ميشال طراد… شاعر لبنان والمرأة والجمال

Views: 1314

سليمان بختي

“عندنا في لبنان شاعر يحسدنا عليه الورد الجوري، وتحسد لبنان عليه حناجر البلابل الذهبية. شاعر ما انصتت أذن في لبنان لأشجى وأعمق من نغماته، ولا مر في البال أحلى من خياله خيال. انه ميشال طراد أثمن على قلب لبنان من أعمدة بعلبك الستة، وأغلى من مناقيد النسور المذهّبة في تلك الهياكل. لن يغنّي لبنان شاعر في الأرض مثلما غنّاه ميشال طراد”.

لن أجد أبلغ ولا أجمل من هذا المدخل الذي كتبه فؤاد سليمان في الشاعر الكبير ميشال طراد (1912-1998). شاعر رائد مؤسس، وضع نقطة على سطر الماضي وكتب أول حرف في سطر المستقبل. ورفع مستوى الكلام الصافي المحكي الى مستوى الشعر- الرمز.

ولد في زحلة عام 1912. توفي والده وهو في السادسة فانتقلت به والدته مهيبة أيوب (ابنة عم الشاعر المهجري رشيد أيوب) الى بسكنتا. ترك زحلة جارة الوادي والنهر وانتقل وأمضى ما تبقى من طفولته في بسكنتا بجوار صنين.

كيف تعلمت وأين درست؟

يجيب: “تلقيط وتكميش. تعلّمت بمدرسة الضيعة ببسكنتا وبمدرسة الفرير بزحلة، نص سنة بمدرسة الحكمة، نص سنة بالليك، سنة بجامعة عاليه الوطنية على يد مارون عبود، وسنة بالكلية الارثوذكسية بحمص.. وبالآخر ما بقي معنا مصاري، رجعت قعدت بمدرسة الحياة، اتعلّم منها أشيا وأشيا، وبعدني لليوم طفل صغير عم بتعلم بهالمدرسة”.

انتظرته بعلبك المجد بعد زحلة وبسكنتا وانتظره الشعر في لبنان والمرأة والجمال. عمل في قلعة بعلبك موظفاً وحارساً لهياكلها وأعمدتها وأمضى واحد وثلاثون سنة من عمره في الوظيفة. ذات مرة تأمل تلك الأعمدة وكتب :” نكنك حقيقة تنازلي وصيري خيال/ وشنكلي شي كم نجمة وانزلي ادبكي”.

ديوان “جلنار”

عام 1951 أصدر ديوانه “جلنار” وكان حدثاً في الشعر والحياة وتاريخ الشعر. كتاب صادق حقيقي يفوح عطراً وحباً وجمالاً، وجلنار هي حلوة الحلوين والبداية والنهاية.

ولكن من هي جلنار؟ وأي حب؟..

يجيب: “كانت روحها تلعب بالسحر، حلوة بتوجع، بتسوسح العقل البشري، مرات كتيرة كنا نوقف تحت الشتي ونستلقى الشتي بايدينا، وننسى حالنا والشتي يبللنا ويبلل ثيابنا وما نعرف. كنت حوّشلها كبوش العليق والتوت الاسود وأشويلها الكستنا عالنار وحرْوِق صابيع ايدي”. كنت جمعلها زهور البرية وفرفطها تحت اجريها… كان مرات كتير يطلع الضو علينا، وما نعرف نحنا وين ولا مين انت ولا مين أنا”.

ظل ميشال طراد يحط ويشيل في الشعر كفراشة الضوء او فراشة الزهر. ذوّب في قلبه وخياله الطبيعة والحب وخرجت القصائد جديدة “خلنج” كالثمار تحت الندى. يقول: “وقّفت قلبي عالدرب ناطور/ ت فاق الف نهار / ووعيت الشمس وزقزق العصفور/ وما أجت جلنار”.

لبث كتاب “جلنار” ماثلاً يحتفى به كلما ذكر الجمال، واعتبر صدوره حدثاً، وكتب فؤاد جرداق: “حدث أعظم من انتخاب رئيس جمهورية او تنصيب ملك… انه حدث يساوي في نظري خلع ملك من حيث قيمة الانسانية”.

“دولاب” ودواوين أخرى

عام 1957 أصدر ديوانه الثاني “دولاب” ووصفه بكلماته: “نصه غزل ونصه الثاني بشبابيك وطواق وحواض وورود مفتحة بعمارة الانسان”، وفيه تلك القصيدة الرائعة “بكوخنا يبني بهالكوخ الفقير”.

ديوانه الثاالث “ليش” صدر عام 1964 ومع “ليش” هاجمته الاسئلة بضراوة ودخل قلبه الحزن، وفسّر ذلك بانه “حزن الشاعر عالجمالات اللي بلشت ترحل وتفل من أرض وسما هالجبل الحلو”. وفي هذا الكتاب بيتين ولا أجمل :” لبنان يا لبنان ضحكت هالدني، يا حلمنا، يا بلدي الحلو الزغير”.

اما ديوانه الرابع فكان “كاس عشفاف الدني” 1972. ويمضي الشاعر في تصوير حياة القرية وفي معاقرة الاصلاح والحنين والحب. ويمضي ايضاً في تقصي صفات الشعر، صفات القصيدة… فيقول: “يجب ان تخشخش فيها صابيع الحياة، تضوي، مفقايه الفاظها مثل حب الرمان، مثل حب اللولو، فيها نكهة البساطة، يرضى عنها طفل صغير والمثقف الكبير”.

ألم، حزن وعذاب

اشتعلت الحرب في لبنان عام 1975 وعاش الشاعر الألم والحزن والعذاب. وشهد فقدان موضوعه وغلبت على فصائدة الكآبة والخيبة والمرارة . صدر كتابه عربيي مخلع 1986 ورغم ذلك ثمة قصائد خاطبت عالمه القديم الجميل فرأينا شجرة التفاح تركع وتصلي للرب ان يرد عنها الرياح “ويخلي هالأرض والنبع والفلاح”. وفي السنة عينها صدر له “الغراب الأعور” وبدا كأنه يقاوم الألم والظلم الذي وقع على لبنان. “وما ضل شي – ببلادنا ما طار/ومات الشي/شو صار ببلاد/ من سمسار لسمسار”. ويبلغ في هذا الكتاب صراع الجمال والحزن والتمرد والثورة الى ذروة الذروة.

وأستمر ميشال طراد في الشعر شاعراً لا تشغله سوى الكلمة والحب والبحث عن منافذ للتعبير عن أحساسه. كتب ذات مرة عن الشعر انه ” أشبه بمركبة نارية ترتفع بك عن الارض الى عالم الروح ودواليبها من رقع الثلج وعناقيد العنب وداخلها عرزال مبني من الضباب، يجرها حصانان من الأخلاق والانسانية، هي تتجه هكذا الى الله”.

أصدر في العام 1992 كتابه “عيد الشحادين” وأحسّ الشاعر ان العيش لم يعد طيباً في عالم فاسد وكيف يصل الى وطنه غصن الزيتون والسلام. وفي الكتاب قصيدة مشهودة يقول فيها: “شو بني/وعم تسألني شو بني/ وبلاد صفت/مثل جوزي محنني/صرصورها نايب/ ووطواطها وزير/ شو هيك/ رح بتضل/ مركبة الدني/مخلعة وبتجرها/أوبة حمير”.

وفي 1993 صدر كتابه “وردة بأيد الريح”، ويتصور فيه أن الوردة هي لبنان والريح هي الأزمات التي حاصرته.

وفي الكتاب قصيدة انسانية رائعة أهداها إلى ابنه موسى المهاجر يقول فيها: “من يوم ما فليت/ وما عدت طليت/يا هالحلو جنّيت/والحبقة والوردة الجوري/عم يسألوني /عن عطر عينيك/وعصفور ها الدوري/بيبكي على السكيت/ بيبرم حول البيت/ بيفتش عليك”.

“المركب التائه”

وقبل وفاته بسنة صدر كتابه الاخير “المركب التائه”، والمركب لبنان تتقاذفه الأمواج. ويرد أسم لبنان في الكتاب بحسب كتاب د. ميشال جحا “رواد الشعر العامي في لبنان” 75 مرة و5 مرات في عناوين القصائد. وفي أقسامه: “الوطن الزغير” ثم “العاصفة السودا” ثم “الفجر الأخضر”.

يدرك ميشال طراد ان الزمن قد تغيّر، فيكتب: “شو هالزمان اللي قاعد لذوقه يبيع/الوردة بسعر سعدان/والشتي بسعر الربيع”. ويعرف أن الناس تغيروا أو أصبحوا قساة القلوب: “ما عاد هالقلب البشر/من لحم من دم/ صار مثل قلب الحجر قاسي وبينقّط سم”.

غنّت له فيروز من الحان الأخوان رحباني “بكوخنا يا بني”، وغنّت له موال “انت وأنا عم يسألونا كيف” وغنت له أيضاً: “تخمين راحت حلوة الحلوين”. أما رائعته “رح حلفك بالغصن يا عصفور” فغنّاها وديع الصافي من الحان الأخوين رحباني.

ويؤكد الباحث محمود زيباوي أن هناك الكثير من القصائد والاشعار الملحّنة والمتوافرة في أرشيف الاذاعة ولمتشتهر. خصوصاً ان ميشال طراد بدأ ينشر قصائده في الصحافة اللبنانية منذ العام 1931.

نتذكر ميشال طراد في ذكراه الثانية والعشرين شاعراً مختلفاً حرزاناً وصاحب لغة تفتح الافاق الى الأعالي. وفضله على الشعر اللبناني كبير كما قال يوسف الخال لا بل “هو أعلى قمة فيه”، وقال عنه عاصي الرحباني ” الكبير بيوصل وبيعبي مطرحه” وأعتبره توفيق يوسف عواد انه “أول شاعر لبناني سكب روح هذه البلاد في لغة جدودها وأطفالها”.

تمر الذكرى ولا يلتفت اليه أحد. وأغلب كتبه ودواوينه غير متوافرة وليس هناك جائزة بأسمه ولا شارع ولا متحف. هذا شاعر كبير ترهّب للجمال وترفّع عن صخب الدنيا، وله في ذمتنا الكثير من الحب والجمال. ولكننا رذلناه وأهملناه ونسيناه مثلما نسينا ذاكرتنا وتاريخنا وهويتنا وينابيع الجمال في بلادنا.

فهل نسأل أحد في “عيد الشحادين”؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *