قراءة  حول نصوص سردية  للشاعر نعيم تلحوق نشرت أخيرًا

Views: 1074

ميشلين مبارك

انطباعي المتواضع حول النصوص السردية الاخيرة “شيء من ذاكرة التراب” و “معادلة الخوف” التي نشرها الشاعر تلحوق، وانا لا ادعي من ورائه تحليلا او معرفة بل هي مجرد قراءة في احدى المحطات، وربما لا اسرّ للقراء امراً ان قلت في احدى محطات الرواية التي يكتبها استاذ نعيم منذ فترة.

الشاعر نعيم تلحوق والشاعرة ميشلين مبارك

 

“شيء من ذاكرة التراب”:

 في مجمل كتاباته وفي احاديثه ايضا، يتكلم الشاعر تلحوق عن “المعنى” وغالباً ما يعبّر عن الهوة السحيقة بين المعنى والوجود. ففي نصه السردي الذي نحن بصدده، يعبّر بوضوح عن بحثه الدائم عن المعنى، بحثٌ بدأ فيه عندما عاين وعايش الغياب، غياب والدٍ اقتاده العسكر نتيجة إشكال ما، لينتج عن ذلك كرها وخوفا من البدلة العسكرية. وبرأيي ليس بالضرورة ان يكون العسكري حقيقيا انما من الممكن ان تتشكل من خلاله صورة مجازية لتجسيد كره الابن (اي الكاتب) لفكرة الخضوع والتبعية. ومن ثمّ وبنتيجة هذا البحث، اصبح الكاتب على “بينة صريحة ان ما يحتاجه هو قلب امرأة تستطيعني ولا استطيعها” فكانت هذه المرأة المثالية هي الحريّة. وكمّ مدهش عندما يصف الكاتب امرأته بكل استعارات الحبّ وتنهدات العشق الى ان يمكث المعنى عنده بارتباطه بها بالرحم، حتى نتخيل انها الام وهو ابنها، هي الفضاء وهو النسيم في رحابها، هي الضوء وهو شمعتها المناضلة لعدم الخبوت. وبذلك يرسم مدرسة فلسفية عميقة الارتباط بين المعنى او الذاكرة والتراب او الوجود.

في المحصلة، لخص الفيلسوف العالمي ديكارت كل ما توصلت اليه ابحاثه ودراساته بعبارته الجوهرية “انا افكر، اذا انا موجود”. ونحن اليوم امام شاعر يرسم مدرسته الفلسفية بعبارة “انا حرّ، اذا لوجودي معنى”.

“معادلة الخوف”:

وفي مكان آخر، اي في نصه السردي “معادلة الخوف” يأخذ هذا المسار الفلسفي عند الشاعر بعدأ أعمق ليس مغايرا انما متوازيا ألا وهو المعرفة، ولعل هذا ما قصد في قوله: “معادلاتان تقومان في نفس الخطوة لكنها لا تلتقيان…”. وربّ سائل لماذا عدم وجوب الالتقاء. يأتيه الجواب بديهيا ألا وهو ضرورتهما معاً منذ بدء التكوين ليكملا “المعنى” و “الوجود” أي معنى الوجود. وبما أنه، وكما سبق وأسلفت بأنّ الهوة سحيقة بينهما، حتى اصبح الكاتب غير قادر “على مناقشة الصفحات السوداء في تاريخ هذا الكوكب الذي نعيش”. وما اكثرها، فكان من الطبيعي ان يغوص في البحث عن اجوبة لاسئلته الوجودية. وقد استعان بداية بالضوء، الاّ أنّ أضواءنا كثيرة واحيانا مخادعة، فكان التمسك باللغة، انما لم تسعفه لبلوغ الهدف، لانها تابعة بل وخاضعة للرغبة، وهذا ما لا يتوافق مع من يعشق الحرية.

لا شك بأنّ الكاتب في متابعة بحثه تلاقى مصيره بمصير صديق فضائي ولعمري بأنّ هذا الصديق هي ذاته البشرية المختبئة بظله، وحسبي بأنه كان “مستوحداً”، اقتبس هذه الصفة من الشيخ عبدالله العلايلي الذي استعملها في كتاباته بحسب مدلولها الرهباني، وهنا تسأل الذات اسئلة كانت نائمة في رغبته منذ ان كان طفلا عندما عاين الغياب. وما ذكر كاتبنا للشاعر الراحل جوزف حرب، وبشكل خاص ضخامة كتابه الوجودي الاخير “المحبرة” سوى دليل على اختباء الذات في عباءة الغياب، وانصهارها من ناحية أخرى بلعبة الوجود. ويأتي الظفر بعشبة الملح البرية مستعينا بها كأداة إضافية للوصول الى المرمى.

الشاعر نعيم تلحوق متوسطًا ميشلين مبارك وزوجها بيار أبي شهلا

 

 لماذا عشبة الملح البرية؟

ببساطة لانّ الملح هو معنى الوجود، وهنا افتح المزدوجين لاتذكر قول السيد المسيح منذ اكثر من الفي عام لتلاميذه “انتم ملح الارض، فاذا فسد الملح، فبأي شيء يُملح؟”. فأتى توظيف الكاتب هنا للمعنى ليربطه بالجذور، بالتراب، بالوجود، ويحميه من الفساد.

الجدير ذكره، بأنّ اي قارىء عندما يستلهم العقل ليفهم اسئلة الشاعر الوجودية، فلن يستطع الى ذلك سبيلا، فعليه ان يكون ابنا شرعياّ للنور، وحتما للحبّ والاّ سيبقى واقفا على عتبة الوجود وابواب المعرفة موصدة في وجهه.

ومن ثم يتراءى لنا الكاتب مستنجدا بالامام الغزالي: “الشك طريق اليقين” مستلهما اجوبة لاسئلته الوجودية التي ما فتأت تؤرق بياض ذاكرته منذ سواد الخوف. انها جاذبية البياض للسواد والعكس صحيح. 

أعادتني لعبة الالوان تلك الى قصيدة قرأتها للشاعر تلحوق في العام 2012 في ديوانه “لان جسدها” يوم كتب:

“أتناسل في سواد عزلتي

واتكاثر في الغياب

من يحنّ الى ظلالي حين

تكتمل الالوان؟”

هنا يكمن السرّ في معادلة الالوان بتعايش الظل مع الخوف وعندها يتحقق المعنى بجناحي طائر الوجود اي الحرية والمعرفة، فتتوضح لوحة الشاعر لمدرسته الفلسفية: “انا حرّ، انا أعرف، اذا لوجودي معنى”.

الشعر كالفلسفة عند نعيم تلحوق، هناك مسافة بين المقروء والامنظور في النص، بين المحسوس والمجازي، حتى ليكاد المدلول ان يتجاوز الدال في كثير من الاحيان. وكأن الوجود يخاطب الشاعر في المعنى، والشاعر يجذب القارىء انطلاقا من فلسفته الكونية. نعم، هي مدرسة فلسفية خاصة به ولا شك بأنها جديرة بالكثير من القراءة والبحث والدراسة.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. قراءة جميله تزيدنا بهجة في كتابات الشيخ نعيم تلحوق السردية ..نعم , هو كاتب حر , ولكتاباته معنى في الحياة وفي الوجود .