مئوية نزار ميقاتي (1920-1984)… المخرج المسرحي والإذاعي ومسيرته الحافلة

Views: 5

سليمان بختي

هذه السنة هي مئوية فنان مسرحي كبير من لبنان، هو نزار ميقاتي (1920-1984)، وركن من أركان النهضة الاذاعية والمسرحية في لبنان والعالم العربي. وحياته انجدلت مع أحداث هذه النهضة في طرابلس واذاعة الشرق الأدنى ومهرجانات بعلبك وفرقة الأنوار وتأسيسه مع شوشو للمسرح الوطني ومسؤولياته وأعماله في مديرية البرامج في الإذاعة اللبنانية. هو والد الفنان عمر ميقاتي.

ولد نزار ميقاتي في طرابلس عام 1920. توفي والده ولم يتجاوز السابعة. درس لدى الآباء الكرمليين في طرابلس واكتشفوا موهبته في التمثيل. كان مولّعاً بالسينما في طفولته والهوس السينمائي اخذه إلى المسرح. حتى إنه كان ينفذ عملاً مسرحياً كل سنة فيعفى من اقساطه المدرسية. (Diazepam) اتقن الفرنسية والايطالية. عام 1937 سافر إلى ايطاليا بمنحة لدراسة المسرح والسينما. عاد إلى بيروت اثر الحرب العالمية الثانية وعلّم في مدرسة الآباء الكرمليين. ثم إلى مدرسة الفرير مدرّساً للترجمة والرياضيات ومخرجاً لعملين في السنة الواحدة وقد اخرج أعمالاً لموليير وفيدو. ونفذ أعمالاً بالعربية في محترف عبدالله الحسيني في طرابلس وتخرج على يديه عوني المصري وعبد الكريم عمر وعلي دياب وماجد أفيوني وغيرهم. كما قدّم لاذاعة دمشق عملاً مسرحياً اثر تقسيم فلسطين بعنوان “عاصفة على الحدود”.

 

انضمّ عام 1954 إلى إذاعة الشرق الأدنى حيث الكبار كاتباً ومخرجاً ومساعداً لمسؤول قسم الدراما فيها كامل قسطندي. اثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 قدّم مع غيره من الفنانين اللبنانيين والعرب استقالات جماعية من الإذاعة. ولكنه اشترك مع بديع بولس وكامل قسطندي وزكي ناصيف وتوفيق الباشا والرحابنة وصبري الشريف في  تجربة “ستديو بعلبك”. ولكن هذه الشراكة لم تقدم الكثير له. 

استدعي للمشاركة في أول دورة لمهرجانات بعلبك وذلك قبل عشرين يوماً من افتتاح “الليالي اللبنانية” وقدّم مساهمته الفنية في السينوغرافيا وكان له رأيه الصائب في بعض اطلالات فيروز ودخولها إلى المسرح. اثر المهرجان وبإعجاب من سعيد فريحة كان نزار ميقاتي مؤسساً وكاتباً للسيناريو ومخرجاً مع توفيق الباشا وزكي ناصيف وعفيف رضوان لأول عمل قدّمته فرقة الأنوار وهو “حكاية لبنان”. وكان معهما في الفرقة مروان ووديعة جرار. جالت الفرقة في العالم: فيينا وألمانيا وفرانكفورت وقبرص والكويت والقاهرة والاسكندرية وشهدت نجاحاً، واستمرت الفرقة حتى العام 1964. وفي العام نفسه شاركت فرقة الأنوار بمهرجانات بعلبك بعمل من كتابته واخراج نزار ميقاتي وعنوانه “أرضنا إلى الأبد”. وعندما قدمت الفرقة عملها في باريس على مسرح الأمم قدمت مدينة باريس وسامها على صدر نزار ميقاتي وعلى صور توفيق الباشا.

 

عام 1963 كلّف بإخراج مسرحية “عنجر” وهي دراما شعرية وطنية كتبها الكولونيل ذبيان وقدمت في سينما “الكابيتول – البلد” وأثارت الدهشة والاعجاب. استدعاه الرئيس فؤاد شهاب إلى القصر الجمهوري لشكره على جهوده في إخراج المسرحية. وقف الرئيس وقال أمام الحضور: “أنت شاطر يا نزار”.

وكذلك أثناء عرض فرقة الأنوار مهرجانها في القاهرة دخل الرئيس جمال عبد الناصر إلى الكواليس محيّياً الفرقة اللبنانية ومخرجها واعضائها وخارقاً البروتوكول حيث صفق وقوفاً بعد انتهاء العرض.

عام 1965 تشارك مع الفنان شوشو في إنشاء المسرح الوطني وهو أول مسرح يومي في لبنان والذي عرف لاحقاً بإسم مسرح شوشو. استطاع نزار ميقاتي تحرير صورة شوشو من نمطية التلفزيون من خلال تدريب مكثف لستة أشهر في المحترف الذي أنشأه في الطابق الأرضي من بناية كان يقطنها في شارع الجزائر، بيروت. ومركزاً في التمارين على القوة الأدائية لشوشو. كانت المسرحية الأولى “شوشو بك في صوفر” مع خمسين ممثلاً في حبكة ممسوكة تقنياً ودرامياً وإخراجياً. عُرضت المسرحية لسبعة أشهر يومياً وهذا بحدّ ذاته ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ المسرح اللبناني، ومعلنةً انطلاق المسرح الوطني الأول في لبنان. وتوالت المسرحيات “مريض بالوهم” و”الدكتور شوشو” و”شوشو والعصافير” و”حيط الجيران” و”حب تحت الصفر” و”شوشو والقطة”، و”الحق على الطليان” و”البخيل” و”أستاذ شوشو” و”محطة اللطافة” وكان آخر أعماله مع شوشو. وافترقا.

 

أراد شوشو فرقة النجم الواحد وأراد نزار ميقاتي مسرحاً شعبياً. حضر الكبير يوسف وهبي عرض “شوشو بك في صوفر” واعجب بالعمل ورغب بالعمل على مسرحية من إخراج نزار ميقاتي في القاهرة ولكن تدهورت صحة يوسف وهبي وطار المشروع. ومن الفرص الكبيرة الضائعة أيضاً عندما كلّفته شركة سويسرية كتابة سيناريو عن الإسلام وانهمك الميقاتي في الكتابة ورصد التفاصيل ولكن بعد شهر أبلغته الشركة وقف العمل بالمشروع لأن المخرج العالمي مصطفى العقاد شرع بتحضير فيلمه “الرسالة”.

وظلّ هاجس المسرح يدور في باله فحاول عام 1973 تأسيس مسرح وطني جديد في الحمراء بتحويل سينما الخيام (لوبارون) إلى صالة عرض مسرحي. وقدم “غلطة الشاطر بألف” مع وحيد جلال وابراهيم مرعشلي. وحاول الاستمرار بمسرحية ثانية مقتبسة من أعمال موليير ولكن الحرب جرفت كل شيء وبقيت المسرحية بين أوراق وتراث نزار ميقاتي.

 

عام 1970 كلّفه الرئيس سليمان فرنجية بمسؤولية مديرية البرامج في الإذاعة اللبنانية وبقي فيها حتى عام 1984. بدأ عمله في الإذاعة مختلفاً مع أعمال مثل “حي بن يقظان” و”بن طفيل” و”جبران الملاك الإنسان” و”هارون الرشيد أمام التاريخ” ونقل كتاب “الأغاني” للأصفهاني اذاعياً. وقد وجّهت له وزارة الخارجية البريطانية رسالة تقدير لأعماله الاذاعية الثقافية. وهذا ما دفع الأديب ميخائيل نعيمة الطلب إليه إخراج كتابه “سبعون” للإذاعة ولم يكتمل المشروع.

ثلاثة أحداث أنهكت قلب نزار ميقاتي: موت شوشو والذي أثّر به كثيراً وكان يعي البُعد الانتحاري في جهد شوشو الإبداعي، الأمر الثاني آلمه كثيراً هو: احتراق المسرح الوطني واحتراق جزء من ذاكرته وتراثه وسعيه إلى مسرح يومي دائم في البلد. والأمر الثالث هو حصار بيروت زمن الغزو الإسرائيلي عام 1982، وخيبة أمله بالناس ورفضه مغادرة منزله.

عام 1984 قدّم استقالته من الإذاعة بعدما أنهكه مرض السكري وأنهكته الحرب والحزن على مدينة بيروت. تلك المدينة التي لفحه هواها ودخل إلى قلبه وشرايينه. توفي نزار ميقاتي في 17 شباط 1984 وأوصى أن يدفن في بيروت المدينة التي أحبّ وشهدت لنجاحه. ولكن خرجت أصوات تردّه إلى مدينته طرابلس وجذوره ومنبته. إلا أن توفيق الباشا سعى لتحقيق وصيته الأخيرة ودفن في مقبرة الشهداء.

 

أحبّ نزار ميقاتي الفن حباً جماً ولم يفصله أبداً عن الدقّة والجمال والناس والقيم والوطن.

كان نزار ميقاتي فناناً كبيراً يتعب ويكدّ على نصّ ذو مستوى ومعه اهتمام بالغ لجمالية المشهد وكل ذلك بحرفية عالية وحساسية مرهفة.

وكان محبّاً لعائلته بصمت ولو أغرقه الفن في زمانه. وكان حنوناً ولو استعصاه التعبير. وكان أنيقاً في لباسه ومسلكه وألوانه وتفاصيله. يروي عبيدو باشا عن يعقوب الشدراوي في “كتاب الراوي” انه “حين فتحت خزانة ثيابه وقع الفاتحون… على كتلة أناقة تشبه كتلة ابداعه”.

في السنة الماضية كرّمته مدينة صور بدعوة من مسرح اسطنبولي وجمعية تيرو وعرض فيلم وثائقي عنه وعرض مسرحي يحتفي بتجربة المخرج الراحل. وتمّ إصدار طابع بريد يحمل اسمه مثابة تحيّة للرجل وتاريخه الفني العريق. وهو يستحق أكثر من ذلك بكثير وعلى قدر شغفه بالفن والمسرح والاذاعة في بلادنا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *