كورونا تضع قضيّة الصحّة في دائرة الضوء

Views: 639

د. رفيف رضا صيداوي

تُعتبر مسألة تسليع الصحّة من أهمّ الإشكاليّات التي تواجه العالَم النيوليبرالي، فقد جعلت أزمةُ كورونا من القطاع الصحّي قضيّةَ القضايا، مُعيدةً إلى الأذهان مسألة ارتباط الاستعمار والإمبرياليّة سابقاً بانتشار الأمراض الوبائيّة في مناطق لم تكُن موجودة فيها من قبل، بسبب النشاط الاقتصادي للإمبرياليّة ومؤسّساتها الاقتصاديّة العملاقة، والذي كان يجري تحت شعار “تنمية المُجتمعات التي استعمرتها” (راجع شلدون واتس، الأوبئة والتاريخ – المرض والقوّة والإمبرياليّة، ترجمة وتقديم أحمد محمود عبد الجواد، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2010).

كما أنّه لا يغيب عن الأذهان أنّ تحسين الوضع الصحّي للمُستعمرات سابقاً، نُظر إليه كآليّة من آليّات الدول الاستعماريّة لتنمية مُستعمراتها اقتصاديّاً، وضمان صحّة الأيدي العاملة من أجل ضمان اسـتغلال المَوارِد المَنجميّة أو الزراعيّة. واليوم، لم تنجح العَولمَة الاقتصاديّة ونهجها النيوليبراليّ في حجْب الأشكال التي اتّخذها نشاطها الاقتصادي في تكريس اللّامساواة على الصعيد الصحّي (لامساواة في احتمالات الإصابة بالمرض والوفاة بسببه، ولامساواة في إمكانيّة الحصول على العناية، ولامساواة في إمكان الحصول على الدواء… إلخ)، ومسؤوليّته عن توليد الأمراض، ولاسيّما أنّ عصرنا وُصِف بحسب عالِم الأوبئة المصري عبد الرّحمن عمران بكونه “عصر تحلُّل وأمراض من صنْع الإنسان”، أو مسؤوليّته عن تسليع القطاع الصحّي وما يواكب هذه الظاهرة من غيابٍ للأخلاقيّات الطبّية في بعض القطاعات الخاصّة، والسعي المحموم لشركات استيراد الأدوية المَحميَّة بموجب نظام براءات الاختراع لاحتكار الأدوية والتحكّم في أسعارها، فيما تُسيطر شركات الأدوية العملاقة على سوقٍ كونيّة تفوق ألف مليار دولار… وغيرها من المسائل التي تكرِّس استغلال الناس سواء في البلدان الصناعيّة المتقدّمة أم في البلدان النامية والفقيرة، مع تبايُناتٍ تخضع طبعاً لطبيعة العلاقة التي تربط الأنظمة السياسيّة بمُجتمعاتها وبحقوق مواطنيها ونسبيّة التوزيع العادل للثروات وتنظيم القطاع الخاصّ.

فعلى الرّغم من الاهتمام العالَمي بتقليص التفاوتات الصحّية في العالَم (جهود منظّمة الصحّة العالَميّة OMS من أجل قيام “نِظام صحّي دولي جديد” منذ إعلان ألمـا- أتـا Alma-Ata لعام 1978، حول الحقّ في وصول الجميع إلى الخدمات الصحّية في العام 2000، وإطلاق استراتيجيّة خـدمات الرعاية الصحّية الأوّليّة…) الذي اشتدّ منذ نهاية تسعينيّات القرن الفائت، إلّا أنّ البلدان السائرة في طريق النموّ هي التي لا تزال تدفع ضريبة التفاوتات الأعلى والأثقل تلك (فأفريقيا الواقعة جنوب الصحراء على سبيل المثال لا الحصر، لا تزال تسـتأثر بنسبة 70% من مرضى الإيدز) بحيث يدعو الكفاح ضدّ التفاوتات العالَميّة للصحّة “إلى التفكير في أواليّات إعادة التوزيع الدوليّة، أي تلك التي تذهب إلى مـا يتعدّى إطار الدولة” (أوريـان غيلبود، في مقالته “الصحـــّة، الظُــلامة العظــمى”، من كِتاب “أوضاع العالَم 2016: عالَم اللّامساواة، إشــراف بـرتران بــادي ودومينيك فيـــدال، ترجمة نصير مروّة، مؤسّسة الفكر العربي، 2015).

بين إمبرياليّة الأمس وعَولمة اليوم

إنّ ما كشف عنه الوباء في هذا السياق، هو أنّ الاتّجاه المُتزايد للنيوليبراليّة إلى الخصْخصة وضرْب القطاع العامّ، أدّى إلى تراجُع الرعاية الصحّيّة الشاملة والعادلة، حتّى في الاقتصادات الغربيّة المتطوّرة. لذا تتقلّص الآمال في أن يكون فيروس كورونا فرصة لإعادة ضبط القطاع الصحّي وصياغة نُظم جديدة للحماية الصحيّة والاجتماعيّة، في ظلّ المشهد العالَمي المشدود نحو شركات الأدوية بانتظار توصّلها إلى لقاحٍ جديد لهذا الفيروس، والحجم المالي الكبير الذي تخصّصه الحكومات، ولاسيّما حكومات الولايات المتّحدة والصين وأوروبا، من أجل الاستئثار بالأرباح الطائلة التي ستجنيها في حال فَوزها بالسباق إلى اكتشاف اللّقاح. فبين بداية شهرَيْ آذار (مارس) وأيّار (مايو) الماضيَين، أَنفقت الولايات المتّحدة َوحدها أكثر من 1.2 مليار دولار في سباق البحث عن لقاح، فضلاً عن استثمارها في سلاسل الإنتاج التي من شأنها أن تُعجّل وتيرة فبركة الجرعات بهدف تأمين مئات الملايين منها بحلول نهاية العام الجاري؛ وكانت المُبادَرة الأهمّ على هذا الصعيد التزامها بقيمة مليار دولار مع شركة Johnson & Johnson للتمكّن من إنتاج مليار جرعة من اللّقاح (حسن شقراني، “الفيروس يُعزّز الاحتكارات: شركات الدواء تحصد أرباح الوباء”، جريدة الأخبار، 4/ 5 /2020).

وفي هذا الصدد نقلَ موقع DW الألماني عن خبيرة الصحّة إيلونا كيكبوش قولها إنّه: “لا توجد في الوقت الحالي قواعد دوليّة للتوزيع العادل للّقاح”، وإنّ “التوزيع متروك حاليّاً لقوى السوق العالميّة”، فضلاً عن الخطر المتمثّل في توفير الّلقاح في غرب أوروبا وكندا واليابان والولايات المتّحدة الأميركيّة فقط، والذي عبَّر عنه خبير الاقتصاد الصحّي يورغن فاسيم بحجّة أنّ “هذه الدول تستطيع دفع أسعار أعلى” وهي المشكلة التي يُعاني منها قطاع الأدوية دائماً.

لا أحد ينكر الجهود العالَميّة ودَور منظّمة الصحّة العالَميّة في القضاء على بعض الأمراض، ومنها الجدري الذي كان استئصاله من على وجه الأرض في العام 1977 نصراً للطبّ والنّوع البشري. لكنْ “على الرّغم من ذلك، في عالَم الفيروسات هناك جيوب أُخليت أُعيد ملؤها بسرعة. اليوم في الجنوب الخالي من الجدري كسبب رئيس لوفيّات الأطفال، قفزت الملاريا وأمراض الإسهال والالتهابات التنفسيّة الحادّة لتملأ الهوّة كقاتل رئيسي للأطفال” (شلدون واتس، م س). فيما يتبدّى وباء مرض إيبـولا الذي يعيث في أفريقيا الغربيّة منذ نهاية العام 2013، متسبّباً بأكثر من 10000 وفاة (من أصل 25000 إصابة بالمرض)، ككاشف قويّ للتفاوتات الصحّيّة العالَميّة، إن بسبب التفاوتات في احتمالات الإصابة بالمرض بادئاً والوفاة بسببه، أو في استقراره في ثلاثة بلدان تتّسم بالفقر، هي ليبيريا، وسيراليون، وغينيا (أوضاع العالَم 2016، م س).

هذه المُعطيات والشواهد تفيد بأنّ النّفاق الأخلاقي، كان ولا يزال متحكّماً بسلوكيّات الدول العظمى. فعلى الرّغم من تطوير شركات الأدوية لقاحات مؤثّرة على مستوى العالَم ضدّ الحصبة وشلل الأطفال والتيتانوس والدفتيريا، فإنّ تمويل البحوث في حالة الأمراض خارج جغرافيّة هذه الدول، وفي ما يخصّ الجنوب تحديداً، بقي قليلاً، إذ إنّ “أقلّ من 3% من التمويل المُتاح كان يُستعمل في أمراض المناطق الحارّة التي لا تزال تُهدِّد العالَم الثالث” بحسب شلدون واتس في كِتابه المذكور، حيث ينقل الأخير عن المدير العامّ لشركة “سيبا – جيجي” في سويسرا قوله إنّ “تمويل البحوث كان فقيراً لأنّ معظم مرضى العالَم الثالث كانوا فقراء جدّاً ممّا لا يجعل سوق الأدوية المُناسِبة لهم مُثيراً للاهتمام”.. هذا في الوقت الذي لم تتوقّف فيه الدول الكبرى، ولاسيّما الولايات المتّحدة وبريطانيا، عن تزويد النُّظم القمعيّة بالسلاح لقمْع شعوبها على الرّغم من وجود قوانين تمنع ذلك.

هذه الأحداث والوقائع إذا ما تمّ وضعها في السياق التاريخيّ لعلاقة الرأسمال بالسوق، قد لا تبشِّر بتتازُل النيوليبراليّة عن جشعها بعد كورونا، ولاسيّما إذا ما تساءلنا عمّا إذا كانت الولايات المتّحدة على استعداد للمُشارَكة في إنشاء وكالة عالَميّة توفِّر اللّقاح، بعدما ألغت مُشاركتها في مؤتمر الرابع من أيّار (مايو) الخاصّ في هذا الصدد، واتّهامها منظّمة الصحّة العالَميّة بالتحيُّز للصين، فضلاً عن حيازتها ما يشبه وكالة خاصّة بها اسمها “باردا BARDA” غير متوافرة في الاتّحاد الأوروبي، تُلزم الشركات بالإنتاج داخل أميركا، وعملها مع عملاق صناعة الأدوية الأوروبي “سانوفي” من أجل توفير الأدوية للسوق الأميركيّة قبل أيّ سوق آخر. هذا فضلاً عمّا كشفت عنه أزمة كورونا في العالَم من انكماش الولايات المتّحدة والبلدان الأوروبيّة على نفسها وداخل حدودها، ولاسيّما في ما يخصّ تصدير الأجهزة الطبيّة في ما بينها، وتقديم المساعدات.

لقد أعادت أزمة كورونا إلى الاعتبار أهمّيّة دولة الرعاية بعامّة، والرعاية الصحّيّة بخاصّة، وضرورة الحماية الصحيّة والاجتماعيّة، لكنّ ذلك كما تنبّه له كثرٌ يفترض تجنُّب الإيغال “في “أمْنَنَة” securitisation موضوع الصحّة بالذّات وتحويل كلّ ما يتعلّق بصحّة المُواطن (الفرد) إلى حقلٍ يخضع بامتياز لشتّى تطبيقات الذكاء الاصطناعي والبَرامِج الإلكترونيّة الشاملة وتجميع المعلومات (الإفراديّة)” (كمال حمدان، “قراءة أوَّليّة في الأبعاد الاستراتيجيّة لجائحة كورونا”، نشرة “أفق”، مؤسّسة الفكر العربي، العدد 104، أيّار/ مايو 2020). ولعلّ مردّ هذه المخاوف عائد إلى تربّص عمالقة التكنولوجيا بقضايا الصحّة. فثمّة شركات تأمين في الولايات المتّحدة تحثّ زبائنها على التزوّد بميزان شخصي متّصل لمُجازاة الذين يتمتّعون بجسم سليم. فيما الاعتماد على تكميم المعلومات التي تشخِّص الخطر يتمّ لمصلحة شركات التأمين. ومنذ العام 2014 توفّر الشركة الأميركيّة لتأمينات أوسكار سواراً متّصلاً لكلّ زبائنها، وتسمح اللّوغاريتمات التي طوّرتها الشركة بمُكافأة المؤمَّن مادّياً إنْ هو التزم بمعايير صحّيّة وسلوكيّة معيّنة، كما تُضاعف شركات التأمين من وعودها من العلاواة للمؤمَّنين الذين يقبلون التعاون معها… (راجع مارك دوغان وكريستوف لابي، الإنسان العاري، ترجمة سعيد بنكراد، 2020).

إنّها أمور تنطوي على رقابة وقحة على حياة المواطنين وتحويلهم إلى سلعة قابلة للبرمجة والتوجيه والرقابة وفق منطق السوق والاستهلاك، وخدمةً للأنظمة السياسيّة أيضاً، وبما يقودنا – بحسب مؤلِّفَي كتاب “الإنسان العاري” – إلى “حالة من الامتثاليّة والعبوديّة الإراديّة (…)، ستكون نتيجتها النهائيّة هي القضاء على الحياة الخاصّة”.

***

(*) مؤسّسة الفكر العربي

(*) نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *