قوَاسِم مُشترَكة نَسَجَتْ عُرىَ صَدَاقةٍ وُثقىَ بين المغرب واسبانيا

Views: 116

محمّد محمّد الخطّابي*

إنّ العناصر الصالحة المشتركة،والمكتسبات الهامّة والمورثات الحضارية والتاريخية والثقافية واللغوية بين المغرب وإسبانيا ، تحفز البلديْن أكثر من أيّ وقتٍ مضى لوضع قاطرة التعاون الثنائي على السكّة الصّحيحة القويمة ، لتقريب المسافات، وإستخراج كلّ العناصرالإيجابية بينهما، في عصرٍأصبحت فيه التكتّلات الإقتصاديّة، والسياسيّة، والثقافيّة، والإنسانيّة بين الدّول والشعوب تتبلور بشكل لم يسبق له مثيل، وذلك لزيادة تعزيز وتقوية الأرضية الصّلبة لعلاقاتهما المتينة في مختلف مرافق الحياة المعاصرة ، الثقافية منها على وجه الخصوص حيث تكمن الأهميّة القصوى للدّور الحيوي والمحوري الذي ينبغي أن يضطلع به هذا القطاع الهام في هذا القبيل بين الجانبين.

فإسبانيا والمغرب بحكم موقعهما الجغرافي الممتاز، والجيوستراتيجي المتميّز، كبلدين جارين متقاربين ، إنطلاقاً من”ماضٍ” حضاريّ تقاسماه ، و”ثقافةٍ” رفيعةٍ نَسَجَا خيوطها سويّاً، و”إشعاعٍ” متألق إنصهرا في بوتقته، وبحكم “الحاضر” الواعد الذي يعيشانه ، و”المستقبل” المشترك الذي يتطلّعان إليه ، كلّ ذلك ينبغي أن يجعل منهما بلدين واعييْن كلّ الوعي بالدّور المنوط بهما لتحقيق المزيد من التقارب،والتداني، والتعاون، والتفاهم، والعمل على نَسْج عُرَى صداقة أوثق، وترسيخ أواصر مودّة أعمق.ومدّ الجسورالمتينة بينهما في مختلف الحقول،وبشكلٍ خاص في الميادين السياسيّة، والتجاريّة، والاقتصاديّة، والثقافيّة، والعلمّية، والإجتماعيّة، والسياحيّة ، وسواها من أوجه التعاون المختلفة الحيوية ذات الإهتمام المشترك بين الطرفين.

قضايا شائكة وأمورٌ عالقة

ولكي نكونَ واقعييّن في هذا الطّرح، تجدرالإشارة إلى أنّه على الرّغم من الزّخم الهائل الذي يطبع العلاقات الثنائية بين البلدين، والبريق اللمّاع الذي يضيئها،ويوحي للعيان أنّها على خير ما يُرام في مختلف المرافق، والقطاعات، والقضايا، ،فإنه ينبغي لنا ألاّ نغفل، أو ندير ظهورَنا لقضايا أخرى ثنائية هامّة عالقة وشائكة،وإكراهات مُؤرقة ما زالت تثقل كواهلنا ، وتقلق مضاجَعنا، وهي تواجهنا بإلحاح وإمعان، ولا ينبغي لنا أن نتّبع حيالها سياسةَ النّعامة في إخفاء رؤوسنا في الرّمال، وعدم رؤية الواقع الحقيقي الذي نعيشه، ونلمسه،ويتجسّد نصب أعيننا، ويمكن حصربعض هذه القضايا كما يلي  :

الصّحراء المغربية

جارتنا الشمالية اسبانيا مدعوّة هذه الأيام باعتبارها طرفاً تاريخياً أساسياً ورئيسياً في هذا النزاع الاقليمي المفتعل الذي طال أمدُه بسبب تعنّت جيراننا الأشقاء القابعين وراء التخوم المحاذية لحدودنا الشرقية، أجل إنّها مدعوّة بأن تفتح عيونها جيّداً ،وأن تبادر، وأن تصحو من غفوتها وأن تقوم بخطوة أو خطوات، أو بمبادرة أو مبادرات لتعود إلى رشدها، وتؤوب الى صوابها في قضيّة حاسمة تعتبر من أولويّات قضايا المغرب وصلب اهتماماته خاصّة بعد ان ظهرعلى مسرح الأحداث ومجريات التاريخ مُعطى آخر جديد ذو أبعاد سياسية ذات أهمية قصوى في هذا المنوال هو اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على صحرائه حيث كانت اسبانيا من قبل تستغلّ هذا الجانب في كلّ مناسبة وتقايض به مصالحها مع المغرب،فإسبانيا لابدّ أنها تدرك اليوم جيّداً أنه بعد الخطوة الجريئة التي أقدمت عليها واشنطن،وما أصبح يُطبخ في فرنسا في الوقت الراهن من إيجابيات ومفاجآت وإرهاصات حول هذا الموضوع الشائك،كلّ تلك العناصر لابد ّ أن تُحدث تغييرات جذرية في هذا النزاع المصطنع ممّا جعل المغرب  اليوم في موقعٍ أكثرَ قوة وصلابة من ذي قبل سيُحسب له  منذ الآن ألف حساب.

 

سبتة ومليلية 

عندما يثار الحديث عن سبتة ومليلية يقفز إلى الذهن على الفور بيت قرأته ذات مرة في كتاب ” أزهار الريّاض في أخبار القاضي عياض” فحفظته رأساً عن ظهر قلب ، يقول الشاعر فيه عند تحيته لمدينته سبتة  : (سلام على سبتة المَغربِ  /  أخيّة مكّةَ ويثربِ) . المدينتان المغربيتان السليبتان سبتة ومليلية، والجزر الجعفرية ، وصخرة النكور ،والجزرتان الصغيرتان المحاذيتان لرمال شاطئ “الصّفيحة” بأجدير (قرب مدينة الحسيمة) وشبه جزيرة بادس، وجزيرة ليلى تورة كلها ما زالت تذكّرنا عند إنبلاج كل صباح بأنّه ما زالت هناك قضايا تاريخية جادّة شائكة عالقة ، ومواضيع ثنائية هامّة تمسّ السّيادة الوطنية في الًّصّميم .

مداخل ومخارج المدينتين السّليبتين سبتة ومليلية خيرُ مثال على الوجه الآخر الخفيّ المؤلم لهذه العلاقات ،والشّعور بالحَسْرة والحَيْرة الذي يعتمل في قرارة نفس كلِّ مواطنٍ عندما كان يَعْبُرُ هاذين المعبرين ذهاباً أو إيّاباً،اللذين يفصلان قهراً وقسراً بقعةً جغرافيةً واحدةً متماسكة، ويشطرانها شطرين تنشطر معها أهواءُ السكّان الآمنين، وتتضاعف معاناتُهم، ومشاعرُهم، وأحاسيسُهم، وتطلعاتُهم لعناق بعضهم البعض من الجانبين،وإحياء صلة الرّحم فيما بينهم وراء الأسلاك الشائكة، أوالأسوار العالية، التي تُبَاعِد أو تفصل بينهما،في زمنٍ تهاوت فيه ومعه كلّ الجُدران مهما كان علوّها وارتفاعها ،وقد زادت الجائحة اللعينة هذه المعاناة سوءاً وعذاباً مقيماً للمواطنين الذين كانوا يحصلون على قوت يومهم من الثغرين بعد أن أغلقا منذ ما يقرب من حوْلٍ من الزمان.

الغازات السامّة في الرّيف

لقد أصبح موقف إسبانيا من إستعمالها للغازات السامّة، والأسلحة الكيمياية المحظورة في حرب الرّيف يُثار بإلحاح وإمعان في المدّة الأخيرة داخل المغرب وخارجة ،بل إنّه أمسى يُثار حتى في إسبانيا نفسها، فهل في مقدور- جارتنا الأوربيّة- اليوم الإقدام على إتّخاذ خطوة تاريخية جريئة للمصالحة النهائيّة مع ماضيها المعتم والمؤلم في المغرب بتقديمها إعتذارٍ شجاع للشّعب المغربي،بشكلٍ عام،ولأهل الرّيف على وجه الخصوص، أيّ للمتضرّرين الفعلييّن، من السكّان الآمنين،وتعويضهم إنسانيًّا،وحضاريّاً – حسب ما تمليه القوانين اللدّولية في هذا القبيل- هذه الجريمة النكراء البغيضة ،وقد أصبح هذا الموضوع الحيوي الهامّ يستأثر بحدّة بإهتمام الرّأي العام المغربي والإسباني على حدّ سواء، والمتعلق بالتظّلم المُجحف،والأضرار الجسيمة التي لحقت بالعديد من الأسر والعائلات التي ما زالت تُعاني في مختلف مناطق الرّيف من الآثار الوخيمة (أوبئة السرطان اللعين) الناجمة عن جريمة إستعمال هذه الأسلحة الكيمياوية الفتّاكة من طرف إسبانيا بعد الهزائم المنكرة التي تكبّدتها في حرب الرّيف التحرّرية الماجدة ؟ ولقد طالب “مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم ” غير ما مرّة بضرورة إيجاد تسوية حقوقية لملف الحرب الكيماوية ضدّ الريف واجبالة. ** 

 

الجالية المغربية في إسبانيا

تُعاني الجالية المغربية المقيمة في إسبانيا التي أصبحت تقارب المليون نسمة من ضائقة خانقة في خضمّ الأزمة العويصة التي تعيشها إسبانيا التي لن تعرف بوادر الإنفتاح والخروج منها إلاّ بعد  انحسار الجائحة التي ضربت الاقتصاد الاسباني ،وتنعكس هذه الأزمة سلباً على جاليتنا المقيمة في هذه الديار ذلك أنّ معظمَهم كانوا يشتغلون في قطاعيْ الفلاحة والبناء اللذين يعرفان في الوقت الراهن ركوداً قاتلاً، وأصبح عدد كبير منهم بالتالي عرضة للتسريح المجحف ،والإرتماء في أحضان البطالة. وحسب الخبراء المتتبّعين لهذا الموضوع فإنّ الحلول أو بعضها لا تبدو في الأفق القريب، نظراً لإنعدام تواصل جاليتنا مع النّخبة السياسية الإسبانية،وعدم توفّر وسائل الدفاع عنهم وعن حقوقهم، الشّئ الذي يجعل الكثيرين منهم ممّن كانوا يتابعون دراساتهم مضطرين للإنقطاع عن الدراسة،هذه الأزمة كانت قد دفعت الحكومة الإسبانة السابقة إلى المصادقة على قانون جديد للهجرة غيرِ منصفٍ بالنسبة للمغاربة، مقابل السياسة التفضلية التي يحظى بها مواطنو بلدان أمريكا اللاتينية.والحالة هذه ينبغي على بلادنا مضاعفة الجهود لتقديم مختلف وسائل الدّعم، والمساعدة لهم.

الهجرة السريّة أوغير الشرعيّة

على الرّغم من الجهود الحثيثة المبذولة في هذا المجال،لمحاربة أو جعل حدٍّ للهجرة السريّة واللاّشرعية التي تفاقمت بشكل مهول في خضمّ جائحة كورونا ممّا  أصبح الأمر يدعو للقلق ، ما فتئت التساؤلات تطرح عن الإجراءات، والخطوات التي إتّخذها أو ينوي إتخاذها المغرب لإيجاد الحلول المناسبة العاجلة والناجعة لمواجهة هذه المعضلة الإنسانية التي إتّخذت من المغرب جسراً وممرّاً،ومقرّاً، ومستقرّاً لها من مختلف الجهات،والوِجهات ،ماذا تمّ حتى الآن في هذا القبيل لمواجهة هذا الزّحف العرمرم نحو المغرب وإسبانيا وأضيفت له مؤخراً جزر الخالدات الشئ الذي أمسىَ ينذر بعواقب قد لا تُحمد عقباها في مختلف الواجهات الأمنية ،والإرهابية،والإجتماعية، والإنسانية، والصحّية وسواها ..؟ ومعروف أنّ الاجتماع الثنائي الرفيع المستوى بين البلديْن الذي كان سيعالج هذا الموضوع خلال الأيام الماضية قد أجّل لشهر فيراير 2021 على ما يبدو حتى تنقشع الغيوم الحالكة التي تجثم على عيون بعض المسؤولين الإسبان اليسارييّن الحديثيّ العهد بالسياسة الذين ( لم يستطيعوا) (!) فهمَ واستيعابَ عمق العلاقات المغربية الاسبانية وفي طليعتها قضية الصّحراء المغربية.

 

طرد وإبعاد المُوريسكييّن

العناد ربّما هو الذي جعل الاسبان يتماطلون،ويتمنّعون حتى الآن في تقديم إعتذار علني عن إشكالية طردهم، وإبعادهم “للموريسكيّين” الأندلسيّين “المُهَجَّرين”قهراً وقسراً عن ديارهم ومواطنهم، والذين إستقرّ معظمُهم في المغرب، وفي الجزائر وتونس (العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل سبق له أن قدّم إعتذاراًعلنيّاً لليهود ( السيفارديم) الذين أُبْعِدُوا من إسبانيا هم الآخرون،ولم يقم هو ولا خلفُه الحالي فليبي السادس بنفس البادرة حتى الآن مع الموريسكيين المسلمين). وقد ترأس مؤخّراً بالقصر الملكي بمدريد، حفلا أقيم ليهود” السفارديم”، الذين طردوا من إسبانيا مع رفقائهم الموريسكيين المسلمين ، وذلك بمناسبة بدء دخول القانون الإسباني الجديد الذي يسمح بمنحهم الجنسية الإسبانية حيز التنفيذ. وقال في كلمته أمام ممثلي الجاليات اليهودية، خلال هذا الحفل: “كتبنا صفحة من التاريخ بهذا القانون، الذي يسمح ليهود السفارديم بالحصول على الجنسية الإسبانية بشكل كامل، إنه شرف عظيم لي الإعلان عن ذلك باعتباري رئيساً للدولة؛ لقد اشتقنا إليكم”! وبهذه المناسبة نهنّئ المثقفين الإسبان الذين شاركوا في اللقاء الدّولي (عقب الموريسكيّين والسفارديم بين التشريع الإسباني والقانون الدّولي) الذي نظمته بالرباط  مؤخراً “مؤسّسة ذاكرة الأندلسييّن” ،حيث تعتبرهذه البادرة خطوة تاريخية في هذا القبيل لهؤلاء الموريسكيين الذين تعرّضوا لعمليات طرد جماعي، وإقصاء قسري، من وطنهم وأراضيهم بعد أن عاش أجدادهم فيها زهاء ثمانية قرون ، وما إنفكّ العديد من مثقفيكم ومثقفينا ومثقفي العالم الحرّ يثيرون هذا الموضوع  بلا هوادة. لعلّ الجارة الصديقة تخطو هذه الخُطوة الجريئة حيالهما . (agentrealestateschools.com)

الموروث التاريخي والثقافي 

الصّداقة القائمة بين البلدين ، والتعاون المثمر الذي يجمعهما يَعكسان مقدارَ الرّغبة التي تحدوهما لزيادة بلورة طموحهما،وتوسيع تعاونهما في شتىّ المجالات، وفي مخططات التعاون الثنائيّة، والمشاريع الإستثمارية،والإنمائيّة، والصناعية الكبرى المشتركة (أصبحت اسبانيا تحتلّ المرتبة الأولى في هذا القبيل في المغرب) . كلّ ذلك ينبغي أن يواكبه تبادلٌ ثقافيٌّ خِصب متنوّع ، وتعاون علمي مكثّف يزيدهما تعارفاً، وتقارباً ،وتفاهماً ،وتناغماً، وإشعاعاً، ،ويعمل على زيادة تمتين أواصرالصّداقة والمودّة،وتوفير الإحترام المتبادل بينهما. هذا على الرّغم ممّا يشوب علاقاتيهما بين الفينة والأخرى من أخذٍ وردّ، وطبخٍ ونفخ، وفتقٍ ورتق…! ممثّلة في أمور وقضايا ثنائية، ومطالب تاريخية مشروعة ما زالت عالقة تنتظر الحلول الناجعة لها على المدى القريب والمتوسّط وغير البعيد…وهي أمور لا تخفى على أحد، ويعرفها القاصي والدّاني على حدٍّ سواء! ولا غرو فالموروث التاريخي، والثقافي، والحضاري المشترك بين البلدين الجارين يشكّل ولا ريب أرضية صلبة، وحقلًا خصباً ممّا جعلهما ينفردان بخصوصّيات قلّما نجدها لدى سواهما من البلدان الأخرى ،الشئ الذي أفضي الى خلق نوعٍ من الإستمرارية والتواصل الدائمين في علاقات الطرفين منذ عدّة قرون إذ يرجع التبادل الدبلوماسي بينهما إلى القرن السّابع عشر حيث كان للمغرب قصب السّبق المطلق في ذلك بين دول الجوار، فكانت البعثات،والسّفارات، والرّحلات الدبلوماسيّة المغربية هي الأولى التي زارت إسبانيا إنطلاقا من بعثة إبن عبد الوهّاب الغسّاني سفير السّلطان المولى إسماعيل خلال حكم العاهل الاسباني كارلوس الثاني (1691-1690)، ومروراً بالسّفراء الزيّاني(1758) وأحمد المهدي الغزال (1766) وإبن عثمان المكناسي(1779) والكردودي (1885) إلخ،كلّ هذه الإتصالات المبكّرة شكّلت في العمق” دبلوماسية سياسية وثقافية” من الطراز الرّفيع، إذ أولت جميع هذه السفارات، والبعثات التي تلتها لهاذين الجانبين على وجه الخصوص أهميّة قصوى،وعناية فائقة .

المثقفون الأحكام الخاطئة

إنطلاقاً من هذا المفهوم،وتماشياً مع هذا السّياق ما فتئ المثقفون، في كلتا الضفّتين يؤكّدون على الدّور المحوري الهامّ الذي تلعبه الثقافة،أو بالأحرى ينبغي أن تضطلع به الثقافة في توثيق وتعميق العلاقات بين البلدين ، للتصدّي للأفكار الجاهزة، وكبح جماح الأحكام المسبّقة ، وتصحيح التصوّرات الخاطئة المنتشرة بينهما ، فقد أصبح الإهتمام فيهما يتنامى بالفعل بشكل فعّال ،. وينبغي على الطرفين التصدّي في هذا القبيل للمفاهيم المُعوجّة التي لا تقدّم صورتهما الحقيقية ، والتي تنتشر أساساً لدى الشرائح ذات الثقافة الضيّقة،وبالتالي فالوسيلة الوحيدة لمحو هذه التصوّرات المُزورَّة هي العمل سوياًّ على واجهات التربية والتعليم، والإعلام، والثقافة، والفنون في كل من المغرب وإسبانيا. إنه مجال يتطلب، منّا تعبئة مختلف وسائل الإعلام لنقل الصّورة الحقيقية عن كلا الجانبين، وتصقيلها، وتقديمها بالشكل الصّحيح غير المغلوط ،والحقّ أنّ المثقفين الإسبان والمغاربة لم يدّخروا وسعاً في بذل الجهود المتواصلة في العقود الأخيرة، والإضطلاع بدور طلائعي في تفعيل وتلميع الصورة الحقيقية  للبلديْن .

لغة سيرفانتيس وثقافتها

ينبغي البحث عن كثب عن الوسائل الناجعة، وعن الآليات العاجلة لزيادة إثراء الحوار الثقافي القائم بين الجانبين لإقرار أرضية صلبة للتفاهم بينهما في مختلف المجالات ذات الاهتمام المشترك التي تتناغم مع المعطيات والموروثات الثقافية المشتركة بينهما، وإقتناعهما بالتأثير الإيجابي المتبادل بين ضفّتيْ البلدين على إمتداد القرون، ممّا جعل منهما فضاءً ثقافياً خصباً، كان له تأثير بليغ على أوربّا، وشمال إفرقيا، ومختلف البلدان المجاورة ، كما جعلت “الأندلس” في عزّ أوجها منهما عالماً متلاحماً، ومتقارباً، ومتشابهاً في العديد من المظاهر الحضارية، والثقافية،والفكرية، واللغوية، والأدبية، وفي مختلف الأشكال الفنيّة، والتصاميم المعمارية ، وفنون الهندسية ،ومرافق الحياة الأخرى، هذه التأثيرات المشتركة طبعت المنطقتين الجغرافيتين إلى حدٍّ أصبحتا تشكلان عالماً قائماً ينفرد بخصوصيّات مميّزة فيما بينهما منذ عهود وعقود خلت.

يلاحظ في الوقت الرّاهن حضور متزايد للّغة الإسبانية في المغرب، هذه اللغة التي كادت أن تؤول إلى التلاشي، والإندحار في العقود الماضية أمام الزّحف والزّخم اللغويين الكبيرين للفرنسية والإنجليزية، إلاّ أنّ لغة وثقافة “سيرفانتيس” طفقتا تسترجعان مكانتيْهما السّابقتيْن، حيث بدأ يزداد الإهتمام بتعلّم هذه اللغة الجميلة التي تربطها صلة قرابة وثقى مع لغة الضاد واللغة الأمازيغية ، وبدأ التفاعل على أوسع نطاق مع الأنشطة والتظاهرات الثقافية والفنية التي تنظمها “المعاهد الثقافية الإسبانية” الموجودة في مختلف المدن المغربية ،والتي تحمل اسم (سيرفانتيس) (ويحظى المغرب بأكبر حضور لهذه المعاهد في العالم)، الشئ الذي يبشّر بتفاؤل كبير لمستقبل الثقافة الاسبانية في بلادنا ولا شكّ أنّ التبادل الثقافي بين الطرفين سيزداد متانة بين الأجيال الجديدة المقبلة في أفق بلورة فضاء تثاقفي مشترك على مختلف الواجهات.

هذه الاتصالات المبكّرة بين هاذين الفضائين المتجاورين خلقت نوعاً من الإستمرارية ، زادها العنصرُ الجغرافي متانةً وتدفّقاً، وقوّةً وتواصلاً ، فضلاً عن الجانب الحضاري والثقافي المميّز الذي يُعتبر عنصراً فريداً في بابه في تاريخ الأمم ،كلّ هذه الخصوصيّات طبعت علاقات الضفتين على إمتداد الحقب والعهود.التواصل والحوار القائمان بينهما لم ينقطعا قطّ عبر القرون لهما خير رصيدٍ، وضمان لبناء مستقبل حافل بالتطلعات الواعدة.

إنّ وضع التجافي والتباعد والتنابذ الذي كان يطبع العلاقات المغربية الأسبانية منذ أعقاد خلت ، يرجع في الأساس الي عوامل عدّة لا تخفى على أحد ،لقد آن الأوان لجيراننا أن يعرفوا ويتيقنوا أنّ زمنَ المقولة الشهيرة والمأثورة : ” السّاحل خالٍ من المغاربة” كناية على مثل دارج مشهورعندهم كثيراً ما تلوكه ألسنتهم يفيد بعدم وجود الخطرعلى سواحلهم قد ولّىّ، ومضى بدون رجعة، وأصبح مبدأ قبول الآخر، وإستيعاب التنوّع الثقافي والهويّاتي ، وتقبّل التعدّد العرقي والإْثنِي أمرا ًواقعاً في مختلف أصقاع المعمور.

ينبغي التحلّي بروح العصر، والنظرالى الأمور بواقعية براجماتية، وتبصّر وحكمة، فزمن الزّهو الإستعماري قد مضى وإنصرم بلا رجعة ، ينبغي عليهم قبول النزاعات ومعالجتها بجرأة، وموضوعية، هذه النزاعات التي فُرضتْ على الطرفين قهراً في زمن لم تكن مفاهيم السيادة والحرية والإنعتاق قد تبلورت، والنظرة الشوفينية الضيّقة لم تعد تجرّ على الجانبين سوى العناد،وجيراننا الإسبان مشهورون بالعناد، ولهم فيه اليد الطولى، والباع الممدود، وهو ما يطلق عليه سكّان الرّيف في لغتهم “تاغنّانت” ، فحتّى “هِتلر”شهد لهم بذلك، فقد أبى وإمتنع ذات مرّة في أن يلتقي من جديد ب “الجنرال فرانكو”بعد لقائه الأوّل به خلال الحرب العالمية الثانية، حيث قال عنه قولته الشّهيرة في هذا القبيل :”أفضّل أن يُنزَع لي ضِرس بدون بنج على أن ألتقي ثانية بهذا الرّجل“!

 

التعدّد الثقافي في البلدين

الحديث عن التعدّد الثقافي بين المغرب وإسبانيا يحلو و يطول، والتاريخ لا يُقرأ في هنيهة، إنّ الزّائرالإسباني الذي يأتي لبلدنا أو الزائر المغربي الذي يزور إسبانيا يلمسان العمران المتشابه بينهما حيّا نابضا قائما في كل مظهر من مظاهر الحياة في البلدين، دراسةُ هذا التاريخ، وإستخراج العناصر الصالحة منه أمر لا مندوحة لنا عنه،وهو أمر ينبغي ان يولى أهميّة قصوى ،وعناية فائقة من طرف المثقفين،والكتّاب،والمفكرين، والمسؤولين، ومن لدن مختلف الجهات العلمية والتاريخيىة والتعليمية للتعريف بهذه الذخائر، في الجانبين، ونشر الوعي وتأصيله بشأنها لدى أبناء جلدتهما ليكون المستقبل الذي يتوقان إليه مستقبلَ رقيّ ،وإشراقٍ، وتلاقٍ بين ماضٍ عريق، وحاضرٍ واعد ، ولعمري إنّ لفي ذلك تجسيداً وتجسيماً للعهود التي عاشها أجدادنا في شبه الجزيرة الإيبيرية على إمتداد العصور.

  دور المثقّفين المغاربة والاسبان

ما فتئ المثقفون في كلتا الضفتين يؤكّدون على الدّور المحوري الهامّ الذي تلعبه الثقافة على وجه الخصوص في توثيق وتعميق العلاقات بين الشعبين الإسباني والمغربي، فقد إضطلع المثقفون في العقود الأخيرة بدور طلائعي في تطوير وتقوية العلاقات الثنائية بينهما، ففي عام 1980 تمّ تأسيس “مجموعة المثقفين الإسبان والمغاربة” التي ضمّت صفوةً من الكتّاب، والأدباء، والمفكّرين المغاربة والإسبان ضمّت 40 مثقفاً من المغرب ، و46 مثقفاً من إسبانيا الذين طالبوا بضرورة تحريك وتفعيل العلاقات الإسبانية المغربية على مختلف المستويات ، وإعطائها نفساً جديداً ، وإذكاء روح التعاون والتفاهم والحوارالدائم بينهما. وقد أفضت هذه البادرة المبكّرة إلى تنظيم عدّة ندوات، وطاولات مستديرة حول مختلف أوجه التعاون الثقافي ، ونشرا بياناً طالبوا فيه بضرورة تفعيل وتحريك الجانب الثقافي بينهم، كما أسّست بعد ذلك” لجنة إبن رشد” عام 1997 والتي تضمّ هي الاخرى نخبة من كبار المثقفين والأدباء والشخصيات السياسية والإعلامية في الجانبين، والتي سلّطت الاضواء على العديد من المواضيع والقضايا الحيوية التي تحظى باهتمام الطرفين فضلا عن تأسيس العديد من الجمعيات الإسبانية العربية ذات الصّبغة الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والعلمية والفنية التي أصبح عددها يتنامى يوماً بعد يوم، وفي مقدّمة هذه الجمعيات ” جمعية الصّحافيين، المغاربة الناطقين باللغة الإسبانية” التي تضمّ نخبة من المثقفين الذين لهم باع طويل، ودراية واسعة بلغة سيرفانتيس وآدابها وثقافتها. وفي نفس الإتجاه تمّ تأسيس ” منتدى الحوار المغربي الإسباني” و“مركز الدّراسات الأندلسية والحوار بين الثقافات”، وتنشيط النادي الاقتصادي للمقاولين من خلال المجلس الاقتصادي المغرب- اسبانيا، وسواها من المبادرات التي كانت تهدف برمّتها إلى خدمة المصالح المشتركة للبلدين  .

روافد متعدّدة وهوية مُشتركة

تاريخنا المشترك وتراثنا العريق مستوحيان من ينابيع متعددة ، وروافد وافدة متداخلة ، وإن إختلفت مصادرها، ،وتباينت لغاتها وألسنتها بين عربية إسلامية،وأمازيغية بربربة، وإسبانية إيبيريّة، وما فتئت العديد من الكتّاب، والفلاسفة، والعلماء، والشعراء، الذين أقاموا واستقرّوا، أو ولدوا وترعرعوا، في هذه الرّبوع القصيّة في الضفّتين، إلى جانب المعالم التاريخية، والمآثر العمرانية، والقلاع الحصينة، والدّور،والقصور، والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق الغنّاء التي تبهر الناظرين ، فضلا عن العادات والتقاليد الحميدة التي تأصّلت في أعراف هذه الشعوب في مختلف مناحي الحياة، كلّ ذلك ما زال شاهداً إلى اليوم على مدى الأوج الذي أدركه الإشعاع الحضاري في هذه الأصقاع. فهذا الغيث الفيّاض الغامر والمتنوّع ظهر وترعرع وإزدهر ووقف مشرئبّاً إعتماداً على نبعه الأصيل، وتاريخه د، وتراثه ، وموروثاته الحضارية والإنسانية ذات الّرّوافد الثقافية المشتركة بين بالبلديْن، وإنّ لفي ذلك تجسيداً، وتجسيماً للعهود الزّاهرة التي عاشها أجدادنا جنباً إلى جنب على إمتداد العصور.

***

 * كاتب من المغرب ،عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.

**انظر كتابالتاريخ السرّي للحرب الكيماوية ضد منطقة الريف واجبالةللدكتور مصطفى المرون.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *