” كَفَن”

Views: 680

هدى عيد              

*”الشّخص الّذي لديه فكرة خاطئة عن الحياة، ستكونُ لديه دوماً فكرة خاطئة عن الموت”( توليستوي)

 

ارتبكَ سعدون عندما وجد نفسَهُ وحيداً، معَ الميْت المكفّن، في حفرة القبر العميقة.

 التّراب مُوحلٌ، مبلّل، بارد مثلُ هذه الأيّام الثّقيلة الّتي تمرُّ على أهالي البلدة. رفعَ رأسَه، نظر إلى الأعلى، إلى حيثُ وقف الرّجال الثّلاثة الذّين قاموا بحمل النّعش. لم يلمح سوى أطراف أربع أقدام. قدّرَ أنّ العامل الأجير، وهو الرّجل الثّالث، قد تراجع إلى الخلف. مجرّد غريب تمّ استدعاؤه على عجل، عندما تعذّر حملُ النّعش الّذي كان ثقيلاً بشكل لا يُطاق. تذكّر أنّ المرحوم كان سميناً طويلاً عريضاً. هامَة بلا فائدة، لم تنفع في توليد الحبّ حياله في صدور مَن عرفوه.

استعاد سعدون في رأسِه صورةَ موكب الدّفن الهزيل. أربعة رجال ليس إلاّ. ثلاثة حملوا الصّندوق الخشبيّ متعجلّين مُثقَلين، وهو الرّابع الّذي تقدّمهم. راحوا يسيرون بخطىً حثيثة غاضبة. خيّلَ إليه أنّهم لو تمكّنوا من رَمي حملِهم، والتّخلّص منه بطرحِه في وسط الطّريق، لما تردّدوا.

كان الميْتُ ثقيلاً كدُبّ كما قالوا. تخلّفَ معظمُ رجال عائلته الكبيرة عن حضور مراسم جنازته. حالة الذّعر الّتي تسكن في النّفوس لم تعد خافية على أحد. شيخ البلدة الّذي لم يكن يتنازل عن فعل الصّلاة، ولا يتخلّى عن سعادته الكامنة في قيادة الأموات إلى حُفَرِهم النّهائيّة الضّيقة، في مقبرة البلدة، هو الآخر قد تخلّف!

 اتّصل به. سلّمَ عليه بتعالٍ، ثمّ قال له باقتضاب:

  • تقدّمْ أنت الجنازة يا سعدون، وصَلِّ في الموكب. أنا مريض، لست على ما يرام.

“كاذب”.

قالها سعدون في سرّه، لكنّه أجاب باستكانة، وبحماسةٍ مكبوتة:

  • هل سيقبلون؟
  • كلّ شيء مقبول في هذه الأيّام.

هلّلَ في داخله.

يحبّ رَفعَ صوته بالآذان، بالأدعية، وبالصّلوات. يُطربه الأمر بشكل مذهل. ينتشي حين يقرأ القرآن، على مسامع الأولاد القلائل الّذين يؤمّون ساحة المسجد، أيّام الجمع. يقرأ باستمتاعٍ وبثقة، لكنّه يضطرّ في كلّ مرّة، إلى التّوقف الفجائيّ، ليصرخ بأحد المشاغبين، عندما يراه يضحك متهكّماً غامزاً أقرانه، ليقول به بلؤم يجْهَد لاستحضاره:

  • اخرس وَلَه، أو اخرج من المسجد قبل أن أصفعك على مؤخرتك.

يمارس دور الشّيخ باعتداد، ثمّ يتنحّى، وينزوي عند وصول الأخير إلى باحة المسجد.

يعتقدُ سعدون أنّ صوته رخيم؛ يؤمن ويكاد يجزم بذلك، على الرّغم من أنّ الآخرين قد لا يتّفقون معه على هذه الحقيقة الملتبسة. لا ينسى أنّ زوجة هذا الميْت نفسه كانت قد نهرَته، في أحد المجالس العامّة، قائلة له بتهكّم ساخر:

  • شو يا سعدون تظنّ أنّك الشّيخ عبد الباسط عبد الصّمد حتّى تطربنا بصوتك في كلّ حين ؟ من سمح لك أيّها العكر… برفع الآذان؟ ألم يخبرك أحد أنّ صوتك مِنْ ” أَنكرِ الأصوات، وإنّ أنكرَ الأصواتِ لَصوتُ مَن يا سعدون، ها؟ أنت أدرى منّي أيّ صوتٍ أعني طبعاً، مؤكّد أنّك عرفت”؟!

“شرمو… ليس إلاّ”.

 قال الكلمة يومها، في قلبه، ولم يجرؤ على الجهر بها. تلك المرأة لها سطوتها في البلدة، على النّساء والرّجال معاً، لذلك لن يدخل في مواجهة مكشوفة معها.

تنبّهَ كم انقلبَ حال الشّيخ بمرور الأيّام، كما انقلب كلّ أحد، وكلّ شيء في الحياة. صارَ الشّيخ يلجُ المسجدَ عابساً ناظراً بحدّة، فيتراجع هو إلى الخلف وينكمش.

 تغيّرَ الرّجل كثيراً، أكثر ممّا تخيّل سعدون، أو سواه يوماً! كان في البداية شابّاً خجولاً لطيفاً، يدخل إلى باحة المسجد على استيحاء، يغضّ طرفه ويُبسمل، ويتبسّم طوال الوقت، للصّغير وللكبير. يعلي من شأنه، ومن شؤون الآخرين حين يخاطبهم. باتَ الآن شديد الاعتداد بذاته، ناريّ النّظرات والالتفاتات كأنّه اكتشف سرّ الحياة والموت، وامتلك القدرة على إدخال النّاس إمّا إلى جنّةٍ، وإمّا إلى نار.

 استخفّ هو به في بداية الأمر، لكنّ تعاملَ وجهاء البلدة معه بتهيّب وبسخاء، دفعه إلى إبداء الوجل، بعد ذلك، أمامه.

نفض سعدون رأسه بقوّة دافعاً إيّاه ذات اليمين وذات الشّمال. نظر إلى الأعلى، السّماء ما زالت مكفهرّة، والغيوم تتجمع، وتتلاحقُ، وتتداخل فيما بينها، منذرة بالرّعود. ستمنحُ المطرَ الإذنَ بالهطول. عاود النّظر إلى الجثّة الملفوفة بالكفن مرتبكاً. هل سيفتح الكفن، ويكشف الرّأس لكي يستقبل الميْتُ ربَّه بوجهه عندما يبدأ محاسبته، أم يتركه يتدبّر شأنه عندما تحين تلك الأمور؟ وهل تحينُ تلك الأمورُ كما يروي الشّيخ مراحلَها بدقّة، ويتلذّذ بذكرها وبتكرار تفاصيلها، كأنّه يراها بأمّ عينيه المخيفتين، أم هو يلفّق الحكايا الّتي تغزلُ مكانتَه بين النّاس، فيشعر أنّه كلّما أمعن بذكر التّفاصيل، ازدادت سطوته على أهل البلدة؟

لا يريد الآن التّفكير بغير هذا الكفن الملفوف: أيفتحه أو يتركه مربوطاً بإحكام؟ لماذا لم يُفْتِه الشّيخُ في هذه المسألة؟ وماذا عن هذا الوباء الغريب الّذي يتحدثون عنه؟ هل يكون قد تعلّق بجثّة المأفون: برأسه، بصدره، برئتيه، أو أنّه عجز عن الإقامة  طويلاً فيه، فطار بعد الفتك به؟ ألهذا تخلّف الشّيخ عن المشاركة بالدّفن؟ هو أيضاً يخاف الموت؟ ما دام يعرفه حقّ المعرفة، ويألفه، ويُعدّ العدّة له، مثلما يعلن ليلَ نهار ما الّذي يخيفه منه إذاً؟ وإن كان الله قريبَه ونَجيّه كما يخبرنا دائما،ً أليس أولى به أن يطمئنّ إلى حمايته وحفظه له من كلّ سوء؟

هزّ رأسه بعنف علّ تلك الأفكار الشّريرة تخرج من رأسه بسرعة. لا يريد أن يكون إنساناً فاسد الطّوية. يفضّل أن يؤمن بصلاح الآخرين، وبالخير الكامن فيهم. أمامه الآن مهمة يتوّجب عليه تنفيذها. سيفتح الكفن، وأمرُه إلى ربّ العالمين. مضى على موت الرّجل أكثر من أربع ساعات، أمضوها في المشاورات والخلوات الطّويلة الّتي عُقدت قبل أن يخرجوا هم الأربعة بالنّعش. مؤكّد أنّ أيّ فيروس سيفرّ خلال هذا الوقت، لن يتحمّل نتنَ الرّجل ليسكن فيه. ها هو يعود إلى الأفكار الشّريرة، ويطلق الأحكام على الآخرين، من يعرف الحقيقة المطلقة يا سعدون، ومن يستطيع أن يفصلَ في هذه الأمور المعقّدة؟

 تشاور أهل العزاء كثيراً فيما بينهم، وعلا صوت الزّوجة القويّة أكثر من مرّة حتّى استقرّ الرّأي على من سيقوم بمواكبة المرحوم إلى مثواه الأخير. المرحوم كان ذا مكانة، ورجلاً نافذاً ذا حَوْل وطَول. أجراس الهواتف لم تتوقّف عن الرّنين مذ أطلق أنفاسه الأخيرة. لوكانت الدّنيا كما كانت  قبل ثلاثة أشهر، أي قبل أن يفتك هذا “الكَوْرَن” بالنّاس، لشاركت جماهيرُ كثيرة في الجنازة، ولغصّت البلدة بالسّيارات الفاخرة، وبأصحاب البِزّات الأنيقة، وبالرّوائح الّتي تقتحم الأنوف، ولأظهرت جموع غفيرة حزنها، وصفّق بعضٌ منها على صدره وفخذيه، وربّما نتف بعضهم الآخر شعرَه ليظهر قهره وألمه، بل قد يبكي أحدهم بشجنٍ، وتسيل مياهُ أنفه على شفتيه.

سبحان مغيّر الأحوال، وأعوذ بالله من الشّيطان الوسواس الخنّاس، ما لكَ يا سعدون وللجماهير، ولهذه الأحاديث النّافقة؟ افتح يا سعدون هذا الكفن وخلّصنا، وستطلق بعدها رجليك للرّيح بعيداً عن هذه المحنة الّتي “دَبَّك” الشّيخ فيها دَبَّاً، وأنت انصعْتَ لأوامره كالأبلهِ المصعوق.

هي مجرّدُ جثّة أخرى تتولّى فتح كفنها ليس إلاّ. كم فتحتَ من أكفان في حياتك الّتي مرّت كبَرق، وكم سهّلتَ لأصحابها بدايات الحساب العسير! مأجورٌ أنت ومباركٌ يقولون لك. يتداولونها بسعادة، بعد أن تصعد من الحفرة، شاحبَ الوجه متعرّق الثّياب. تشعر حينذاك بالتّعويض، وبزهوٍ خفي لأنّك لا تخاف، ولا ترتجّ لكَ أجفان، فما بالك اليوم تتلكّأ كحمارٍ حَرون؟

هذه جثّة، مجرّد جثّة كغيرها من الجثث، حتّى وإن كان الرّجل لم يعش كغيره من الرّجال. رجل طويل عريض، صاحب سلطة، وأموال مشبوهة، وفيلّا كنت تحرص في غالب الأحيان، على المرور أمام أسوارها لتراقب السّيارات العجيبة الّتي تُركَن في باحاتها الرّخاميّة الأماميّة. لم تكن تحلم برؤيته عن قرب، لأنّه كان دائماً بعيداً، ينظر إليك وإلى سواك، وكأنّه لا يرى، وها هو الآن ينتظر أن تشقّ القماش عنه، وتنظره برحمتك ورعايتك.

 تذكرُ طبعاً عندما رافقتَ صحافيّة جميلة إلى دارته، في يوم صيفيّ مشمس. يا الله ما كان أجملها، وأبهى رائحتها! قُدتَها أنت بذاتك إلى داخل الفيلا، بعد أن كانت تقف كالضّائعة  وسط ساحة البلدة. تجمّع الأولاد حولها، يتغامزون ويشيرون إلى تنورتها الّتي كانت تتطاير بخفّة، حين يلامسها النّسيم العابر، ثمَّ تلتصق  بفخذيها الّلذين بدوَا أملسين. أخذتك حمية فائرة، فاقتربت منها، وصرخت بالأولاد ليبتعدوا؛ صرختَ بحدّة، وبصوتٍ عالٍ تماماً، لدرجة أنّهم خافوا منك، وابتعدوا فعلاً، فحمدتَ لهم تأدّبَهم في ذلك النّهار.  ثمّ اقتربتَ منها بلطافة ودماثة لتسألها عن مقصَدها، لتخبرك هي بانزعاجها من الموقف الّذي زُجّت فيه،  وبأنّها تُجري تحقيقاً صحفيّاً، عن شخصيّات بارزة في المنطقة، وأنّ هذا الميت المطروح بين ساقيك الآن هو مقصدُها في بلدتكم. تريد تسائلُه عن سرّ نجاحه الباهر الّذي جعل ذكرَه يطير فوق الرّقاب، وفوق السّحاب؟

ستقودُها يومذاك أنت إليه، وسيلقاها هو بترحابٍ جَمّ، وسيبتسمُ عن فمٍ مكتظِ الأسنان كبيرها كحصان عتيق، وسيعلو صوته الجهير الأجشُّ مهلّلاً مرحّباً بها بتعالٍ ، ولن يلتفت الرّجلُ أبداً إليك، وأنت تحاول بإخلاصٍ شرحَ أسباب مرافقتك لهذه الصّبية الجميلة. ستعود، بعد ذلك، إلى السّاحة كاسفَ البال، وستتصرّفُ بخشونة مع كلّ من التقيته في مساء ذلك النّهار، وستحلم لياليَ طويلة بتلك الصّبية تعاودُ مرافقتها على درب الفيلا الفاخرة، وأنت تحسّ بقلقٍ مُخزٍ لأنّ صاحبها لم ينظرْ برهة إليك. لو نظرَ قليلاً باتّجاه عينيك.

سبحان مغيّر الأحوال الّذي يغيّر، ولا يتغيّر. بين قدميك يتكوّم الآن هذا الرّجل، ينتظر يديك تشقّان له الكفن، وتُيسّران عليه بدءَ الحساب. تسمع وقع الأقدام تتململُ حول الحفرة، وينتهي إلى أذنيك صوتُ أحدهم يقول بنفاذ صبر:

  • ها يا سعدون أين أصبحت، خلّصنا يا زلمة؟

افتح يا سعدون، واتّكل على الله، خلّصْه، وخلّصْ نفسك من هذه الورطة الّلعينة، وقل يا باسط، ويا توّاب. ولكنْ لم ستخلّصه؟ وهو لم يكلّف نفسه عناء الالتفات إليك حين قصدته. لمَ ستبرئ ذمّة الشّيخ، وهو قد تنحّى عن مسؤوليته خوفاً على نفسه؟ لو كانت الأيّام غير الأيّام لكان حملَ النّعشَ مع الحاملين، وصلّى، وكبّر، ووقف على حافّة الحفرة العميقة، ولشمّرَ عن ساعديه، ثمَّ انحنى فوقك يُوجّهك بصرامة:

  • افتح الكفن يا سعدون الله يفتح عليك، نعم هكذا تماماً، باعِد ما بين الطّرفين، وأدرْ رأس الميت إلى القبلة. نعم أحسنت، مأجورٌ أنت يا سعدون. سيدعو لك الميْتُ حتماً، والملائكة ستصلي عليك بإذن واحدٍ أحد.

أين هو شيخي الآن ليطمئنني، ويبثّ في قلبي جرأة الفتح، والقدرة على رؤية الوجه البارد الّذي كان منفّراً في حياته، فكيف به الآن وقد مات؟ وما هذه القشعريرة الّلعينة تسري تحت جلدي، وتهزّ ثبات ساقَيْ، ثمّ ماذا عن تلك المخلوقات الصّغيرة الّتي بِتّنا نستيقظ على ذكرها، وعلى سماع تفاصيل شَرّها المميت، وننام على أخبار قبضها على أرواح البشر من العالمين، هل ستنقضّ من الجثّة الباردة عليه؟

  • شو يا سعدون، كأنّك قد نمتَ مع الجثّة ! هيّا، يا رجل أسرع، بدأت الأمطار تتساقط، ألا تشعر بالمياه المنسابة،  لعنة الله عليك وعليه، اضطررنا إلى مرافقته في أسوأ الظّروف، مُتعِبٌ هو في مماته، كما أتعبنا في الحياة.

عليك يا سعدون أن تنجز هذا الأمر، وإلاّ لن تخرج من هذه الحفرة الّتي ستملؤها الوحول. ولكن من سيرى إن كنت قد فتحتَ الكفن أو تركته؟َ دعك منه، وقل لهم ببساطة أنّك فعلت ما يجب فعلُه والسّلام. لكن أين تهرب من الملائكة، ومن ربّ الدّين؟ كيف ستواجه عينيكَ في مرآة نفسك، وفي مرآة الحياة؟ الأفضل أن تحلّ رباط الكفن بسرعة، ثمّ فِرَّ لا تدري إلى أين، تجاهلِ السّؤال الّذي طالما كان يؤرّقك عن مثل هؤلاء: هل يموت شَرُّهم، ويغادر الجسد بعد أن تغادرها الرّوح، ولمَ يحيا الأشرار كلّ هذه الحياة السّخية، ويخرجون من الدّنيا في أحيانٍ كثيرة فائزين؟ أفّ لكَ من ثرثار، أنجز المطلوب منك، ثمّ اطرح أسئلتك إلى يوم الدّين، هيّا مُدَّ يدك، وقل يا رحمن يا رحيم.

الأمر سهلٌ كما ترى، وليس عليك الإمعان في التّفكير إلى هذه الدّرجة. نعم، أحسنتَ يا سعدون، أجل، أنت رجل حقيقيّ لا تعرف الخوف ولا التّردد، إنّما هو الشّيطان الّذي يوَسوسَ لك ويلهيك، فلا تُعره انتباهاً. لكن، من ربط الكفن وشدّه بهذه الطّريقة؟ عقدة واحدة تكفي في العادة. ياه، واحدة، اثنتين، وهذه العقدة الثّالثة الّتي لا تريد أن تنحلّ، ابتلّت بالمطر تماماً فصارت أمتن بكثير، كلّ العِقد رُبطت بإحكام مخالف للأصول، هل أرادوا الاطمئنان إلى عدم عودة الرّجل إلى المنزل مثلاً؟ أستغفرك يا رب العالمين، أتفوّهُ بالحماقات دونما قصد، فسامحني أرجوك.

 حسناً، أنتَ تكاد تنتهي من هذا المأزق الّلعين، فاهدأ، وقمْ بكلّ ما يجب القيام به ليس إلاّ.

 أزاحَ الشّقّ الأيمن من الكفن، فنفرتْ شعراتُ شاربِ الميت الكثّ، عاودته قشعريرة خفيفة. نترَ الشّق الأيسر بسرعة، فارتجف قلبه بعنف في صدره. ارتدَّ إلى الخلف. يا ربّ السّموات: لماذا لم يغلقوا عينيْ الرّجل الجاحظتين؟ وأين اختفت كلّ قِطَع القطن الّتي يُحشَى بها عادةً الفمُ، والأنف، وكلّ فتحات الجسد الآدميّ، هل شعر بالجوع فابتلعها جميعاً؟

يا لهذه السّخونة الّلاسعة الّتي تجتاح جسدك من قمّتك إلى باطن قدميك، ما بالكَ ترتجفُ هكذا يا سعدون؟ لا تتأمّلِ الوجهَ المُرعب الّذي انكشف بين يديك، مِلْ ببصرك عنه، واحبس هذا الهواء الثّقيل بعيداً عن رئتيك، ارفع رأسك، وشدّ أنفاسَك من السّماء، لا من الرّابض بين قدميك. تَحدَّ هذا التّراخي الّذي تشعر به يتوالى، عَلِّ رأسك يا سعدون، واصرخ بمن وقفوا قرب الحافة لينتشلوك، ثمّ ابتعد عن هذه الجثّة الملعونة الّتي تكاد تلتصق بك، فلا تفارق يديك.

 ماذا هل يتشبّثُ الرّجل بملابسك، ابتعد عنه بسرعة، وتراجع إلى الخلف. تنفّسْ، تنفّس بعمق، لا تضطرب ابتلعِ المطر الهاطل عوضاً عن الأنفاس، ماذا يحصل يا سعدون؟ كأنّك تلتصق بالكفن شيئاً فشيئاً، كأنّه يبتعلك، وصاحبه ينظر بهلع إليك. تمنيت أن ينظر إليك حيّاً لا ميتْاً، هل صرت داخل الكفن الآن، أم صار هو بين جنبيك؟ وهل هو صوتكَ ينبعثُ محشرجاً من صدرك، أم هو صوت المرحوم يتقطّع بأسى. مبتلّ أنت حتّى العظام، وخائر القوى صرت، تتلّقّف رَجع المفردة اليتيمة الّتي لا تتوقّف عن الترّدد: خلّصوني، خلّصوني، خلّصووووني، ولكن لا يبدو أنّ أحداً يسمعك بعد، قد يكونون فرّوا جميعاً، ولا من مجيب!                                           

  الوردَانيّة 29 نيسان 2020.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *