مئوية الرابطة القلمية.. أدب مهجري يتجدّد ويغتذي من جذوره

Views: 1326

سليمان بختي

مضى مئة عام على تأسيس “الرابطة القلمية” (1920-2020) للأدباء المهجريين في نيويورك، الولايات المتحدة الأميركية. ورغم السنوات ووهج جبران وفكرة التجمّع كفرسان الطاولة المستديرة بحسب أحد أعضائها وليم كاتسفليس، فلم تزل لتلك الرابطة أصداء في حضورها التجديدي وأثرها الإبداعي في تاريخ اللغة العربية وآدابها.

ولكن كيف تأسست الرابطة ومتى؟ وما هي الظروف التي رافقت تأسيسها؟ ومن كتب دستورها؟ ومن رسم شعارها؟ ومن هم أعضائها؟ ولماذا لم يزدادوا منذ التأسيس؟ ولماذا لم ينضمّ أمين الريحاني أو غيره إليها؟ وكم استمرت الرابطة زمنيًا؟ وهل حقّقت أهدافها؟ وكيف ينظر إليها اليوم؟

يروي ميخائيل نعيمة في كتابه “جبران” (1934) “أن التحضير لتأسيس الرابطة بدأ في خريف 1919″، وذلك لدى عودة نعيمة نفسه إلى نيويورك. ويقول في ص 186 أنه “في خلال ليلة أحياها صاحب “السائح” (عبد المسيح حداد) وإخوانه في 20 نيسان/ أبريل 1920 ودعوا إليها رهطًا من الأدباء والأصحاب دار الحديث عن الأدب وعمّا يمكن الأدباء السوريين (كذا) القيام به لبثّ روح جديدة نشيطة في جسم الأدب العربي وانتشاله من وهدة الخمول والتقليد إلى حيث يصبح قوّة فاعلة في حياة الأمة. ورأى أحدهم أن يكون لأدباء المهجر رابطة تضمّ قواهم وتوحّد مسعاهم في سبيل اللغة وآدابها. وقابلت الفكرة استحسان كل الأدباء الحاضرين وهم: جبران خليل جبران، نسيب عريضة، وليم كاتسفليس، رشيد أيوب، عبد المسيح حداد، ندره حداد، ميخائيل نعيمة. وأقرّوا بإجماع الأصوات مباشرة السعي لتحقيق هذه الفكرة”.

 

على وضوح الصورة التي يرسمها نعيمة، إلا إننا لا نعرف من الاقتباس من هو صاحب الاقتراح ولا عدد الحاضرين الفعلي ولا دستور الرابطة ولا شعارها ولا طريقة عملها. ولكن يتّضح كل ذلك في الاجتماع التأسيسي الثاني ولعلّه الأهم والذي عقد في منزل جبران في 28 نيسان/ أبريل 1920 ويظهر أيضًا أنهم ازدادوا عضوًا هو الياس عطاالله. ولدى مراجعة المحضر نعرف أن هناك خمس نقاط أقرّت بالاجتماع وهي:

1- أن تدعى الجمعية الرابطة القلمية.

2- أن يكون لها ثلاثة موظفين هم: الرئيس ويدعى العميد (جبران) وكاتم السر المستشار (ميخائيل نعيمة) وأمين الصندوق أو الخازن (وليم كاتسفليس)..

3- أن يكون أعضاؤها ثلاث طبقات: عاملون ويدعون عمّالًا، فمناصرون ويدعون أنصارًا، فمراسلون. 4- أن تهتم الرابطة بنشر مؤلفات عمّالها ومؤلفات سواهم من كتّاب العربية المستحقين، وبترجمة المؤلفات المهمة عن الآداب الأجنبية. 5- أن تعطي الرابطة جوائز مالية في الشعر والنثر والترجمة، تشجيعًا للأدباء. كما تمّ تكليف نعيمة بوضع دستور أو قانون الرابطة. وفي سيرته الذاتية “سبعون” يقول نعيمة إن “تكليفه جاء بناءً على رأي جبران مع وجوب كتابة مقدمة”. وبالفعل وضع نعيمة القانون وكتب المقدمة وأهم ما جاء فيها مفهومه للأدب بأنه “الأدب الذي يستمدّ غذاءه من تربة جذوره وأن الأديب هو من خصّ برقة الحسّ، ودقّة الفكر، وبعد النظر في تموّجات الحياة وتقلّباتها، وبمقدرة البيان عمّا تحدثه الحياة في نفسه من التأثير”.

وكم بلغ عدد أعضاء الرابطة؟ ولماذا لم يزدد أعدادها بعد التأسيس؟ ولماذا لم ينضم إليها أمين الريحاني؟ بلغ عدد الأعضاء بحسب نعيمة عشرة أعضاء ويذكرهم حسب السن: رشيد أيوب، عبد المسيح حداد، ندره حداد، جبران خليل جبران، وليم كاتسفليس، وديع باحوط، إلياس عطالله، نسيب عريضة، ميخائيل نعيمة، إيليا أبو ماضي، أما لجهة عدم ازدياد العدد فيقول: “حرصنا كل الحرص ألا ينضوي تحت لوائها إلا رجال تقاربت أذواقهم، وتآلفت أرواحهم، وانتفى التحاسد من قلوبهم…”.

وهل كان كل الأعضاء كذلك؟ يذكر فواز طوقان في كتابه “أسرار تأسيس الرابطة” (2005) أنها “تجمّع غامض الأهداف يتخطى ظاهر الحديث في أسباب تأسيسها واقتصارها على أعضائها المؤسسين العشرة مدى تزيد عن اثنتي عشرة سنة واستبعاد الكثير من أدباء المهجر عن حلقتها والتكتّم الشديد عن اجتماعاتها ونشاطاتها في سبيل تنفيذ مبادئ تأسيسها”.

لماذا لم ينضم الريحاني؟ برأي نعيمة أن الريحاني لم ينضم إلى الرابطة لأنه كان على خلاف بلغ حدّ الجفاء مع جبران. وبحسب بعض الباحثين انه لم يكن في نيويورك وقت الاجتماع التأسيسي بل كان منهمكًا في رحلاته إلى لبنان والخليج العربي والمكسيك.

ثمّة أمر ينبغي توضيحه أيضًا وهو علاقة جبران مع الرابطة. اسمع خليل حاوي في أطروحته عن جبران يقول “إنها مجرّد مشروع حلم به جبران والأعضاء تابعون له، وتسميته بعميد الرابطة اعتراف منهم بتفوّقه الأدبي عليهم، ليس إلا”. وثمّة مصدران لرأي جبران في الرابطة، الأول نقلًا عن بربارة يونغ في كتابها “هذا الرجل من لبنان” أنه كان يسميها “أكاديميّتي”، والمصدر الثاني رسالة من جبران إلى ماري هاسكل بتاريخ 7/9/1920 ويقول فيها: “أسسنا ما يمكن تسميته بأكاديمية اللغة العربية في نيويورك، وكذلك في بوسطن. وربما أضحى لها فروع في العالم العربي كذلك في بيروت ودمشق والقاهرة وسوف تنشر بالعربية سنويًا أفضل ما يظهر باللغات الأوروبية”.

أما شعار الرابطة فقد صمّمه جبران ويمثل دائرة في وسطها كتاب مفتوح وعلى صفحتيه خطّت هذه الآية من الحديث: “لله كنوز تحت العرش مفاتيحها ألسنة الشعراء”. ومن فوق الكتاب شمس ملأت أشعّتها نصف الدائرة. وعند أسفل الكتاب سراج شطره الأيمن محبرة فيها قلم فتحول حبرها إلى لسان من نور. ونشر نعيمة صورته في كتابه عن جبران.

ويوصي جبران في رسالة مؤرخة في 1920 إلى ميخائيل نعيمة أن تكون كلمة الشعار ظاهرة على أوراق الرابطة بوضوح تام.

“بعد مائة عام على الرابطة القلمية وصورة الأربعة الشهيرة: نعيمة وجبران وعبد المسيح حداد

ونسيب عريضة جلوسًا، تلفحنا اللحظة بهواء الحنين إلى الذين هاجروا في بلادهم

وأرواحهم ولبثوا كالأدب الذي يغتذي من تربة جذوره”

أين كان يلتقي أعضاء الرابطة؟ بداية كان مقر مجلة “الفنون” (نسيب عريضة) مكان التقائهم، وفيها يتسامرون ويتباحثون ويأتلفون، ثم أصبحت مجلة “السائح” (عبد المسيح حداد) بعد إقفال “الفنون”.

عاشت الرابطة حوالي اثنتي عشرة سنة (1920-1932) والواقع أنها تجمّدت عام 1922 واضمحلّ نشاطها واكتفى الأعضاء بنشر نتاجهم في الجرائد والمجلات العربية المهجرية والأجنبية.

وماذا حقّقت في النشر؟ نشرت “مجموعة الرابطة القلمية لسنة 1921” وفي المجموعة 56 مقطوعة والحصة الأكبر لجبران 18 ويليه نعيمة 8 ورشيد أيوب 8 ونسيب عريضة 7 وإيليا أبو ماضي 5 وندره حداد 4 ووليم كاتسفليس 3 وعبد المسيح حداد 2 ووديع باحوط 1.

ولكن هل حقّقت الرابطة ما رسمته من أهداف ونشاطات؟ بشهادة ميخائيل نعيمة في “سبعون” “لقد كنا نتوخّى للرابطة أن تقوم بأعمال كثيرة ولم تقدر أن تحقّق سوى إصدارها ’مجموعة الرابطة القلمية 1921’”.

مع حلول عام 1922 شابها الضعف والتجميد والتفكّك إلا أن نهاية الرابطة كانت مرهونة بوفاة جبران (1931) ودبّ بين أعضائها الخلاف وتوقّفت عن أي نشاط.

بعد مائة عام

بعد مائة عام كيف يُنظر إلى الرابطة القلمية من هنا؟

يقول الشاعر شوقي أبي شقرا (وكان في الثريا ومجلة شعر والنهار): “كانت الرابطة القلمية وكان المهجر هو المكان حيث شاءت أن يكون النشاط قائمًا منها إلى الجمهور في الغرب والشرق. وهي إذ فعلت ما فعلت لم تقوَ ولم تقترب من الأدب والفكر إلى الدرجة الممتعة والمعمّقة والتي عندئذٍ لبثت في إطارها الاغترابي المنفتح علينا، وكانت هكذا أقلّ تأثيرًا ممّا نشأ مثلها في بيروت منذ تلك الأيام الأوائل في القرن العشرين، ولا ذاك النهوض الذي تميّزت به أجيالنا اللبنانية فيما يلي من التأريخ الخصب حيث كانت المغامرة والأبواب المشرّعة على كل شيء وعلى شتى الأنواع والفنون”.

أخيرًا، حركت الرابطة القلمية دوائر معينة في إطارها التاريخي والحضاري والأدبي، ومدّت الجسور بين الأدباء العرب في المهجر وأوطانهم. اشتركوا وتشاركوا في المشاعر والأحاسيس واللقاءات والرسائل والأحلام والخيبات والهموم وحبّ اللغة العربية، والحلم بمجتمع متقدّم يصنعونه بأيديهم كالحنين وكالأمل.

بعد مائة عام على الرابطة القلمية وصورة الأربعة الشهيرة: نعيمة وجبران وعبد المسيح حداد ونسيب عريضة جلوسًا، تلفحنا اللحظة بهواء الحنين إلى الذين هاجروا في بلادهم وأرواحهم ولبثوا كالأدب الذي يغتذي من تربة جذوره.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *