شرطُ العقد السياسيّ الجديد وصايةٌ أمميّة تأهيليّةٌ على لبنان

Views: 1187

أ.د. مشير باسيل عون

في مقالاتي السابقة، ذهبتُ إلى المطالبةبصوغ عقد لبنانيّ سياسيّ جديد يتيح للّبنانيّين أن يصونوا وحدتهم في تدبّرٍ آخر لتنوّعهم الثقافيّ والاجتماعيّ الذي أضحى عاملًا ضاغطًا من عوامل الاصطراع الحادّ. فناديت بتعزيز اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة التي نصّ عليها الطائف، واقترحتُ إسلاكَها في نظامٍ فِدراليّ عصريّ من المتّحدات الثقافيّة التي تعزّز صون الهويّة الثقافيّة الجماعيّة، وتمنح اللبنانيّين حرّيّة الإفصاح عن اقتناعاتهم وطرُق تدبّرهم وقائعَ الوجود من غير إكراه أو استفزاز أو مزاحمة إقصائيّة. وفي معتقدي أنّ التلاقي اللبنانيّ لا يستقيم إلّا على أساس حرّيّة المبادرة الذاتيّة، الفرديّة والجماعيّة. أمّا وقد أظهر اللبنانيّون أنّهم لا يقيمون وزنًا للشراكة الحضاريّة الحقّ، ويستقوون بالخارج عند كلّ منعطف من منعطفات التاريخ اللبنانيّ، والخارج تتحوّل مقاديرُ اقتداره كلّ عشرين سنة، فإنّ الحكمة تقتضي أن يكفّ اللبنانيّون عن التكاذب والتخادع، وأن تحيا كلّ جماعة في متّحدها الثقافيّ، على تشابك انتشاراته الجغرافيّة، حياةً تنبثق من تصوّراتها الذاتيّة وأحكامها الخاصّة.

غير أنّي أدركتُ أنّ العقد السياسيّ الجديد الذي يكفّره اللبنانيّون في الظاهر، ولكنّهم يستدعونه ويستحضرونه ويمارسون مفاعيله في باطن وجدانهم ومسكلهم، لا يمكن أن يفوز به الاجتماعُ اللبنانيّ في غير تصارع وتقاتل. ذلك بأنّهم يمارسون الدِّموقراطيا التوافقيّة، وهي شكلٌ من أشكال الفِدراليّة، ويستبيحون بها كلَّ النواميس، فيُفسدون الأرض والناس والموارد والمرافق. ولكنّهم يرفضون أن تنتظم هذه الممارسة انتظامًا عصريًّا راقيًا يلائم ما بلغ إليه النضجُ السياسيّ الكونيّ من فهم قانونيّ وتدبير إداريّ. فكان لا بدّ لي من أن أنادي بوصاية أمميّة محايدة موقّتة على لبنان تجنّب اللبنانيّين فظائع الاحتراب الدمويّ.

خلافًا للدساتير والأعراف والأحكام، أجد نفسي مضطرًّا إلى استدعاء الوصاية الأمميّة على اللبنانيّين وعلى وطنهم ومجتمعهم ومعيّتهم وشراكتهم. من يتأمّل في الواقع السياسيّ اللبنانيّ، قديمه وحديثه، لا بدّ له من الاعتبار والاتّعاظ والاحتكام إلى منطق الواقعيّة المفيدة. ذلك بأنّ اختبار الحياة اللبنانيّة المتنوّعةِ المنابت والمشارب والاقتناعات والتحسّسات والتذوّقات والتجلّيات والمظاهر، في جميع أبعادها الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفنّيّة والاقتصاديّة، هو من الانعطاب والرقّة والهشاشة والمثاليّة البهيّة بحيث يستدعي استدعاءً منطقيًّا وصاية الأمم الحضاريّة وحرصها ومواكبتها ورعايتها ومؤازرتها.

 

يقيني الثابت هو أنّ اللبنانيّين، في ظلّ الأحوال المأسَويّة التي تكتنفهم، لن يستطيعوا أن يُنجزوا أيّ إصلاح فعليّ في مباني دستورهم، وهياكل مؤسّساتهم، ومرافق إداراتهم، وعلى الأخصّ في البنى الذهنيّة الجوّانيّة الوجدانيّة التي تسيطر على أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم. جرّب اللبنانيّون، أو جرّب الآخرون على اللبنانيّين، كلّ شيء. فابتُلي الاجتماع اللبنانيّ بالنزاعات الحادّة في الخمسينيّات من القرن العشرين، وفي الستّينيّات، وفي السبعينيّات. وما لبث أن تقاتل اللبنانيّون تقاتلًا شرسًا من بعد أن نعموا برخاء اقتصاديّ وحرّيّة فكريّة وسلم اجتماعيّ. في جميع المنعطفات الخطيرة هذه، ما استطاع اللبنانيّون أن يخرجوا بتصوّر إصلاحيّ بنيويّ عقلانيّ، عادل، واعد، قابلٍ الحياة والإثمار والفاعليّة.حين كنتُ أطالب بالاستبداد المستنير رأفةً بمن بقي من الجماعات اللبنانيّة المتناحرة المتهالكة الفاسدة والمفسدة، استغرب أصدقائي من مثاليّة الطرح وخياليّته. ولكنيّ اليوم، من بعد أن عاينت مبلغ الانحدار في الفكر السياسيّ وفي المسلك السياسيّ، أصبحت أطالب بالوصاية الأمميّة المحايدة الحكيمة العادلة. يدفعني إلى مثل المطالبة هذه أسبابٌ شتّى.

أوّلًا، أصبح أغلبُ اللبنانيّين مقتنعين بضرورة الالتئام في محفل تشاوريّ شامل، جريء، مُشرَّع الآفاق، يتناولون فيه جميع القضايا الخلافيّة، وفي مقدّمتها صوغ النظام السياسيّ الجديد الذي يراعي التحوّلات الدِّموغرافيّة الطارئة، والتغيّرات الإقليميّة الإستراتيجيّة الجارفة، والتبدّلات الثقافيّة الكونيّة الضاربة في أعماق الاجتماع السياسيّ العالميّ. إذا افترض المرءُ أنّ اللبنانيّين يجمعون على إرادة التغيير، فالواقعيّة الفطنة تضطرّه إلى الاعتراف بأنّ اللبنانيّين لن يتجاوزوا عتبة الإجماع هذه، إذ لكلّ جماعة ولكلّ حزب ولكلّ قبيلة تصوّرٌ مختلف يجعلهم يتشاجرون على كلّ الأمور، الدستوريّة منها والقانونيّة والتطبيقيّة والإجرائيّة. ذلك بأنّهم ليسوا متّفقين على المسائل والبنود التي يمكن أن يتناولها المؤتمر الإصلاحيّ البنيويّ، ولا على مقادير تمثيل الجماعات، ولا على آليّات المناقشة، ولا على سبُل الاقتراع والإقرار والتشريع، ولا على الخلاصات التي يمكن أن تُفضي إليها مباحثاتهم، ولا على القوّة التنفيذيّة التي تستطيع أن تطبّق قرارات المؤتمر.

ثانيًا، أعتقد أنّ استدعاء الوصاية الأمميّة الحكيمة أفضلُ من السبُل المنحرفة التي ينتهجها اللبنانيّون في استحضار الاستعمارات الخارجيّة والعبوديّات الغريبة. فأنا أقترح أن نستبدل وصاية إيديولوجيّة مقنّعة منفعيّة ضارّة بوصاية أمميّة شرعيّة مستنيرة حكيمة محايدة تبتغي إنقاذ لبنان حبًّا له، وحرصًا على مكانته الحضاريّة،ووفاءً لتعدّديّته وقابليّاته الإبداعيّة. يعلم الجميع أنّ الجماعات والأحزاب اللبنانيّة تعوّدت اللجوء إلى المحاضن المذهبيّة الخارجيّة استعلاءً واستكبارًا واستجلابًا للتدخّلات المهينة. في وعي كلّ جماعة أنّ التدخّل الخارجيّ هو من أجل لبنان. ولكن فات الجميع أنّ كلّ تدخّل يروم الفوز بسلطان توسّعيّ انتقاصًا من الجماعة عينها وانتهاكًا للسيادة اللبنانيّة. غير أنّ التشاجر المرَضيبين الجماعات اللبنانيّة يزيّن لكلّ جماعة أنّ المحضن الخارجيّ الذي تواليه إنّما يُنصفها وينصرها على سواها من الجماعات الأخرى. لا بدّ إذًا، والحال هذه، من أن يختار العقل السليم وصاية الأمم المتحضّرة، وقد تدعّمت بشرعيّة الأمم المتّحدة، وانعقدت وساطتُها على مؤازرة اللبنانيّين وحثّهم على استخراج الأفضل من معين اختباراتهم التاريخيّة. وفي رأيي أنّ الأفضل هو سبيلُ الفِدِراليّة الثقافيّة التي تميّز من غير أن تفصل، وتنعش من غير أن تبتر، وتحمي من غير أن تخنق، وتحيي من غير أن تُغرق. من فضائل هذه الفِدِراليّة أنّها تحافظ على وحدة الأرض اللبنانيّة، وقد انتظمت في لامركزيّة إداريّة موسّعة، ولكنّها تتيح لكلّ جماعة أن تُفصح عن تصوّراتها الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة في نطاق الإقليم الجغرافيّ المتّصل اتّصالًا طبيعيًّا بالائتلاف اللبنانيّ الأوسع.

ثالثًا، يبدو لي أنّ الوصاية الأمميّة هذه هي وحدها تضمن السلم الأهليّ في المجتمع اللبنانيّ الذي أشرف على التفكّك والتحلّل والانهيار. وإذا انهار البنيان اللبنانيّ المتصدّع، فإنّ العواقب الأولى ستظهر في احتراب الجميع على غير هوادة. حين يتفحّص المرء النفسيّات اللبنانيّة الفرديّة والجماعيّة، يتبيّن له مقدار التأزّم الوجدانيّ والاحتشاد العاطفيّ والاضطراب الذهنيّ. ولا شكّ في أنّ هذا كلّه يدفع باللبنانيّين المحتقنين إلى التدافع، فالتضارب، فالتحارب. لقد اختلّت الموازين على تعاقب العقود الأربعة الأخيرة من الاهتراء البنيويّ اللبنانيّ، وتباينت مشاعر الاستقواء والاستعلاء. فبطل الاستناد إلى الدستور، وشاع الاحتكام إلى الشارع وإلى السلاح. والسلاح اللبنانيّ أربعة أصناف، يملأ المخازن والقلاعوالمرابض. سلاح الشرعيّة اللبنانيّة الذي ينبغي له وحده أن يحتكر العنف الشرعيّ النظاميّ التأديبيّ. وسلاح المقاومة الذي يفوق قدرة الدولة اللبنانيّة على تخزينه والذي يوشك أن ينقلب سلاحًا إيديولوجيًّا إذا لم يوضع طوعًا في إمرة الجيش اللبنانيّ حتّى ينزّهه عن الارتباط ارتباطًا وثيقًا بالتصوّرات الجيوسياسيّة العابرة الأوطان، المضبوطة على إيقاع التوازنات الإقليميّة والدوليّة. وسلاح الأصوليّات المتفلّت الذي يُستخدم في إثارة النعرات واستجلاب العنف الدمويّ. وسلاح المافيات والمجرمين والمنحرفين. فلا غرابة، من ثمّ، أن يستفظع الإنسانُ المسالم الاحتشاد التسلّحيّ الهائل في وطن صغير لا يقوى على ضبط أعصاب أبنائه السالكين في معظمهم سلوك الانفعال البدائيّ القبيليّ العشيريّ التعانفيّ. وحده هذا السبب الذي يهدّد الكيان اللبنانيّ برمّته يستدعي وصايةً أمميّةً نافذةً فاعلةً لتنقذ اللبنانيّين من شهوة تسلّحهم الإفنائيّ. وما من قوّة لبنانيّة، مهما اشتدّت، تستطيع أن تسيطر على الانفلات الفوضويّ الذي سيصيب البنيان كلّه حين يقع الجميع في تجربة الاقتتال. ولا يظنّن أحدٌ أنّ قوّته الذاتيّة تتيح له أن يهيمن على الوطن اللبنانيّ. حين يعصف الانفجار بالجميع، تنقلب الكائنات البشريّة ذئابًا ينهش بعضها بعضًا. حينئذ لا ينفع سلاحٌ ولا اقتدارٌ ولا استعلاء، إذ إنّ الهيكل كلّه يسقط على رؤوس الجميع ويدفن اللبنانيّين في جبّ الهلاك.

 

رابعًا، أعتقد أنّ الوصاية الأمميّة، بفضل الإجماع السياسيّ الدوليّ العاقل المنبثق من الإرادات الطيّبة في محفل الأمم، تستطيع وحدها أن تحمي الوطن اللبنانيّ الضعيف البنيان من عدوان المعتدين وطمع الطامعين. وحدها هذه الوصاية تستطيع أن تذود بقوّة القانون وإجماع الأمم عن اختبار لبنان التعدّديّ وعن ثروات لبنان الطبيعيّة. أمّا القوى الأخرى، العربيّة منها والإقليميّة، فلا تخدم لبنان إلّا على قدر ما تستخدمه وتستعبده وتهيّج فيه الجماعات بعضها على بعض حتّى تسلس لها القيادة وتسود عندها الهيمنة. من طبيعة لبنان التعدّديّ أنّه لا يقوى على حماية نفسه بنفسه، وذلك من جرّاء الاختلاف الحادّ في إدراك معاني الاستقلال والانتماء والسيادة والحرّيّة. في هذا السياق، ليس من الضرورة أن يختلف اللبنانيّون على هويّة المعتدي. غير أنّ إجماعهم الخفيف الضئيل الهشّ على افتضاح المعتدي الحقيقيّ لا يجعلهم متّفقين على وحدة السبيل الذي يتيح لهم مقاومة الاعتداء. والزمن الثقافيّ الراهن ينطوي على تصوّرات قانونيّة قاهرة رادعة يمكن المجتمعات الإنسانيّة أن تعتمدها بإجماع أهل الضمير الكونيّ من أجل مقاومة الاعتداءات وردعها وتهذيب المعتدين وردّهم إلى الصراط المستقيم. وليس عنف السلاح المقاوم هو الوسيلة الوحيدة التي بها تتطوّر حضارة الاجتماع الإنسانيّ الكونيّ.

خامسًا، يُفترض في الوصاية الأمميّة الحكيمة هذه أن تضمن للتعدّديّة اللبنانيّة أسباب البقاء والازدهار، وذلك على قدر ما تحرّر علاقات الجماعات اللبنانيّة بعضها ببعض من اعتبارات الدِّموغرافيا والأحجام والأثقال والأكتاف والعضلات. فلكلّ جماعة لبنانيّة مقامُها في الاختبار اللبنانيّ بمعزل عن عزّة القبيلة، وعنفوان الاقتدار، وبطش القوّة. وإذا ما أفضى المؤتمر اللبنانيّ الإصلاحيّ إلى انتهاج سبيل اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة، بحسب ما ينصّ عليه اتّفاق الطائف، وزيّن اللامركزيّة بفِدِراليّة ثقافيّة، فمن ذا الذي يضمن للوعي التعدّديّ هذا القدرة على التحقّق التاريخيّ والتنفيذ القانونيّ والتطبيق العمليّ الإجرائيّ؟ أفليس بنا حاجةٌ، لاسيّما في المراحل التأسيسيّة الأولى، إلى وصاية أمميّة تحمي الجماعات بعضها من بعض وتحمي إجماع حكمائها المنزّهين على سبيلٍ من سبُل الانتصار على محن الفساد والاهتراء والانحلال، وسبيل الفِدِراليّة هذا هو من أرقى السبُل طرًّا؟

مراعاةً للأسباب المصيريّة الخطيرة هذه، أحثّ اللبنانيّين على المطالبة بوصاية أمميّة موقّتة تعيدهم إلى رشدهم الإنسانيّ والوطنيّ.لست أظنّ أنّ اللبنانيّين قادرون اليوم على حماية اختبارهم التعدّديّ. ولستُ مقتنعًا بمسرحيّة التكاذب والتخادع التي يؤدّي الزعماء أدوارهم فيها على أفضل ما يقتضيه نظام الإقطاع والفساد والهيمنة. ولستُ راجيًا أن يُفرج هؤلاء الزعماء، إذا ما التأموا في مثل المحفل التشاوريّ هذا، عن صيغة دستوريّة جديدة تليق بكرامة الإنسان اللبنانيّ وبتراث الجماعات اللبنانيّة. لذلك أطالب بالوصاية الأمميّة العاقلة الحكيمة المدبّرة التي تواكب خطوات التفتّح اللبنانيّ على مسرى النضج السياسيّ المنشود. وربّما لن يطول الأمر بنا حتّى نبلغ حال النضج الذي يؤهّلنا بعد عقدين أو ثلاثة لكي نضطلع بمسؤوليّتنا اضطلاعًا مستقلًّا، حكيمًا، رزينًا، مثمرًا.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. مقال رائع ، لكن الوصاية الأممية المحايدة صعبة التحقيق حسب رأيي ، أرى أن اللبنانيين عليهم أن يقرروا مصيرهم برعاية الأمم المتحدة