لم يبقَ في الحيّ غيرنا

Views: 462

د. جان توما

 

تعال أخبرك عن فراغ الطرقات من الناس. هنا كان الشارع العتيق يكتظّ بالمارّة. فجأة لم تعد ترى إلّا الحقائب المهاجرة جوّا، هجرة لم تعد حزينة، ونزوحًا لم يعد متعبًا، كما تراهم محشورين في زوارق الموت، تسلّمهم موجة إلى موجة، وقدر إلى قدر، وليل إلى ليل، أو انفجار صباح.

هنا كانت العجقة التي لا تنتهي، والأخبار التي لا تنضب الطالعة من فنجان قهوة الصبح، عند مصطبة البيت الذي لا يتعب من استقبال العابرين في افتقاد يوميّ يجعل كلّ واحد مسؤولًا عن الآخر في السؤال عن غيابه إن لم يردّ السلام صبحًا وعشيّة.

لم يبق غيرنا في هذا الحيّ، وقد غابت عنه حبال الغسيل على الشرفات، وضاعت عند أبوابه مفاتيح الأقفال، فقد أخذها المغادرون معهم أملاً في عودة مستبعدة. لم يبق غيرنا نواطير البيوت وقد خلت من أباريق الماء وركوات القهوة ومطاحن البنّ. لم يبق غيرنا حراس الذاكرة نتداولها كي لا ننسى الوجوه التي ركضت هنا حافية القدمين بفرح وعفوية في هذه الأزقة قبل أن تصل ، والحنين يتعبها، بربطة عنق وحذاء إلى أقاصي الدنيا.

غادر أهل الربع المكان. أطفأوا النار. قبًلوا حجارة الدار. انطلقوا بسيارة إلى المجهول. غادرهم الوطن. نظروا من خلف الزجاج. لمحوا وجهًا حزينًا وملامح عمر وذكريات. جمعوا في كيس قماش بعض غبار حارات طفولتهم. وضعوه تحت مخدّاتهم، كما فعل المتنبي بغبار معاركه، لينام على مجد فروسيته.

حملهم الغبار على بساط الريح. صارت الريح بساطهم ،واختفوا عند المفارق … ولم يبقَ في الحيّ غيرنا…

***

(*) اللوحة للفنان حبيب ياغي

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *