معادلة الخوف

Views: 894

نعيم تلحوق

        العالم يتغيّر، كما الله في تغيّردائم… نحن نبحث لنعرف ، وهو يبحث ليجد … كلانا متفق على البحث … نحن نريد أن نعرف أنفسنا وهو يريد أن يجد نفسه ليستقر… معادلاتان تقومان في نفس الخطوة وذات الاتجاه ، لكنهما لا تلتقيان… ومن يبحث في الكتب عن مكان للقاء فهو ساذج ، لان الخطّان متوازيان … الصورة ليست الشخص كما يظن البعض لأنها صورة … والظل أيضاً ليس هو نفسه للشيء لأنه ظل … هناك حجاب يقف بين الأثنين ليمنع التقاءهما … انه الغشاء الذي لا يحمل شيئاً إلاّ نفسه… فكما يمزق البشري الغشاء ليحصل على ولادة النطفة… كذلك الأمر يمزق المولود الغشاء ليخرج الى النور…

     اتضح لي اكثر من مرة أني كنت ساذجاً في رسم خريطة العالم الكوني، او الارادة البشرية ، لم تتحكم الانسانية بتصرفاتي حين أدركت أني غير قادر على مناقشة الصفحات السوداء في تاريخ هذا الكوكب الذي نعيش …لذا ، قررت أن أرسم طموحاً أقل هو أن أحمي ذاتي من التاريخ …كل شيء تاريخي خيالي حتماّ، كما الما بعد ، الذي تحسب أنه سيأتي فيما يكون غادر قبل أن  تخطى بأسئلتنا الصغيرة…

     أكثرتُ من البحث عن ترجمان للغة واحدة للكوكب الصغير، الضوء الذي يبرز كنقطة في مسار المشهد الكوني الميتافيزيقي، فلم أتمكن من مجاراة الأعداد الكبيرة من الجنيات والهرمونات التي تعيش تحت وطأة الحرارة والبرودة… رحت أحتفل باللغة كمصدر غذائي وحيد لمشهد الجينات ، فافترضت أني قادر على بلوغ حقل انعدام الجاذبية لأوقف هذا الضوء الباهت عن العمل ، وعن الدوران حول الشمس مرة واحدة في السنة ، لأكبر أكثر وأعرف أقل… أسهبت في التفكير عن معنى هذه الهرمونات البشرية المتكاثرة دون أن أفهم لماذا وجدت ، وكيف على الفضاء الذي يتعامل معها أن يتسع لمليارات الكواكب السيّارة . والأضواء الكثيفة والهرمونات المأسورة تحت رقعة من السواد … خلت أني أعيدُ تركيب العالم بوظيفتي … لكني تعثرت باللغة التي لم تسعفني على إيجاد ترجمان مخلص يؤكد نزوعي الى بلوغ المرمى… كنت ساذجاً حقاً، في الوصول الى أمي وأبي وفي البحث عن أجدادي وكل النساء اللواتي ضعنَ مني… كنت أريد أن أجد رغبتهنّ بي قبل معاشرة الحقيقة…

   الرغبة ، شيءٌ نظن أننا نملكه ، لكنه يصاغ بطريقة مضاعفة هارمونياّ في تصاعد مستمر نحو الهدف ، ويتضاءل في وقت لا تعود فيه اللغة جسداً بضّاً… فحين نحتمي بالجسد لنكرز الخلايا اللاجسمية فينا ، يبدأ تأثرنا باللحظة أقل وطأة من العبور بالخلايا الى الجسد المسكون بالهبات … نحن مخلوقات  حيضّية ، لأننا في رحم أمّ هي الأرض ، وكل توراثٍ لا ينبيء إلا على شبيهه أو مثيله ، فكيف نقنع أصدقاءنا من المخلوقات الفضائية الأخرى في مجرَّة لا تحيض ، بأننا أنبل المخلوقات وأروعها في المسكونة ؟ كل هذا جعل صديقي الفضائي يطرح عليّ سؤالاً محيِّراً ألاَ هو : لماذا تحتفلون بالمفرقعات والأهازيج كلما دارت الأرض دورتها حول الشمس… أليس غباءً ما يفعله هؤلاء الحائضون ؟؟

     دفعني ذلك لاستلهام العقل كوازع ورادع أخلاقي لأسال صديقي الفضائي، كيف تعيشون بلا حيض ؟! ضحك في سرّه وقال : من قال لك أننا نموت ، نحن ننتقل لملامسة أهواء النور… وهكذا تدخل الحياة لنا ، نحن من نور وهلام لا نسعى الى جاذبيتنا ، بل الى حبنا… إذا دخل الوجود اليك ، فأنت الحق، وإذا لم يفعل فأنت خارج الدورة الزمنية ؟ وخارج الوجود… الوجود هو الحب وبغيره لا نور في العالم.؟!

      نظر بشيء من الإمتياز وركن ظلّه خلفي ومضى … أنا معك ، وأنت لست ال “هنا” …أنت ال “هناك” … أما أنا فلا أحيض … لا أحيض … لا أحيض ، ما أبشع أن تكون ثمرة حيض…

اْنتظر … أنا أبحث عن حب عظيم … أين أجده؟

تكلم مع ظلّي هو سيخبرك أن ما تحت التراب تراب…

      لم أجد متسعاً لخيالي كي أهيم في ما تركه لي هذا المخلوق الفضائي … ترك ظلّاً يهيم حولي ، ولا أعرف متى يتكلم إلاّ حين أتحدث مع نفسي… سألت : هل العالم مشغول بخيارات أوسع ممّا نحظى به من لحظة تفكير، هل نحن ظلال لهؤلاء الباحثين عن معنى … ونحن نرتب أجسادنا الآف السنين لنبحث عن جدوى … ما أهمية أن نكون بشراً ، أو حيوانات مجترّة أو لبونة أو زاحفة أو غريزية لنفهم الوجود … طالما الكون كلّه مأسورٌ بنور، وحب … شيئان لا يفهمهما الظل الذي تركه لي ذاك المخلوق العجيب؟؟

    تَشَاورت مع ظنّي كي ألدَ معنى لحيرتي ، فوجدت الظل مختبئاً داخل ظنّي ولم يعطِني مساحة لأرتاد هوية أسعى اليها ، جاء الظل ليحرس شكّي وليحذرني بأن لا أعبث بمقدرات الوجود الأبيض… النور السرمدي الأبدي… المعقّد في استلهاماته للأجوبة الصريحة… بياض يفرّ كأجنحة الحلم ، وليس من يستطيع مجاراته ، بدا لي أن الأجوبة تخاف من أمكنه البياض أكثر من مساحات السواد…

          ورغم ذلك كله ، لم أفهم لماذا كتب المخلوق الفضائي الآخر جوزيف حرب محبرته من آدم حتى يوم استودع الكينونة … ألفان صفحة من مجلّد “المحبرة” قَاربتُ فيها رؤيتي الى عالم مصاب بالدنيونة وسر القيامة وهاجس الملكوت ، دون أن يظفر بعشبة ملح برية يكنفها حضنه ، أو ليمزق بها الحُجب ، ربما آثر أن يكون السّر أقل مما يعلم ، فأفشى سرّه على بياض الورق تاركاً للأمعاء الغليظة أن ترشده الى الأجوبة السليمة…هل انتهى جنونه الهاديء من سدرة المنتهى واكتفى بسُمرة الكلام؟؟                        

 

Comments: 3

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. ما دام الأمر متعلقا بالبذاءات والاسفاف والابتذال، سيسحب الفضائي ظله ويمضي مبتسما…لسيد المخلوقات. / تسلم يا رجل.

  2. نظرة تلحوقية الى الحياة والموت , الى الحب والوجود , الى ذلك الظل الممزوج بالضوء بين الابيض والأسود ..أراء فلسفية ربما نحتاج الوقت لإدراك ما يبتغيه الكاتب , لكننا بالتأكيد نلتقط بعض العبارات الفريدة التي لا تحتاج إلى نقاش ومنها ” ما تحت التراب , تراب ” .. تحية الشيخ نعيم تلحوق وتحية ايضا للراحل جوزف حرب ..

    1. انك تحدثنا عن عالمك الساكن في اعالي الكون وانك كمن يصنع جسرا لتعبر بنا الى فضائك …