جوزيف أيّوب، بعدَكَ، لم يَعُدِ النّايُ يرسمُ مزامير

Views: 401

د.  جورج شبلي

إذا كان لِما يراه المَرءُ في مَنامه صِلة قوية بما يَلهجُ به في يقظته، فجوزيف أيّوب المَشغوف بالنّاي الذي أَنطقَه معلّمه الأميّ ” فضل الله ” أمامه لأوّل مرّة، كان يتمنى لو يرى النّاي في المنام، وقد صحّت له هذه الأمنية، وقد تحوّل الحلم بعدها الى واقع، فلم يعد بين أيّوب والنّاي أَمدٌ بعيد. 

حالُ جوزيف أيوب مع الناي ابتدأت بوفاق وجرت على السجيّة السَّمحة، وتمّت بينهما الإلفة والصَّبوة بلا التواء أو تَعَثُّر، ووصل الأمر معهما الى شيء من  الحُلول، حتى أصبح أيوب في عزفه، هو وحده القادر على أن يقول للناي: هذا ما أريد أن يكون. 

إذا كنّا نعثر على أصول الأنغام مبعثرةً هنا وهناك، فنحن حين نطالع مزامير ناي جوزيف أيوب، نرى موادها معروفةً لنا

مستأنسةً إلينا، ونظفر بها منظَّمَةً تظهر فيها شخصيته، فنعرف تماماً مذهبه في الإبداع. إنّ لنغماته في الآذان راحةً، لِطَرحها طرفَها كلَّ مطرح، وهذا سببٌ يغلب على السَّمع فينسى ما سواه.

ناي جوزيف أيوب جُعِل مثلاً لبؤس الدنيا المُمازج لنعيمها، وكأنّ الشَّهدَ لا يُؤكل إلاّ بِسُمّ. فمعسول طعم الناي الذي يأتي بحقٍ لا يُدفَع، أُزهقَ بتقييد مرامي النَّظر الى صاحبه، والحجّة ليست أبداً آثار النُّحول. إنّ خبثَ الطويّة وسوء العهد، غيَّبا أسماء، وأيوب في طليعتها، بالرغم من سعةِ ذرعها بالفنّ واقتدارها على التوسّع فيه. وفي هذا شهوة خفية طالما التبس أمرها على النّاقدين، فما كشفوا ما يتعذّر كشفه على النّاس من الهفوات والتّحامل المُغرض، فظلّت آثار الكبار، كما أيوب وغيره من مَنقوصي الحظوظ، مستورة ولم تظفر بلسان صدق فيها. ومع ذلك، فجوزيف أيّوب الذي عانى مرارة الحَيف، لم يحقد على ” المَشاهير”، بالرَّغم من هلهلة نَسج بعضهم أمام عظائم جوائزه.

انّ قيمة أيوب تكمن في الرنّة الموسيقية النَّفيسة التي بها اتّساق النَّغم، والتي يحرص عليها أيّ حرص. وكأنّه يقدّر لنفسه صورة موسيقية يرسمها رويداً رويداً في نظام وانسجام الى أن يتمّمها بتمام الوصلة. هذه التي لم يُرد أيوب كميّة الحياة فيها، وإنما أراد روحها وسرّها، من هنا، فأنفاس أيّوب يهشّ لها الذّوق لدلالتها على ما وُهب صاحبها من بارع الأداء. فهي، وإن كانت أرقّ من رقّة الحبّ، فالسرّ تحتويه موهبة أيوب وقوة شغفه بمعالم الجَمال وما كان يضطرم في نفسه من الوجد الذي رسمه بالنّفخة. وكأنّ أيوب يُنَفِّق سوق الإبداع فيشبه عزفه ما كان يسمّيه الشعراء قديماً ” المُضَمَّن “، أي تَتابع الأبيات واتّصال آخر البيت بأوّل ما بعده، بحيث لا يقوم البيت الواحد بنفسه ولا يكفي بعضه دون بعض.  

الناي الأيوبي، بحسب عاصي الرحباني، من ابتكاره وهو آلة بآلات حتى يمكن تسميته الآلة الأيوبية. وكانت في الأساس معروفة عند أهل الغرب، ولم تخطر لموسيقيّي الشرق في بال، حتى استحسن أيوب صفاتها وأدخل عليها تعديلات مكّنتها من أداء تلاوين الطَّرَب والسَّلالم الميلوديّة. وكان له انفراد في هذا الباب، فما أحبَّ من النايات الطويل أو العاديّ بعد هذا. 

أيوب رُزِق ما لم يُرزَق أحدٌ من القدرة العريضة بين العازفين الذين يميل أكثرهم الى الطَّنطَنة، والذين غالباً ما سَفّوا التراب ولعنوا حجمهم إذا كان أيّوب يبيع ويشتري. لذلك، فمن البداهة أن يكون أوفرهم قسطاً في الإجادة، وأمدَّهم باعاً بالموهبة والإبداع، وأحقَّهم في أن تُساقَ إليه جياد المدائح. وهو في اختصاصه الأدائيّ يشبه الرسّام البارع الذي يصوّر صورة في صورة، حتى دخلت نسبة الناي إليه ندوة المنسوبات الشهيرة التي يُتَمَثَّل بها، كقولهم “نار إبراهيم” و”وعصا موسى” و”خاتم سليمان”، وأيضاً ناي أيّوب.

مَن يستمع الى عزف جوزيف أيوب وتَحين منه غفلة، يظنّ أنّ ما ينساب الى مسمعه هو من أَثَر الخيال لا من صنع الواقع. والسبب في تبريز أيوب على مَن سواه أنه ينقلك من جنّة الى جنّة، لأنه يغرس الدرّ في أرض الأنغام، وهو فيها الأَوحد الذي لم تُخرج مثله البراعة والصناعة. فهو القادر على التصرّف في فنون حَكيِ النّاي، إذ يملك ممرّاته ويمسك ببوّابات النّغمات منه، ويصدر ما يُحكِّم هواه فيه فيشعل متعةً لا تملّها النفس.

كان جوزيف أيوب يجمع الى رقّة الحال وسعة الموهبة الفنية أدب النّفس، على قلّة ما يتّفق من ذلك في طباع الناس. فكما أنه لا يتلعثم في تنشيط تقاسيمه، هو لا يتلعثم أيضاً في مُتَخَيَّر الألفاظ التي تنمّ عن طهارة أخلاق وحسن عِشرة،

فكان من قيادِيّي المَمزوجَين، الخُلق والخَلق. وهو لم يضيّع ما غرسته قريحته في ثرى الفنّ الثَّرِي، فجنى من سامعيه طرب الكلام الذي يوصَف بالقرب من الأواصر التي توجب المودّة. فقد كان لسامعيه بين ضلوعهم قلوب لا يشطّ بها 

الهَوَس، بل يعانقها سحر نَغم أيّوب في مُلاطَفة، ويملكها العَجب به، وتنساب آهاتها وكأنّها تقول ” ما هذا بَشَر “.   

وبعد، لو أُلقيت تقسيمة من تقاسيم جوزيف أيوب في أكداس من المعزوفات، لميّزناها من أول “سَمعة”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *