“صرخة حمراء” لنهاد الحايك… صوت صارخ في براري الحروب والمعاناة

Views: 944

أنطوان يزبك

 

“يا سيّدًا مخيفًا لضحكي، ستحمل هذا المساء الصمت إلى المكان الأعلى”. سان جون بيرس (سافانا 1943)

هي نهاد الحايك في صوتها الصارخ في براري الحروب وقفر البشرية المعذبة، هي تلك الأنثى المتسامية والفريدة في أفكارها  فرادة الذهب وإبهار الزئبق ساعي الآلهة السريع؛ هي الشاعرة التي كلما اشتقت إلى شعرها، أهرع بلهفة الظامئ إلى دواوينها: “اعترافات جامحة”، و”عناقيد الزئبق”.

أقرأ وأتأمل صورتها على الغلاف!..

وكلما قرأت أطرقت منذهلا، متأملا قدرتها الهائلة على إعادة إنتاج المعاني، واستحضار الأحاسيس لكلّ التأويلات، وحركة التجدّد لديها لا تني تستبق عمل العاطفة، حتى يدخل القارئ في شعاب من المعاني تستولد بعضها البعض كما حين تنبلج الخصوبة الربيعية من الإيناع وتعلن باحتفالية غير مسبوقة قدوم فصل الصيف بصخب وإطناب!..

في شعر نهاد الحايك معانٍ تعرّي الذات الشفيفة، العاشقة للمعرفة والجمال والتحرّر، تحيل القارئ- المستكشف إلى شعور سرمدي، غبطة اللحظة الأولى في محراب الارتقاء وحبور العابد الصوفي الذي أدرك النيرفانا!!..

هذه هي موهبة نهاد الحايك، جعل الكلمات تدفق دفقًا كفعل عبادة، تؤسس لرحلة في دروب ظليلة وأصداء لامتناهية، أما في قصيدة “صرخة حمراء” من ديوان عناقيد الزئبق، فقد صوّرت ملحمة الحريّة والقتال من أجلها، من خلال عيون الأبطال والثوار، نقلت لنا رؤيتهم للوجود والكون وهي تتحكّم بناصية الأسلوب، حيث البهاء والسرّ في آن معًا، لا إسراف ولا اقتضاب، لا بل نسيج ملكي، يعزف لحنًا ساحرًا من سيمفونية الانعتاق على أوتار الوجود: فتتوحّد الثورة مع الكليّات والمثل الكبرى، فتتحوّل قصيدة نهاد إلى سردٍ  طقوسي، تغنيها عذارى المعابد، وتصغي إليها أرواح الشهداء الأبطال، احتفاء بتضحيات تومض كما الزئبق المشتعل في شلالات من ضياء، على شكل لمحات، وتنتصر وقفات العز حيث كان من المفترض أن تزرع الهزيمة والمهانة على يد الطغاة!!..

نعم في هذه القصيدة كانت الحرية مهدّدة إلى أن تأتي الصرخة وتندلع الرؤيا من عيني الثائر المعصوبتين على منصّة الإعدام، غير أن العصبة لا تحجب عنه النظر، كما في قصيدة بابلو نيرودا “الشيوعيون”:

“إن لحظة في الظلام

لا تسلبنا البصر”…

كثر هم الأبطال الذين دفعوا أرواحهم ثمنًا لقناعاتهم، ألم يقل إرنستو تشي غيفارا: “في الثورة علينا أن ننتصر أو نموت”.

ساعة الموت، ساعة حرجة، ساعة الإعدام، ساعة الحشرجة والأنين، ساعة الجلاد الأثيم، ممثل السلطة المستعدّة للقبض على أرواح الثوّار، وإسكات صخب ثورات تتالت، فتوالت الإعدامات، إنها مفاصل التاريخ في حقيقتها العارية، هلمّوا نعدّد الأسماء:

سقراط، ويليام والاس، بوبي ساندز، فرج الله الحلو، أنطون سعادة، جيمس كونللي، تشي غيفارا، باتريس لومومبا، الرئيس أليندي…

وتتواصل القوافل، إلى متى؟ حتى الفناء الكلي، حتى القيامة، ومن أجل أية اوطان؟ من يجيب؟!

 ذلك أن كل ثائر وهو على قاب قوسين أو أدنى من الموت، يكون همّه الوحيد منحصرًا في الذين سيبقون من بعده يواجهون القهر والطغيان؛ تقول نهاد الحايك في هذا الأمر:

ما لهذه العصبة

لا تحجب

إلتماع دموع أهلي

ولا نور وجوه أولادي؟

[…]

أنسى من انا،

فألتصق بذاتي،

متوسلا إليها التخلي،

علّ روحي

تتسرَب مني

قبل يدركني قاتلي…

ونهاد عند هذه اللحظة ستدقّ ناقوس البدايات مشرّعة نصّها لهؤلاء الأبطال، فنهاد لن تبقى وحيدة في متون القصائد، فقد شرعت الأبواب لأبطال الكفاح من أجل الحريّة، باشرت في إعداد المكان-القصيدة لأصواتهم، تحتفي بهم، ومن خلال قلمها وفكرها تسجّل أفكارهم في أعتى لحظات الغياب واستحقاق الشهادة والبطولة!!..

لقد تحدث رولان بارت مطوّلا عن تعدّد الأصوات في النص، كما فعلت جوليا كريستيفا في مسألة الأصوات وتداخل الشخصيات في النص الواحد، إلى حدّ أنه يصعب علينا معرفة من الذي يتكلّم، الشاعر أم الشخصية التي يتكلّم عنها أم الاثنان معًا؛ ولكن في “صرخة حمراء”، ثمة استحضار مهيب لروح كونيّة؛ فيها كل الشهداء الذين عرفتهم الإنسانية، وفي ذروة التصاقي بالنص أراه مسكونًا بصوت عصي على كل التقاء! إنه صوت حضور المسيح، إذ فجأة تطير بنا القصيدة إلى القفر الجليلي، كما ذاك الذي يصفه “جيلبير سينويه” في رواية “أنا يسوع” أو “أوبير برولونجو” في رواية “قبلة يهوذا”، حيث تسود علامات الموت والقرى المقفرة بعد أن صلب الرومان رجالها وتشتت أبناؤها، فتركت للغربان وغبار الصحراء الجاف!!

أجل في القصيدة كل الشواهد على مسيحانية هذا النص: عينان معصوبتان- أثواب عمري المنتهي- أية خطايا يطهرها دمي؟- صخور خرساء- وطني قبري- جمهور السماء- أسمع نواحًا- لا ديوك في القفر- وقبل الصياح أسمع همس خبيثٍ ورنينَ فضةٍ- انفجار الخيانة- بئر يوسف… إلخ، كلها تذكّر بالمسيح المساق إلى الصلب، والفضة التي دفعت إلى يهوذا وبطرس الذي أنكره قبل صياح الديك وخباثة أشقاء المسيح الأول أي يوسف الذي رماه إخوته الغيارى في الجب ليتخلصوا منه، “والنواح الطالع من حناجر بيتي” يذكّر بالآية: “صوت سمع في الرّامة، نوح وبكاء وعويل كثير. راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزّى، لأنهم ليسوا بموجودين” (متى 2: 18)!!

ثم تعود جوقة الأصوات، أصوات شهداء الحريّة لتتوحّد في صوت نهاد الحايك حين تقول:

“منتظر في صمت الجرود

وأسمع أصواتًا

تصدح تنظيرًا

في فنون السياسة

وجنس الملائكة،..

[…]

وفوق رأسي

 معدن السيوف

ينشر في جسدي

صقيع الممات،

هي أصوات الشهداء، وتضحياتهم تصرخ من فوق قبة العالم، تنظر إلى البشر في عز انشغالهم عن القضايا الكبرى بمآكلهم وشرابهم وقوتهم وتنعُّمهم، وقد تناسوا تضحيات الأبطال وكرازة الأنبياء وعظات المصلحين وإرشادات الفلاسفة والمفكرين!!..

“نفسي حزينة

حتى… ما بعد الفناء”.

أصوات أبطال خُذلوا، آلمتهم مهانة شعوبهم، فظنوا، وهم حتى في “البعد الآخر”، “دنيا الخلود” أن الخليقة برمّتها، لا زالت رازحة تحت الطغيان، وكأن سلالة قايين ما فتئت تتوالد إلى ما لا نهاية، وسلالة المظلومين تداس تحت نعال من ظفروا  “شرفَ” تحديد مصائر الشعوب وقهرها وإبادتها بحسب الظروف والأهواء والغرائز الأكثر حدّة وغرابة، وحين نسأل عن العدالة تتجه الأنظار إلى “مجلس الأمم المتحدة” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فتقع على برج بابل جديد ونسخ ممتازة من “نمرود” ومشاريع الرياح ومقررات الهباء:

وأسمع أصواتًا

تصدح تنظيرًا

في فنون السياسة

وجنس الملائكة،

أرصد لغات

تـبـثُّها أفواهٌ مفوَّهة

تُـمعِنُ البحثَ والتدقيق

في معنى العدل

وأصول السلام

والقضايا الشائكة.

أصواتٌ ولغات

تُـغدِقُ عسلَ الحروف

ووفيرَ الكلام،

يقابِـلُها هتافٌ وتصفيق

هكذا هتفت نهاد الحايك دفاعًا عن الإنسان!!..

هكذا عشقت نهاد الحايك الحرية لكي تصبح مناضلة في الصف الأول!!..

هكذا أحبّت الإنسان فارتضت أن تصبح الباسيوناريا الجديدة المقاتلة في كل معارك التحرّر!!.

وقفت مع كل أحرار العالم في مواجهة “مجانية هذا العالم ووقاحة هذا العالم!!..”

استصرخت حناجر الأبطال لتوقظ الضمير وتعيد إحياء شعلة النضال؛ مذكرة بما قاله “جان جوريس” ذات يوم: “لا يمكن أن تقوم ثورة، إلا حيث يوجد ضمير”!!..

***

صرخةٌ حمراء

 

إنّ دمَ ميتٍ، مُراقًاعلى قارعة الطريق بفعل حادث، ليس كدَمِ ميتٍ من أجل الحرية، مُراقٍ أيضًا على قارعة الطريق. لكلٍ منهما طريقةٌ مختلفة في الاحمرار وفي الصراخ.

أوجين غييوفيك

عيناي معصوبتان

كي لا أرى انعدامَ الروح

على وجه جلّادي

أو شهوةَ الدم

في حدِّ سيفِه…

ولكني أرى…

ما لهذه العُصبة

لا تحجبُ

الْـتِماعَ دموعِ أهلي

ولا نورَ وجوهِ أولادي؟

ما لَـها تكشفُ لي

عمقَ أعماقِ ليلي،

تفتحُ بصيرتي،

فأفهمُ تيهَ البشر

وحقيقةَ بلادي…

 

عيناي معصوبتان

وفي غيهب الانتظار

يُبهرني سطوعُ المصير،

أكادُ من شدَّةِ اقترابِـه

أنسى مَن أنا،

فألتصقُ بذاتي

متوَسِّلًا إليها التخلّي،

علَّ روحي

تتسرَّبُ منّـي

قبْلَ يُدركُني قاتِـلي…

 

عيناي معصوبتان

وأرى

غدًا لن يأتي،

وماضيًا لا يمضي

تتشبَّـثُ أحداثُـه

بأثوابِ عمري الـمُنـتَـهي.

 

ماذا اقترفتُ؟

أية خطايا يطهِّـرُها دمي؟

أية قضايا تخلِّـدُها روحي؟

 

أُقطَعُ كشجرةٍ مثمرة

بين صخورٍ خرساء،

لا شواهد فيها ولا قبور،

وطني قبري

والشاهدة: شهيدُ الهباء.

هل سيُـنادَى باسمي

بين جمهور السماء؟

 

منفيٌّ بين قفرٍ وفضاء

وأسمعُ نواحًا

طالعًا من حناجر بيتي.

لا ديوك في القفر

ولكني أسمع صياحها،

وقبل الصياح أسمع

همسَ خبيثٍ

ورنينَ فضّـةٍ

يُـدَوِّيان

كانفجار الخيانة.

أسمعُ وقْعَ الحجارة

في بئر يوسف،

أسمعُ أنينَ الذبيحة

تسألُ بغير صوت

ما جدوى الحياة؟

أيُّ معنى للموت؟

 

منتظرٌ في صمت الجرود

وأسمعُ أصواتًا

تصدَحُ تنظيرًا

في فنون السياسة

وجنس الملائكة،

أرصدُ لغات

تـبـثُّها أفواهٌ مفوَّهة

تُـمعِنُ البحثَ والتدقيق

في معنى العدل

وأصول السلام

والقضايا الشائكة.

أصواتٌ ولغات

تُـغدِقُ عسلَ الحروف

ووفيرَ الكلام،

يقابِـلُها هتافٌ وتصفيق

 

ثم طعامٌ ونومٌ عميق

وتَــنَـعُّـمٌ بدفء الحياة،

وفوق رأسي

معدنُ السيوف

ينشر في جسدي

صقيعَ الممات.

 

مات صوتي،

وأسمعُ صراخي

يخترق عصبَ الصخور،

يُـصدِّع جدارَ السماء،

يعصف ريحًا هوجاء،

ولا رملَ يتطاير ولا غبار.

هل قايـين يقتلني؟

أو صنفٌ من وحوش القفار؟

 

في صدري هدير،

في شراييني إعصار،

أبكي غيابَ السماء

لا غيابي.

 

نفسي حزينة

حتى… ما بعد الفناء.

 

من دون دمي سأُدفَنُ

مكفَّنًا بصدى الصمت

وعويل الرياح،

فهُنا ستبقى صرختي الحمراء،

على قارعة الكون،

في كواليس الضمائر،

عند أعتاب الله…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *