القدس في رحلة الشّيخ عبد الغنيّ النّابلسيّ الموسومة بـ “الحضرة الأنسيّة في الرّحلة القدسيّة”

Views: 638

أ.د. محمد العويسات

 

هذه دراسة بعنوان “القدس في رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي” الموسومة بـ “الحضرة الأنسيّة في الرحلة القدسيّة”، التي قام بها لفلسطين في مطلع القرن الحادي عشر الهجري الموافق لأواخر القرن السابع عشر الميلادي، والتي استغرقت خمسة وأربعين يومًا، ابتدأها من دمشق متوجّها إلى بيت المقدس، ومنها إلى الخليل، وتستهدف الدراسة توثيق صورة عمرانّية حضاريّة للقدس في زمن الدولة العثمانيّة.

 

17ـ وصف بعض الوسائل والأدوات المدنيّة:

 منها وصف الأرنجيلة ، يقول: ( النّابلسي،1990: 304)       

“وفوّارة يعلو بها الماء صاعداً/لها مدد لكن بتدبير ذي الحجا/كرمحٍ رماه ساعد اليد للسّما/فصـادفه بعـد السّمـا فتعـوّجا”.

18ـ وصف ليلة سمر وطرب في التكية المولوية المطلّة على الأقصى، وأظنها من حلقات الذكر الصوفية التي تعتمد الدفوف والنايات، يقول: ( النابلسي، 1990: 241)

ويوم المولويّة خير يوم/نعم فيها مع أشرف قوم/وأحباب كرام في البرايا/لهم صفو الوداد بغير لوم/مكان في ذرا العلياء عالٍ/على كوم هناك أجلّ كوم/وقصر ذو شبابيك مطلٌّ/على القدس الشريف رفيع سوم/وسمعنا فيه أنواع الأغاني/برنّات تُزكّي أهل صوم/وقد جذبت معانيها قلوباً/لنا حامت عليها أيّ حوم/ونايات هنالك مع دفـوف/تنبّـه سامـعاً مـن كـلّ نـوم/وكان شهودنا وجه تجلّى/يُعوّض عن فناغيرٍ بدوم/إلى أن حيعل الداعي وقمنا/نعوم ببحر ذلك أيّ عوم/وننشد قائلين لمن وجدنا/ويوم المولوية خير يوم”.

 

19ـ وصف النبات في القدس :

 يقول في وصف زهر القرنفل في صحن الصخرة عند باب الجنّة ( النابلسي،1991 : 136) :  

“قم يا نديمي لداعي اللهو واستبق/فقد ترنّمت الورقاء في الوَرق/وانظر إلى حسن باقات القُرُنفل ما/بين الربا نفحت كالمندل العبق/أطفـا النسـيم لهيبًا مـن مشـاعـلها/في ظلمة الروض حتى جمرُهنّ بقي”.

يقول في وصف نوع من النبات في مقبرة ماميلا:

” ومن العجائب أنّنا وجدنا في هذه المقبرة (يقصد ماميلا) حشيشة طول الإصبع، خضراء مزهرة، ولها يدان وأربع أرجل ورأس صغير أحمر ولها عرف أبيض فوق رأسها، وذنبها زهر أحمرمعقّد، وفيها الحياة وتمشي على أرجلها، وقلنا في ذلك بمعونة القادر المالك: (النابلسي، 1990 :321)

وحشـيشة فيها الحـياة  رأيتـها/بيدين والرأس الصغير وأرجل/خضراء تمشي وهي مزهرة كما/تمشي كبار النّمل فوق سجنجل/والعرف زان الرأس منها أبيض/كالشيب في رأس الفتى المترجّل/وغدا لها ذنبٌ  كزهر أحـمر/مـدّت بـه  يـد  قـادم  لمبجّـل/فعجبت من صنع الإلـه وخلقـه/وعـلـمت أنّ الله ذو أمـر جـلي”.  

                               

20ـ معالم زارها النّابلسيّ خارج القدس وأفاض في وصفها، منها: مقبرة ماميلا، وعين سلوان وبئر أيوب، ويقف طويلاً عند تاريخهما ووصفهما نثرًا وشعرًا، ويورد فيهما أقوال من سبقوه من الرّحالة والمؤرخين، وقد ربط بينها وبين زمزم، يقول في ذلك:  (النابلسي،1990: 194)

“ملوحة ماء العين شيء محـقّق/وليـس به نقصٌ وفيه كـمال/فمن أجل هذا ماء زمزم مالح/كـذا ماء سلـوان وذاك زلال/وإنّـهما العــينان للأرض هـذه/   يمـين بدت فيها وتلك شـمال/ففي مكّة اليمنى ويسراهما التي/بقدس وكلّ الـعالمــين خيال”.

ويعرّج النابلسي على بئر أيوب وهو بالقرب من عين سلوان، ويورد ما ذكره فيه الحنبليّ في كتابه الأنس الجليل، يقول الحنبليّ: ” قرأت بخطّ ابن عمّي أبي محمد القاسم وأجازه لي، قرأت في بعض التواريخ أنّه ضاق الماء في القدس فاحتاجوا إلى بئر هناك نزلوها، طولها ثمانون ذراعًا، وسعة رأسها عشرون ذراعًا في عرض أربعة أذرع، وهي مطويّة بحجارة عظيمة، كلّ حجر منها خمسة أذرع وأقلّ وأكثر في سمك ذراعين وذراع، فعجبت كيف نُزّلت هذه الأحجار إلى ذلك المكان، وماء العين بارد خفيف، ويسقي الماء طول السنة من ثمانين ذراعًا، وإذا كان زمن الشّتاء فاض الماء وساح حتى يسيح على وجه الأرض في بطن الوادي، وتدور عليه أرحية تطحن الدّقيق، فلمّا احتيج إليها وإلى عين سلوان نزلت إلى قرار البئر ومعي جماعة من الصناع فرأيت الماء يخرج من حجر يكون قدره ذراعين في مثلهما، وفي البئر مغارة فَتْحُ بابها ثلاثة أذرع في ذراع ونصف، يخرج منها ريح بارد شديد البرد، وإنّه حطّ فيها الضّوء فرأى مغارة مطويّة السّقف بحجر، ودخل إلى قريب منها ولم يثبت له الضّوء فيها من شدّة الريح الذي يخرج منها، وهذه البئر في بطن واد والمغارة في بطنها، وحولها من الجبال العظيمة الشّاهقة ما لا يمكن الإنسان أن يرتقي إليها إلا بمشقّة، وهي التي قال الله تعالى فيها لنبيّه أيوب عليه السّلام: “اركضْ برجلِك هذا مغتسلٌ بارد وشراب”، ثمّ قال الحنبليّ: وهذه البئر مشهورة معروفة وفي كلّ سنة عند قوّة الشّتاء وكثرة الأمطار يفور الماء منه حتى يصير كالنّهر الجاري ويسير إلى مسافة بعيدة، ويستمر على هذا الحال أيّامًا عدّة كالشّهر ونحوه، فهو من العجايب” (النابلسي،1990: 194/195).

كنيسة الجسمانيّة

 

وكذا يفعل في وصف جبل الطّور والذي يسمّيه طور زيتا، وفي طريقه إلى الطّور يصف معلمًا يسمّيه طرطور فرعون، وكنيسة الجسمانيّة أو كنيسة مريم في سفح الجبل، ومن المقامات التي ذكر زيارته لها: قبر رابعة العدويّة أو مقامها، وقبر الشيخ محمد العلمي، ويذكر أنّ عليه جامع، وفيه الزاوية الأسعديّة، ويشير النابلسي إلى وجود أشعار على جدران ذلك المكان منها ما يؤرخ لعمارة ذلك المكان، كقول الشيخ رضي الدين اللطفيّ: (ينظر النابلسي،1990: 187-198)

“وقد قلت إذ تمّ البناء مؤرّخاً/مصلّى لطور الله قد شاد أسعدُ”.  

   الأماكن المقدّسة لدى النّصارى     

21ـ ولا يفوّت النابلسي زيارة بعض الأماكن المقدّسة لدى النّصارى في القدس، منها كنيسة الجسمانيّة، وهي خارج البلدة القديمة في جهة الشّرق في سفح جبل الطور في الجنوب الغربيّ منه، يقول في وصفها: (النابلسي،1990: 195-196)” ولمّا مررنا في وسط ذلك الوادي أبصرنا بابًا كبيرًا يظهر للصّادر والغادي، فسألنا عنه فقيل لنا ها هنا قبر مريم بنت عمران، في داخل هذا المتين من البنيان، وهي كنيسة كما قال الحنبلي، في داخل طور زيتا تسمّى الجسمانيّة، خارج باب الأسباط ، وهو مكان يقصده النّاس للزيارة من المسلمين والنّصارى، وهذه الكنيسة من بناء هيلانة أمّ قسطنطين… وقد دخلنا هذه الكنيسة بقصد زيارة مريم عليها السّلام، ونزلنا إليها بدرج نحو خمس وخمسين مشتمل على الأحجار الكبار، وعرض الدّرج نحو خمسة أذرع، حتى وصلنا إلى أسفل ذلك وإذا قبر معقود من الأحجار، عليه قناديل نحو العشرةكبار موقودة بالليل والنهار، وهناك موضع بالقرب من القبر يقولون إنّ عيسى عليه السلام رفع منه، فوقفنا ودعونا الله تعالى… ” .

هذه أبرز محاور زيارة النابلسيّ ووصفها، فقد لخّصناها في غير إجحاف أو انتقاص، فحرصنا على أن تكون الصورة جليّة، والفكرة وافية .

 

الظواهر الاجتماعيّة

 22ـ يرصد الشّيخ النابلسيّ بعض الظواهر الاجتماعيّة في مدينة القدس، منها: الغناء في الأعراس يقول: ” ثمّ قمنا لنخرج من ذلك المكان مع من كان معنا من الإخوان، فسمعنا أصوات نساء يُصحن بالزغاليت لاجتماعهنّ في عرس بتلك المحلّة لأجل المبيت، فتفاءلنا بكمال الطّرب في ذلك اليوم، ببركة زيارتنا لزوايا الصّالحين من فقراء القوم. (النابلسي،1990: 241) وقد أردف النابلسي هذه الإشارة بمقطوعة شعريّة يبين الحكم الشّرعي في سماع الأغاني، وكان قد حضر جلسة طرب وغناء في التكيّة المولويّة، يقول:   (النابلسي،1990 :242)

إنّ السّـماع سماع الناي والوَتَر/يسقي أراضي نفوس الناس كالمطر/فإن يكن في النفوس الخبث أنبتَه/وفـي الشقـاء لـه نــوع مـن الثّمـر/وإن يكن في النفوس الطيب فاح له/   بيـن البـريّـة ريّـا عــنبر عـطر/ فاكشف بعقلك عمّا أنت فيه وكن/من التـباس أمور النفس في حذر/وكلّ من قال بالتحريم مقــصده/تحذير ذي الخبث من مستحكم الشّرر/ومن يقل فيه بالتحليل فـهو على/إرشـاد ذي الطّيب للتـذكار والفَكَر/ومقصد الكلّ في الإسلام منفـعة/       حاشا بأن يقصدوا للناس من ضرر/ولا تسئ في الورى ظنّاً بجهلك مَن/حاز الكمـال وعــنه كنت في قصِر/أقـم على نفسك الميزان معترفاً/بالجهل عن كلّ مَن لم تدر من البشر/فإنّ لله فـي طـيّ الوجـود على/مـرّ الزّمـان زكيّـات من الفـطر”.

وظاهرة المقاهي، وشيوع الغناء فيها يقول: ” ثمّ مررنا بالسّوق مع الإخوان فوجدنا فيه بيت القهوة ملآن وهم يعلنون بأنواع الأغاني والألحان فكمل لنا السّماع وانطربت منّا الأسماع” (النابلسيّ، 1990: 241)

 وهناك ظاهرة الدّخان وما فيها من خلاف فيها حسمه النابلسيّ بإباحته، وقد مرّ ذكر هذا في الإشارة إلى مجالس النابلسيّ العلميّة، وشيوع ظاهرة النرجيلة أو كما يسمّيها (الفوّارة)، يقول:         ( النابلسي،1990: 304):

وفوّارة يعلو بها الماء صاعدا/لها مدد لكن بتدبير ذي الحجا/كرمحٍ رماه ساعد اليد للسّما/فصـادفه بعـد السّمـا فتعـوّجا”.    

         

القسم الثالث:

الدراسة

تعدّ هذه الرحلة من أبرز الرحلات إلى بيت المقدس في تاريخ الأدب العربيّ، لأنّ بيت المقدس وزيارته هو مقصودها وهو محورها منذ البداية، فنال من الوصف والحديث جلّه، وتأتي دراستها من جوانب عدّة، الجانب العمراني، الجانب الديني الفكريّ، الجانب الأدبيّ واللغويّ، 

جانب الوصف العمرانيّ وما تعلّق به

لقد قام النابلسيّ بوصف القدس وصفًا دقيقًا، جمع فيه بين الوصف العمرانيّ، ووصف قدسيّة المكان، والوصف العلميّ الذي تناول ذكر الكثير من مشايخ الصّوفيّة وأعيانها في المدينة، ومجالسهم العلميّة التعبديّة، والتي انحصر وصفه لها في الجانب التصوّفي، أمّا وصف حياة الناس الاجتماعية فكان نزرًا يسيرًا، وأمّا وصفه للحالة الاقتصاديّة في القدس آنذاك فيكاد يكون معدومًا، اللهمّ إلا وصفه لتكيّة خاصكي سلطان وما فيها من غلال والذي اقتضاه وصف المكان، وكذلك الحالة السياسيّة، التي لم نجد له فيها إلا إشارة عابرة في مدح بعض المسؤولين من ذوي المراكز الدينيّة، منهم المتسلّم بمحكمة القدس، يقول: ” وممّن حضر عندنا من العسكريّة في المدرسة السلطانيّة مفخرة الأمراء المعتبرين (عقل بيك) المتسلّم يومئذ بمحكمة القدس الشّريف على مقتضى الشّرع والدين، أدام الله تعالى جنابه محروسًا ومحلّه مأنوسًا … ومنهم فخر الأكارم والأماجد خلاصة ذوي المكارم والمحامد عليّ آغا الناظر سابقًا على حرمي القدس والخليل … ومنهم فخر الأعيان وخلاصة أبناء الزمان محمد آغا الناظر يومئذ على الحرم القدسيّ والمقام الخليل الأنسيّ…” (االنابلسي،1990: 155-156) واتسم وصفه للجانب العمراني بالدّقة والاستقصاء، كما في وصفه للمدرسة السلطانيّة، أو وصفه للكأس الذي يقع بين الصخرة والمسجد الأقصى القبليّ، فصوّر فنّ العمارة في تلك الدّيار وصفًا دقيقًا شائقًا، وربّما تكمن أهمّية هذا الوصف في توثيق تلك المعالم التي طمسها اليهود أو أزالوها من الوجود، كوصفه لمقبرة ماميلا، وحارة الشّرف، وحمام الشّفا وعين بئر أيوب، وغيرها.

 

الجانب الأدبيّ

 جمعت الرحلة بين الوصف النثري والشّعري، وهذا ما يميّزها عن غيرها من الرّحلات، فقد نجد حجم الأشعار أكبر من حجم النّثر، وكانت أشعاره تتراوح بين الوصف، والمدح، والفكر الصّوفيّ، والإجازة العلميّة، وبعض التقريظ، ومنه أيضًا المعارضة وبخاصة في المدائح النبويّة، التي منها على سبيل المثال قصيدتان مطوّلتان في مدح الرّسول عليه الصلاة والسّلام يعارض فيهما قصيدتين لعبد الرحيم أفندي (النابلسي،1990: 164ـ171)، يظهر النابلسيّ من خلالهما مقدرة فنيّة على المعارضة.

 وقد جاء النابلسي على ذكر أشعار آخرين من معاصرية أو ممّن سبقوه، وكلّها لشعراء صوفيين. وقد حملت أشعاره من السّمات الفنيّة التي امتاز بها الشّعر في العصر العثمانيّ فتراوحت بين البساطة والجزالة في لغتها، ولا تخلو من الصّنعة البديعيّة، التي عجّت بها أيضاً نصوصه النثريّة، كقوله: ” ذهب معنا خَدَمَة المكان، إلى الزيارة والتبرّك بهاتيك الآثار الحسان، فأول ما زرنا الصخرة الشريفة، ذات الأنوار الواضحة التي بها مطيفة ” (النابلسيّ، 1990: 109) ويغيب هذا السّجع عند مناقشاته الفقهيّة والعلميّة. وقد كان للتورية في شعره حظّ وافر، وهذه من التقاليد الفنيّة للغة الصّوفيّة، كقوله: “(النابلسيّ، 1990: 191)

في حضرة القدس من أهواه غازلتي/عيــنًا بعــين وإنســانًا بإنســـان/وصخرة القلــــب منه لم تلــن وأنا/لي عين عشق ومالي عين سلوان”.       

فالقدس والصخرة والإنسان وسلوان كلّها ألفاظ مورّى بها، لا يقصد بها الأمكنة المعروفة بها بل يقصد بالقدس الحضرة الإلهيّة، والصخرة قسوة القلب، والإنسان إنسان العين، والسلوان السلوة الصبر.

 ولا تخلو نصوصه، النثريّة والشعريّة على السواء، من الصّور الفنيّة الجميلة، من مثل وصفه للماء في حمّام الشّفا: (النابلسي، 1990: 174)

“مجاريه تقهقه فيه ضحكًا/على الأجسام تبكي بالدّموع”.

(يتبع)

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *