مِنْ دلالاتِ تَحَوُّلاتِ لُغَةِ النَّصِّ الرِّوائيِّ على فاعِلِيَّةِ الزَّمانِ المُجْتَمَعِيِّ (الحلقة الرَّابِعَة) الرِّوايةُ الجزائرِيَّةُ وفاعِلِيَّةُ الزَّمانِ المُجْتَمَعِيّ

Views: 682

الدكتور وجيه فانوس

(دكتوراه في النَّقد الأدبي/جامعة أكسفورد)

  مِنَ المُتعارَف عليهِ بين غالبيَّة المؤرِّخين للرِّواية الجزائريَّة أنَّها بدأت، ظهوراً لها في السَّاحة الأدبيَّة، منذ أربعينات القرن العشرين. فقد ظهرت سبعٌ وثلاثونَ روايةً جزائريَّةً مكتوبةً باللُّغة الفرنسيَّة، بين سنة 1945 وسنة 1962، إثر انتهاء الحُكم الفرنسيِّ؛ وسبعَ عشرة روايةً أخرى، بالفرنسيَّة أيضاً، بين سنة 1962، مطلع عهد الاستقلال الجزائريِّ، وسنة 1972؛ في وقت لم يتعدّ ظهورُ الرِّواياتِ المكتوبةِ باللُّغةِ العربيَّة الثَّلاث روايات فقط[1]. ومِنَ المُتَّفق عليه، بين كثير من مؤرخي الرِّواية العربيَّة، أن أحداث الستينات التي شهدتها الجزائر والمتمثلة فيالتَّخلُّص من السُّلطة المباشِرة للحُكْم الفرنسيِّ، وتمكُّن الثَّورة من انتزاع الاستقلال الوطني، فضلاً عن السِّعي الشَّعبي والرِّسمي باتِّجاهِ التَّعريب؛ إضافة إلى إقبال العالم العربي على الموضوع الجزائري بمعظم أبعاده؛بدأت تؤكِّد هذا البروز للروايَّة، وتتعامل معه باعتباره من المعالم الدَّالة على حيويَّة ما لِحَرَكِيَّةِ العيش في الجزائر.

       من جهة ثانيَّة، لا يمكن إغفال أنَّ الرِّواية الجزائريَّة أبدت قابليَّة كبرى للتَّجاوب مع الوضع السَّياسيِّ والثَّقافيِّ، الذي باتت فيه الجزائر، بِدءاً من مطلع ستِّينات القرن العشرين؛ وأنَّ كثيراً من كُتَّاب الرِّواية في الجزائر، قدَّموا نِتاجاً لم يَكُن إلاَّ تأكيداً لحقيقة تفاعلهم الأدبيِّ مع ما مرَّت به الجزائر منذ تلك المرحلة وحتَّى اليوم.

أحمد رضا حوحو

 

ثَمَّة ريادة ما لأحمد رضا حوحو (1910-1956)، الذي أصدر رواية “غادة أم القرى” سنة 1947؛ وكان قد طبعها في تونس، بعد أن أنجز كتابتها إبَّان إقامته في الحِجاز، ما بين سنتي 1935 و1945. ومن الواضح، أنَّ موضوع الرِّواية ساهم في التَّقليل من تأثيرها، إذ عالج الكاتب فيها أحداثاً وقعت في مكَّة؛ وهي، في أيِّ حالٍ، أحداث لم تستطع إلاَّ أنْ تتسِم بالافتعال والمصادفة وعدم الإقناع.  أمَّا الأمر الذي يربط الرواية بالجزائر، فلم يتعد أن يَكون إهداءُ كاتبها، الذي توجَّه به إلى المرأة الجزائريَّة. 

عبد الحميد بن هدُّوقة

 

ولَعَلَّ رواية”صوت الغرام“، للجزائري محمَّد منيع، تُعتبر من النَّماذج النَّادرة للرِّوايات العاطفيَّة، ذات الطَّابع الرُّومنسي الخاص؛ لكنها اتَّسمت بترهُّلِ بنائها الرِّوائي وضعف الصِّراع الدِّرامي، فضلاً عن انعدام الحبكة الفنيَّة.  ثم برزت رواية السَّبعينات في الجزائر على يد عبد الحميد بن هدُّوقة (1925-1996)والطَّاهر بن وطَّار(1936-2010)؛ فضلاً عمَّا أصدره عبد الملك مرتاض (1935+)ومحمَد عرعار العالي (1946 +) ومرزاق يقطاش (1945 +) وسواهم. وكان لهذا الإنتاج أن سعى إلى تشكيل جمهور روائي جزائري وعربي عريض للرِّواية الجزائريَّة؛وكان لهذا الإنتاج أن ساهم في التَّعامُلِ الفنِّي الإبداعيِّ مع المجتمع، عبر طرحِ الأسئلة حول كيفيَّة شفاء المجتمع الجزائريِّ من جراحه المتعدِّدة والمتنوِّعة. 

 

يلي هذه المرحلة، ما كان مِن نتاج للرِّوائيين الجزائريين في حقبة الثَّمانينات والتِّسعينات ونهاية القرن العشرين؛ إذانمازت الأعمال الروائيَّة، هاهنا، بكونها:[2]

  • لم تتخلَّ عن معالجة مشاكل المواطن.
  • تفاعلت مع العصر والقيم والمعايير التي رأت أنها تؤدِّي بالشعب الجزائري إلى تحديد رسالة له والعمل على تحقيقها.
  • زاوجت بين الذَّاتي والموضوعي سعياً إلى إنتاج معادلٍ فنيٍّ للواقع.
  • صورة أمينة عن الأحداث الَّتي عاشها شعب الجزائر وما زال.
  • ارتبطت بواقع التَّعاقُب التَّاريخي والزَّمني.

 

مِن الواضح في هذا المجال، أنَّ الرِّواية الجزائريَّة عاينت، في رحلتها الأدبيَّة في هذه المرحلة، المحطَّات المُجتمَعِيَّة، التي عاناها البلد؛ وكانت، تالياً، على قدرة فذَّة في السَّعي إلى ملءِ كثيرٍ من مساحات التَّعبير الأدبيِّ عن هذه المحطَّات. وواضحٌ، كذلك، أنَّ الرِّواية الجزائريَّة لَمْ تبقَّ على حال واحدٍ، من أحوال التَّشكُّل الفنِّي، خلال معاناتها لهذه المحطَّات؛ بل كانت روايةً قادرةً على تكييف تشكُّلِها الفنيِّ، استناداُ إلى عدد كبير من العوامل التي من أبرزها:

  • طبيعة الأحداث والموضوعات التي تُطْرَحُ في المرحلة.
  • الموقف الأساسي أو الفكري للروائي من الأحداث ومن المرحلة.
  • القابليَّة الفنيَّة على تطوير تشكُّل الفن الرِّوائي لدى الكاتب.

 

ومن هذا جميعه، يمكن للمرء أن يشير إلى حركيَّة واضحة لـ”الزَّمان المجتمعيِّ” في الجزائر. إنَّها الحركيَّة التي يُمْكِنُ أن تَتَمَثَّلَ في عددٍ التَّغيُّرات التي عاناها المُجتمع، عبر انتقاله من مرحلة الاستعمار الفرنسي إلى مرحلة الحكم الذاَّتي؛ بكلِّ تبعاتهاالاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والأدبيَّة، الفرديَّة منها كما الجماعيَّة؛ وبكلِّ ما يُمْكِنُ أن يَتعلَّق بهذه الأمور من تفاعلٍ للقِيَمِوالمفاهيم والأعراف، وكلِّ ما شهدته، وما برحت تشهده، من منعرجات وتجاذبات وتجارب؛ فضلاُ عن كلِّ ما له علاقة بتقييم الذَّات والمجتمع على حد سواء.

خطة لِلتَّعامُل مع نصوص الرِّواية الجزائريَّة

لمَّا كان النِّصف الثاني من القرن العشرين المسرح الأكثر رحابةً والأكثر غنى ودلالة لفاعليَّة النَّص الرِّوائي الجزائري، فلم يعد ثَمَّة مندوحة من اعتماده مجالاً لدرس دلالات تحوُّلات لغة النَّص الرِّوائي على فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمعي في الجزائر. ولمَّا كان الرِّوائيون الجزائريون، على تنوُّعاتهم الذاتِيَّة والإبداعيَّة والموضوعيَّة، يشكِّلون شريحة مُتقاربة في مداها التَّأثيري على الصُّعدِ الفنيَّة والفكريَّة ومجالات التَّفاعل المُجْتَمعي، فقد كان من الواقعيَّة العمليَّة أن يُعْتَمَدَ واحداً منهم أنموذجاً لموضوع درسِ هذه الدلالات. ولمَّا كان الطَّاهر بن وطَّار، أحد أبرز الروائيين الجزائريين الروَّاد، وقد كتب رواياته بوعي لموقع الفنان القيادي وواقعه؛ واستند في كتاباته إلىرؤية شاملة ومعايشة واقعيَّة وتفهُّم لحركة المجتمع، فضلاً عن وعي بالفن وأصوله وآفاقه ؛فقد أصبح من الممكن اختيار أعماله الروائيَّة أنموذجاً لدرس منهجي يتناول تحولات لغة النَّص الروائي في دلالتها على فاعليَّة الزَّمان المجتمعي؛ على أن تكون ثَمَّة ملاحقة لنماذج من التَّعبير الروائي عنده من خلال موضوعة أو “ثيمة” Theme واحدة تتمُّ متابعةُ تحوُّلات لغة النَّص عنها عبر مراحل زمنيَّة متنوعة في حياة المجتمع الجزائري.

 

****

وإلى اللِّقاء مع الحلقة الخامسة “قراءةٌ في الدلالات المُجْتَمَعِيَّة للغة النُّصوص”.

 

[1]– للتوسُّعِ في هذا الموضوع يمكن النَّظر في:

  • عبد الفتَّاح عثمان، الرواية العربيَّة الجزائريَّة – دراسات أدبيَّة، هـ. م. ك. 1993.
  • نازلي معوض، التَّعريب والقوميَّة العربيَّة في المغرب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986.
  • جون ديجو، الأدب الجزائري المعاصر، الصحافة الجامعيَّة، 1974.

[2]– يُراجَع:

  • يونس فقيه، الواقعيَّة في الأدب العربي بين الثَّقافَة والحضارة – نموذج الرواية المغاربية والفهم القومي، الجامعة اللبنانية، 1995.
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *