا تزداد بمرور الزمن مادّتُه، ولا يربو عددُ أجزائه؛ إذ لا يختلف دماغ بطل الحساب الذهنيّ عن أدمغة سائر البشر الذين يجدون، مثلك ومثلي، صعوبة في ضرب 15 بـ 25. لمَاذا، إذن، ينجحُ بعض البشر في ما يفشل فيه سائرهم؟ ولمَ لا يولد للبشريّة كلّ يوم ألبرت أينشتاين أو إسحاق نيوتن أو أرسطو أو ابن خلدون أو ابن رشد والحال أنّ الدماغ من أعدل الأشياء قسمة بين الناس إذا استعدنا بتصرّفٍ عبارة ديكارت الشهيرة؟

وحدة مُعالَجة مُشترَكة وبرمجيّات مُختلِفة

حاولت العلوم العصبيّة العرفانيّة أن تُقدّم ما يشبه الجوابَ عن هذه الأسئلة. فقد تمكّن فريق بحث فرنسيّ سنة 2001 من دراسة دماغ النابغة “رودجر قام” بينما يجري ذهنيّاً لعبته المفضَّلة في قسمة أعداد أوّليّة قسمة ذهنيّة يصل بها حتّى الرقم الستّين بعد الفاصلة. استخدم العُلماء تقنيّة التصوير المقطعيّ بالإصدار البوزيترونيّ المعروفة في الطبّ النوويّ بمُختصر (PET (positron emission tomography. وهي تقنيّة تقوم على اكتشاف أزواج من أشعّة غاما بعد حقن الجسم بمادّة مشعّة تتفاعل مع جزيء حيويّ فعّال كالغلوكوز مثلاً فتتركّز تلك المادّة المشعّة بالعضو المُراد فحصه، ويتمّ تسجيل القياس الإشعاعيّ للعضو بعد أن تُبنى له صورة ثلاثيّة الأبعاد بواسطة الحاسوب. سمحت هذه التقنيّة حين استُخدمت على “روجر قام” الذي تطوّع لخوض التجربة، بإبراز فضاءاته الدماغيّة المُستهلِكة لأكبر كميّات الغلوكوز خلال انشغاله بحلّ مشكلة حسابيّة معقّدة. وأُخضع متطوّع بإمكانات عاديّة في الحساب الذهنيّ للتجربة نفسها، وقدِّمت له المشكلة الريّاضيّة نفسها، ثمّ قارنَ العُلماء بين القياسات الإشعاعيّة للدماغَين للتعرّف إلى الفضاءات المنشّطة في كليهما، فكانت النتيجة مذهلة. فقد تضمّن التقرير الذي نُشر في أشهر المجلّات العِلميّة في مجال عِلم الأعصاب أنّ كلا الدماغين قد استهلك كميّات مُرتفعة من الغلوكوز في الفضاءات الدماغيّة نفسها، أي تحديداً في تلك الفضاءات المتوقَّع منها أن تُنشّط بمناسبة الحساب الذهنيّ عند عامّة الناس. غير أنّ العُلماء لاحظوا في المقابل أنّ مَواطِن إضافيّة من دماغ عبقريّ الحساب قد تلوّنت باللّون الإشعاعيّ خلال الفحص بما يدلّ على استهلاكها لكميّات كبيرة من الغلوكوز وإذن على تنشيطها خلال التجربة. وبتفحّص تلك المَواطِن ومعظمها في المُخيخ، تبيّن أنّها لا تُنشَّط عند عامّة الناس أبداً أثناء الحساب الذهنيّ، بل قليلاً ما تُنشَّط بمناسبة النشاط الذهنيّ في عمومه. فقد اقترن تنشيطها في العادة بالأداء الحركيّ، إذ هي المسؤولة عن حفْظ التوازن وعن تنسيق الوظائف العضليّة عند الحركة. والمُستَنتَج من ذلك، إذا استعرنا اللّغة الإعلاميّة، أنّ عبقريّ الحساب يَستخدم بالانطلاق من الجهاز نفسه الذي يملكه البشر بالتساوي في ما بينهم، برمجيّات أكثر نجاعة. أو إنّه، إذا رمنا الدقّة، يمزج بين برمجيّات في التشغيل لم يألف عامّة الناس المزج بينها، وإنّما جعلوا لكلّ منها استعمالاً منفصلاً عن استعمالات الثاني. فيغنم من ذلك المزج كفاءة لا يتخيّل الواحد منّا أنّها كامنة بالقوّة فيه.

كلّنا عباقرة لولا..

إنّ العبء العرفانيّ لمشكلة رياضيّة على الدماغ بمنزلة الحملِ ترفعه اليد، في المثال. وإنّما صنيعنا ونحن نباشر مشكلةً رياضيّةً فنفشل فيه فشلاً ذريعاً، كصنيع اليد تريد أن تحمل ثقلاً بمجرّد الخنصر. فلو استخدمت اليد راحتها بتمامها ووزّعت الثقل على الأصابع الخمس لَوزر بعضها بعضاً حتّى يهون العبء ووزنه، ويَيسُر على الرافع التصرّف فيه. وبالمثل، فإنّ “الأشخاص العاديّين”، في التمثّل الشعبيّ للمفهوم، هُم الذين يسيئون توزيع الأثقال العرفانيّة على أجزاء الدماغ، فيريدون لفضاء واحدٍ أن يتحمّل ما يُمكن توزيعه على فضاءات مختلفة تُصيِّر بتعاضدها العسير يسيراً والثقيل خفيفاً.

استناداً إلى هذه المعطيات الاختباريّة التي تكشف عنها المُقارنة بين الدماغ ذي الإنجاز الخارق والدماغ العاديّ، فإنّ بعض الباحثين في ما يعرفُ بإرغونوميا الحياة الذهنيّة للبشر لا يتردّدون في الإصداع بحقيقة مبهجة، وهي أنّ كلّ الناس عباقرة بالقوّة. وعليه، فإنّه يُمكنني، أنا التي أُخطئ غالباً في عمليّة حسابيّة بسيطة، أن أتفوّق على بطل العالَم في الحساب الذهنيّ بمجرّد أن أنهي تربّصاً بخمسين ألف ساعة عمل (فقط!) في إنجاز عمليّات حسابيّة ذهنيّة!

هل من المُمكن إجرائيّاً قضاء كلّ هذا الوقت في أداء نشاط واحد؟ الجواب هو نعم بشرط أن تكون صاحب شوق، عاشقاً لما تقوم به، كما هو حال كلّ الذين نبغوا في مجال ما. فهل كلّنا عباقرة لولا غياب الشوق؟ أغلب الظنّ أنّ الأمر كذلك وأنّ سرّ العبقريّة هو صرف الدماغ نفسه لما يعشق دون حساب. وإن صدق هذا فإنّه يعني أنّ وقود حركة الدماغ هو الشوق لا غير، يسخّر طاقاته الكامنة في نشاط مستمرّ لا يكلّ ولا يملّ حتّى بلوغ الكمال أو ما يقرب منه. ألا يجعلنا هذا نقرأ اليوم بعَينٍ جديدة قول التوحيديّ “متى كانت الحركة بشوق طبيعيّ لم تسكن البتّة”؟

***

(*) كاتبة وجامعيّة من تونس.

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *