الرَّمزي والشَّعري

Views: 840

الدكتور وجيه فانوس

دكتوراه في النَّقد الأدبيِّ من جامعة أكسفورد

(رئيس المركز الثَّقافيِّ الإسلاميِّ)

“الرَّمزُ”، بحدِّ ذاته، وعلى سبيل المثال، طاقة كامنة بحاجة إلى من يفجرها ويعطيها الجمال الرحب لممارسة وجودها؛ “الرَّمز”، في هذا المجال، فِعْلُ”الشَّعرِي”!

قدرة “الرَّمز” على الاختصار والإيحاء، في آن، هي مصدر الشِّعريّ” فيه. أن تقول “لیلی”، في نصٍّ شِعْرِيٍّ، فأنت في مجالِ تجاوزِ الوجودِ الحرفيَّ للَّفظة/الاسم، إلى الوجودِ الشِّعريّ” فيها، أي إلى الطَّاقة الحياتيَّة والتُّراثيَّةِ والذَّاتيَّة الكامنة في هذا اللَّفظِ/الاسم. “لیلی”، ههنا، قد يعني “الحبيبة”، والحبيبة العربيَّة تحديداً، إذ “ليلى” هي الحبيبة العربيَّة الاكثر شهرة وانتشاراً في الوجودِ الحضاريِّ العربيِ. و”ليلى”،قد يعني، كذلك، “ابنة البادية”؛ بكلِّ ما في البادية من خصوصية عيش وعاطفة، إذ البادية هي منطلق وجودِ “ليلى” في الوجدان الثَّقافيِّ العربيِّ. و”ليلى”، مجرَّد مفتاح مفهوميٍّ قيميٍّ، قد يؤدِّي إلى مسالك كثيرة.

إذ يُذكر في النَّصِّ الأدبيِّ العربيِّ الاسم الرَّمز”لیلی”؛ فإنَّه يَغني الكلامَ بقدرةٍ على تقديم أبعادٍ كثيرةٍ، يبقى تحقيقها مرتبطاً بقدرة القارئِ أو مُسْتَقْبِلِ النَّصِّ على التفاعلِ معه. “لیلی”، ليس لفظاً معجمِيَّاً، بل هو وجودٌ شِعريٌّ، أو على الأقل، وعدٌ بالوجودِ”الشِّعريّ”. تجاوزَ “الرَّمز”، في هذا المقام، حيويَّتهُ الإلماحيَّة، وتفوَّقَ على طاقته في الابتعاد عن التَّصريح إلى جوهرِ مُكْنَةٍ خاصَّةٍ بهِ في الوَعْدِ بـ”الشِّعرِيّ”! هنا إيَنْبَجِسُ الفرق الأساسُ بين “الرَّمز”، في بعُدِهِ الاختِصاريِّ الرِّياضيِّ، و”الرَّمزُ” في بُعده “الشِّعريّ الانفتاحيِّ.

رموز رياضية

 

“الرَّمزُالشِّعريّ”، إذن، هو في استخدام ألفاظٍ/كماتٍ/إشاراتٍ ذات مُكْنَةٍ على انبجاسٍ للوعد بـ”الشِّعريّ” من جُوَّنِيَّاتِها؛ وهو، تاليَّاً، أكثر بكثير من أن يكون تعبيراً جامداً عن موضوعٍ تصعب الإشارة إليهِ مباشرةً أو علانيَّةً؛ بل أبعد من ذلك وأشدَّ عُمقاً نوعِيَّاً وغِنىً تكوينيَّاً؛ من”الرَّمز الرِّياضيِّ”، ذي الدَّلالةِ المحدَّدُةِ بمرجعيَّتِها المعجَمِيَّةِ التي تفترِضُ توافقاً عامَّاً عليها. “الرَّمزُ الشِّعريُّ”، غزيرُ العطاءِ وفسيحُ أرجاءِ الدَّلالة؛ و”الرَّمزُ الرِّياضيُّ، محدَّد العطاءِ ومقنَّنُ الدّلالة. رموز رياضيَّة رموز لتوجيهات حركة السَّير الآلي.

وأخرى لتوجيه حركة سير المركبات

 

لكن ليس استخدامُ “الرَّمز”، في وجودِهِ “الشِّعريّ”، بالأمر الهيِّن؛إذ يرتَدُّ “الرَّمز”، بكل ما يحمله مِن طاقةِ شِّعريّة،إلى وجود نَثْرِيٍّ، إلى مَواتٍ؛ وذلك عند ما يسيئ الأديبُ، أو المُرْسِلُ، استخدام هذه الطَّاقة؛ وكثيراً ما تكون هذه الإساءة، كما هو الحال في الزَّمنِ الرَّاهِن، عبر بعض نصوص أدبيَّة تسعى إلى صوغٍ لموضوعٍ في الوطنِيَّةِ أوالشَّهادة في مجالات التَّضحية والوفاء، والسَّير في رحاب مواجهة الأعداء جهاداً ونضالاً. قد يغشى بعض هذه النُّصوص ما قد يكون قتلاً لما يحمله “الرَّمزُ” من طاقةِ “الشِّعريِّ”؛ ويتحوَّل الأمرِ برمَّتهِ، عندها، إلى نثريٍّ يجرفُ الشِّعريَّ إلى هاوية الموت.

يعيش العرب فعل النضال والجهاد منذ سنوات طويلة . وعيشهم هذا أضحى فعل إيمان في حياتهم، فلكثرة ما تعرض هذا الشعب للتحديات، أصبح النضال والجهاد موقعين حياتيين لا يمكن الاستغناء عنهما، وباتت الشهادة وسيلة بارزة من وسائل ممارسة وتحقيق الوجود . ومن هناء تفجرت في حياتهم اليومية كوكبة أسماء مواقف / شهادات مارست النضال والجهاد وجودا ورؤية من خلال عمليات التضحية والاستشهاد . وهكذا قدر لأسماء أشخاص أن تتحول إلى رموز، أي إلى وعد بالشِّعريّ” . لم يعد اسم الشهيد، أي شهيد يختاره الشاعر، مجرد رمز رياضي اختصاري لإنسان ولد في مكان محدد، وعاش في بيئة معينة، ثم مات في ظروف معروفة من قبل الآخرين . أصبح اسم هذا الشهيد، بفعل الشهادة التي مارس، وجودة شعرية، رمزا يعد دائما بالشِّعريّ” . الشهيد، ههنا، قصيدة كاملة الوجود الشِّعريّ”، وليقارن المرء، في هذا المجال، بين ذكره لاسم هذا الشهید » قبل فعل استشهاده، وبين ذكره لاسم هذا الشهيد، بعد استشهاده . الفرق واضح . والشهید »، ما قبل الاستشهاد، مجرد اسم، مجرد رمز رياضي؛ إنه نثر، لا شعري فيه . والشهيد »، بعد الاستشهاد، وبمجرد ذكر اسمه، هو فعل شعري؛ لأنه يقود المتلقي إلى التفكير في عوالم الاستشهاد وأبعاد الفعل الاستشهادي الذي عاشه هذا الشهيد، يتحول الشهيد من الاسم والشخص إلى فعل النضال، والمقاومة، وإلى كونه فعل وجود لفكرة، ولإيمان، ولشعب، ولأمة؛ وتظل كل احتمالات التحول مفتوحة ! الشهيد، بحد ذاته، أصبح قصيدة .

تشكيل رمزي شعريِّ لإحساس إنساني

 

لقد بات من تدخل هذه الأمور الرائجة في هذه الأيام حشر اسم الشهيد “الرَّمز” القصائد والأعمال الأدبية . لا بأس، بل ضروري أن الأسماء الرموز في النص الأدبي؛ ضرورة ارتباط التاريخ بالواقع وضرورة انطلاق الرؤيا من الواقع . بيد أن شرط هذا الدخول أن يطور في الوجود الشِّعريّ” لهذه الأسماء الرموز، لا أن يبقيها على ما هي فيه من شاعرية ذاتية . فإذا ما كانت القصيدة ستكتفي، مثلا، بترداد ذكر الاسم “الرَّمز” في تضاعيف أبياتها، من غير أن تساعد القارئ على فتح أبواب جديدة في الوجود الشِّعريّ” لهذا الاسم “الرَّمز”؛ فالقصيدة تضحي جودة نثرية لا شعرية . أن يبدأ المرء من شعري واعد، فمعناه أنه يسعى إلى تجاوز البداية، الا أن يكون في أصدائها ! المهم أن لا يتحول الاسم / “الرَّمز” عن بعده الشِّعريّ” إلى بعده الإنشائي . عانى الشعر العربي المعاصر تجربة استعمال رمز السندباد . ظل السندباد، عند كثير من الشعراء، ذلك الرحالة البحري الذي يجوب الآفاق بحثا الكنوز والثروات والمغامرات . وظل هؤلاء الشعراء، عبر الاستعمال للاسم / “الرَّمز”، عند حدود نثر شعرية رمز السندباد ! بيد أن جماعة أخرى، حولت السندباد التراثي إلى سندباد آخر؛ إلى رحالة، ولكن في غير عوالم البحار . لقد حولته إلى باحث عن كنوز هي من غير اللالئ والجواهر المادية . السندباد، انطلق مع هؤلاء، من وجوده الشِّعريّ ”الأول إلى وجود شعري جديدا أصبح السندباد ذلك الإنسان المسافر المغامر الباحث عن عالم آخر فيه أبعاد ورؤى حضارية وفكرية وعاطفية جديدة، عالم قد يتمثل العالم الأساس الذي عاش فيه سندباد التراث، لكنه ليس إياه على الإطلاق . الأسماء الرموز، عامة، وأسماء الشهداء خاصة، باتت رموزًا شعرية تضيء التاريخ وتنير زوايا الفعل الذي مضى . المطلوب تحويلها إلى منارات حياتية وشعرية للفعل الذي سيأتي!

Comments: 2

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. في الواقع. مقال مفيد وعامر بالمعلومات، فهو بحث مفصل من مفاصل التأويل والتحميل الدلالي، لان الرمز هو تجاوز الجمود اللفظي .وفيه يتم تحميل المكشوف والمالوف سمة العبور الى عالم الدلالة، لان ليلى كحقيقة هي انثى لكن رمزيتها تحولت الى قيمة مختلفة في بعدها العرقي والثقافي والشعري والفني والجمالي . وهنا حمل لفظ ليلى دلالته الرمزية لتصبح كل انثى عربية هي ليلى في عشقها وجمالها وهيامها ومظلوميتها واغواءها وكل ذكر هو قيس في مروءته وفروسيته واحجامه واقدامه ووجوده وعدميته. وكل ذلك يتم في منظومة من العلاقات قابلة لتجاوز اللغة الى انزياحاتها بين شاعرية المعنى ودلالة التركيب ياخذ الرمز حيزه بين اللامكان واللازمان متجاوزا بذلك الحالة الشعورية ليلج شعرية النص فيحول القصيدة الى كم من الدلالات والعنوان الى رمز جديد
    د الفاضل الكثيري

  2. الرمز والشعري في قصيدة من مراثي الحياة.
    بدأت القصيدة بجملة فعلية إنشائي فيها مطالب وأمنيات فتراوحت بين فعل الأمر والصياغة الخبرية العادية،فجاءت القصيدة كشفا لواقع وجداني مفعم بالمشاعر المتشظية بين مستقبل مجهول وواقع مثقل بالهموم … هموم تتشارك فيه آلام وآمال ودعوات تتراوح بين المأمول والمرتجى. فالقصيدة كما بدأت بالأمر( دعوني، انتهت بدعوة صريحة وفق أسلوب النداء ألا أيها…)، وهذا نص القصيدة من مراثي الحياة

    دعوني أسوق إليكم رفاتي
    على جنب قبر بيوم مماتي

    فبثوا بخير كلام حياتي
    وقوموا بترتيل ذكر وفاتي

    وهزوا معي مصحفي في سكون
    يكون رفيقا كيوم حياتي

    ولا تظلموا كل عبد آتانا
    فنحن عباد بكل الصفات

    ورثنا الحياة تدور سريعا
    وهذا الزمان كفيل الهواة

    فإن حان وقت كوقت الرحيل
    فهبوا جميعا بعزم الكماة

    وقولوا سلاما عليه سلام
    فقد عاش في الناس غير الغلاة

    فعاش محبا نزيه اليقين
    كذا يشهد الفعل كل الرواة

    ومر كريما كجو الربيع
    ومات عزيزا بكل الثبات
    **🌿
    دعوني أسوق سنينا طوال
    كساها العذاب كساها الدمار

    فبات أنينا لوجع الدهور
    جراحا تنز وحقدا يثار

    فليت الزمان يعود قليلا
    فيخبر بالحق كيف تدار

    ويخبر انا جلسنا هناك
    على الشوك يوما فلا مستجار

    ويأتي لنا كل شيء قبيح
    بلون كريه يراه الصغار

    سألت الحياة سؤال العقول
    فتاه السؤال وضاع الكبار

    أيا أم هل تعرفين حبيبا
    إلى الشوق يهفو بقلب يغار

    أيا أرض هل تعرفين نباتا
    جفا عنه في الأصل ذاك الغبار
    **
    دعوني أسوق إليكم شعوبا
    تهاجر كالطير خلف البحار

    وتهرب من ظلم حكامها
    وظلم القضاة كضوء النهار

    يزيلوا الحقوق برأي خطير
    وحيف شنيع بكل المسار

    فبات الحمام جليس الحبوس
    وساد الظلام ظلام الدمار

    وضاق الفضاء بهذا الجميع
    ولون الجروح بتلك الديار

    فلا عز في مصر بعد انقلاب
    ولا شام فيها سنام القرار

    وتبكي الجزيرة هولا لحال
    تدرج باللؤم كل الصغار

    فلا قدس ترجو صداكم قريبا
    ولا حزب فيهم نقي الخيار

    قتلتم منانا بكل سبيل
    جفاكم زماني بكل احتقار

    أزلتم من الناس كل بصيص
    من النور يهفو بكل الوقار

    وصرتم ركاما لكل بليد
    سفيها حقيرا عديم القرار

    ألا أيها الظالم المستبد
    سيأتيك يوم بدون الفرار

    د.الفاضل الكثيري