نِيكَانُور بَارَّا في ذّكرىَ رحيله… رائد التمرّد المُضَادّ في الشِّعر الأمريكيّ اللاّتينيّ المعاصر

Views: 36

د. محمّد محمّد خطّابي*

 

في 23 من شهر يناير الفارط 2021 حلّت الذكرى الثالثة لرحيل شاعر تشيلي الكبير نيكانور بارّا  (المولود فى5 سبتمبر 1914 والمتوفّى في 23 يناير 2018 بتشيلي) الذي يُعتبر من أكبر شعراء تشيلي في العصر الحديث، وهو يقف في مصافّ كبار الكتاب والمبدعين في هذا البلد الأمريكي اللاّتيني إلى جانب الشّاعرة غابرييلا ميسترال ــ أولَ امرأة والوحيدة حتى الآن الفائزة بجائزة نوبل في الآداب في أمريكا اللاتينية عام 1945 ــ وبابلو نيرودا، وبيثينتي ويدوبرُو، وغونثالو رُوخاس، وإيسابيل أيِّيندي، وخورخي إدواردز، وسواهم.

يتميّز شعرُ” بارّا” بسخرية مُرّة لاذعة، وبنظرة نقدية ثاقبة للمجتمع والحياة. ولقد أثارت الأعمال الإبداعية لهذا الشاعر كثيراً من الجدل حول نوعية الشعر الذي يكتبه، الذي لا يخضع للأشكال الشعرية التقليدية المعروفة، بل أولى ظهرَه للأنماط الأسلوبية المتّبعة المتعارف عليها في الشّعر الإسبانيّ التقليديّ، ومع ذلك أمكنه تحقيق شهرة واسعة في هذا المنحىَ، وأسهم بقسطٍ وافر في إثراء وإغناء اللغة الشعرية في إسبانيا وفى مختلف بلدان أمريكا اللاتينية. 

 

مُناهضة الشّعرالتقليدي المُنمّق

يقول بارّا: “إنني عندما أرى هؤلاء الشعراء المعروفين بالبلاغة، والموسُومين بالتحذلق، والشّغوفين بالبيان والبلاغة والتنميق اللفظي يُخيّل لي وكأنّهم جميعاً متشابهون، وبالتالي هم يعدّون أو يبدون لي بذلك وكأنّهم شاعر واحد”. ويطالب بارّا إيلاء العناية بالشعراء الشباب المنسيّين أو المُهمّشين، الذين لا يقطنون الحواضر أو المدن الكبرى، وهو يقصد هؤلاء الشّعراء الذين يُسمّوْن في لغة الهنود من سكان تشيلي الأصليين “شيّان”. ويقول في السيّاق نفسه: “إنه كان وما يزال مُسلحاً من قمّة رأسه إلى أخمص قدميْه لمناهضة ومواجهة ما يُسمّى بالشعر المنمّق، أو ما يطلق عليه بـ” اللغة الشّعرية الخالصة”، وهو مقابل هذه اللغة يُوثر أو يميل إلى استعمال اللغة البسيطة العفوية والكلام اليوميّ المتواتر المتداوَل بين الناس، إذ يهمّه في المقام الأول ما يدور بين هؤلاء العامّة من حوار، وما تخالجهم من هموم، وما تملأهم من آمال، وما تحدوهم من رغبات وتطلّعات، وكأنّه يُومئ بذلك إلى البيت الشهير لشاعرنا العربي أبي عبادة البحتري عندما يقول: الشعر لمحٌ تكفي إشارتُه / وليس بالهذر طُوِلتْ خُطبُهْ !

شاعر الأرباض المُهمّشة

يحبّ الشاعر بارّا أن يُسمّي نفسَه شاعر الضواحي النائية المُهمّشة، والأرباض الفقيرة المنسيّة، والأحياء الخلفية المُعتمة للمدن والحواضر، وكان صديقه الرّاحل شاعر تشيلي كذلك غونسالو رُوخاس قد عبّر ذات يوم عن إعجابه بنيكانور بارّا وبشعره، وقال عنه : “إنه يُعتبر من أكبر شعراء أمريكا اللاتينية، ويتميّز شعره بشكل خاص بالعنصر اللغويّ الشفويّ الدارج، وهو يقف بذلك مناهضاً، ومعاكساً، ومُضادّاً للشّعر التقليدي، الذي كان يراه مُوغلا في الرّموز المُعقّدة، والزّينة، والتطرية اللغوية، وغارقاً في الشحوب والغموض، وهو ما يُسمى بالشعر التقليدي، أو الشعر الأسود أو الميتافيزيقي”. (والغرابة أنّ كلمة “الرّبض” (Arrabal ) بوضع اللاّم في آخرها المُستعملة اليوم في شيلي، والأرجنتين وفي باقي بلدان أمريكا اللاّتينية الأخرى هي  الكلمة المعروفة بنفس المعنى والنّطق في اللغة العربية، إذ تنحدر هذه الكلمة من لغة الضّاد كما هو واضح) .

 

أصوات مُبتكرة ومُتجدّدة

يرى بعض النقاد أنّ غيرَ قليلٍ من الشّعراء الشّباب يأخذون العبرة من هذا الشاعر، الذي لا يتورّع عن الاختلاط بالطبقات الكادحة، ومرافقة الشرائح الدنيا في المجتمع. ويدافع نيكانور بارّا عن هذا الاتجاه في قرض الشعر فيقول: “إننا في الشّعر الجديد المتحرّر المناهض للشّعر التقليدي تُسمع لنا أصوات مُتعددة مُبتكرة ومُتجدّدة ومُتنوّعة، وليس صوتاً واحداً متكرّراً رتيباً، بمعنى أنّ الشاعر فينا أو منّا يغدو كاتباً درامياً، وكاتباً مسرحياً وليس شاعراً وحسب، كما أنه بهذا المعنى هو ليس شاعراً واعظاً، ولا مُبشّراً ناصحاً، أو هادياً مُرشداً”. ويعلق الشاعر الإسباني “خورخي رودريغيس بادرون” مازحاً على هذا الكلام فيقول:” إنه من مفارقات الحياة أن يحظى الشاعر نيكانور بارّا بهذه العناية الفائقة وهو الشاعر المناهض والمعاكس للشعر التقليدي الكلاسيكي، ويخشى الكاتب الإسباني أن يتحوّل بارّا بهذا الإطراء والثناء رويداً رويداً إلى شاعر كلاسيكي بالفعل، فقد كان يسبح دائماً ضدّ التيّار، إنه يتطلع إلينا من وراء السنين البعيدة التي أثقلت ظهرَه بمُحياه المدبوغ وكأنه مُلاكم قديم مُحترف. إن بعده عن الصرامة والجدية يدنيه من روح السّخرية اللاذعة، والتهكّم الصّارخ حيث يتميّز شعرُه السلس، وطبعه المرح في آنٍ بهاتيْن الخاصيتيْن”، ويُذكّر الكاتب الإسباني: أن شعر ما بعد الحداثة يسير عكس كلّ ما هو سامٍ وراقٍ ورفيعٍ وعاجي بحثاً عن مَواطن الهزْل، وبؤر التهكّم والإزدراء، وهكذا فلا شموخ الغناء الشّعري الفريد عند صديقه وبلديّه الشّاعر الكبير بابلو نيرودا، ولا مهارة ولا حذاقة خليله فيثينتي ويدوبرو، أمكنهما التأثير عليه وتغيير مساره واتجاهه الشّعري، بل ظلّ مُوثِراً، ومُفضلاً ومُخلصاً، وميّالاً للتعبير التلقائي، والنظم الفطري والعفوي البسيط للحياة الذي ربّما يكون قد استوحىَ بعضَ جوانبه وخصائصه  من الشعر الإنكليزي الحديث .

ويشيرالناقد الاسباني”غريغوريُو سالفادور” من جهته :” أنّ ” نيكانوربارّا” كان يمثّل حتى وقت قريب  إتجاهاً شعرياً متمرّداً ومتجدّداً حيال الأشكال والأنماط الشعرية التقليدية الكلاسيكية المتوارثة الأخرى”. كما قال الشاعرالاسباني الكبيرالرّاحل “خوسّيه يِيرُّو” عن صديقه “بارّا” : “إنه مُعجب  بالالتزام الشّعري الصّارم عند “بارّا” ، إلاّ أنّ  أسلوبه المناهض للشّعر التقليدي لا يروقه  في شئ ، “وأضاف  قائلاً : إذ أن نقرض شعراً لا يُشبهُ الشّعرَ لهو أمر لا أستسيغه ولا أفهمه ” .

 

بارّا ولغة الضّاد

وقد نقل المترجم أحمد حسان منتقيات من شعر نيكانور بارّا إلى اللغة العربية نُشرت تحت عنوان : “كأنما لا شيء يحدث في تشيلي” الصّادرة عام 2013 عن سلسلة آفاق عالمية (الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية).أدرج المترجم في هذا الكتاب مختارات من قصائد متفرقة مبثوثة في مختلف دواوين الشاعر تعود لمراحل متباعدة ومتعدّدة من حياته، وتعكس تجاربه الإبداعية في هذا الصّنف من الإبداع الشّعري، الذي عُرف به واشتهر بنظمه منذ الخمسينيّات من القرن المنصرم، أيّ منذ أن نشر كتابه الأوّل في هذا الاتجاه عام (1954) وهو “قصائد وقصائد مُضادة”. ويشير المترجم في هذا القبيل إلى ما معناه أنّ قصائد نيكانور بارّا تسعى إلى كبح جماح، وكفّ وظيفة (الأنا البطولية عن الاشتغال). ويرى الكاتب عمر شكري من جهته أن الغاية من ذلك هي أنّ” تحل محلها ذات حديثة، متهكمة، أيّ قصائد تتأمل وتستقصي وتتقلب بين أشكال شعرية وغير شعرية، ضاربة القيمَ الجمالية ،والبلاغية،والانفعالية عرضَ الحائط، أما لغة الشّعر المضاد، فتتوسّل الاقتراب من لغة المَعيش، مستخدمة مفردات من شتّى الحقول العلمية، والصناعية ،والتجارية، والدينية والسياسية، تتضافر جميعها لتنتج لنا في آخر المطاف قصائدَ أشبه ما تكون بمقاطع من الكوميديا السّوداء”، وحسب المترجم حسّان فإن قصائد بارّا تغدو في هذا الاتجاه “بمثابة المرآة المُقعّرة التي تُجبر الإنسانَ أن يرى نفسَه فيها بكل حماقاته”.

جوائز وأعمال

عندما فاز “نيكانور بارّا” بجائزة خوان رُولفو العالمية المرموقة والرّفيعة فى القصّة القصيرة التي تُعتبر من أهمّ الجوائز الأدبية فى العالم  ، علّق ساخراً : “إنه بفضل هذه الجائزة أصبح أكثرَ شهرةً من ذي قبل “،وأشار ” قائلاً ” : إنّ ناشراً كان قد رفض تسليمه ألف دولار كمبلغ مقدّم قبل حصوله على هذه الجائزة، ولقد عرض عليه فى اليوم التالي لفوزه بها مبلغ 15000 دولار دفعةً واحدة ،وانهالت عليه الاستجوابات الأدبية من مختلف أنحاء العالم حتى كان عليه أن يختفي من الخريطة” ،ويختم ” بارّا ” قائلاً  بسخريته المعهودة : ” إنها مفارقات الحياة ..!”. 

الشاعر بارّا سبق أن حصل كذلك على الجائزة الوطنية في الأدب التشيلي، وعلى الجائزة الشعرية سانتياغو دي شيلي، وعلى الجائزة الدولية لكتاب أمريكا اللاتينية، وجائزة سيرفانتيس التي تُعتبر بمثابة نوبل في الآداب الناطقة باللغة الإسبانية، بالإضافة إلى حصوله على العديد من الجوائز الشعرية والأدبية المهمة الأخرى داخل بلاده تشيلي وخارجها. من أعماله: “رقصة الكويكا الطويلة”، “أشعار الصّالون”، “قميص المجانين”،”أعمال فنية”، “خطب ومواعظ مسيح إلكي”، “خطب ومواعظ مسيح إلكي الجديدة”، “أغنيات روسية” “طرائف بارّا لتضليل الشرطة”، “قصائد غير منشورة”. “أغاني بدون عنوان”، “قصائد وقصائد مُضادّة”، “العقبة الكأداء”، “قميص القوّة “، “أوراق بارّا”. علماً  أنّ كلمة (بارّا) تعني في الإسبانية الكرْمة أو الدالية أو العريش. (firework.com)

 

 انبعاث

و نقدّم فيما يلي نموذجاً من شعر بارّا وهي قصيدته (إنبعاث) **يقول فيها  :

ذاتَ مرّةٍ، في حديقةٍ من حدائق نيويورك

أقبلتْ نحوي حمامةٌ

لتموتَ تحت قدمي

احتُضِرِتْ بضعَ ثوانٍ، ثمّ ماتت

إلاّ أنّ الذي حيّرني

وهو أمرٌ لا يُصدّق

أنّها عادت للإنبعاث فوراً

دون أن تمنحني وقتاً للقيام بأيِّ شيء

ثمّ انطلقت طائرةً

كما لو أنّها لم تمت قطّ

من بعيد رنّت، أجراسُ نواقيس

ومكثتُ أنا، أحدِّقُ النظرَ فيها مشدوهاً

وهي تحلّق في اتجاهاتٍ مُتعرّجة

بين مُجسّماتِ المَرمَر

والبنايات الشّامخات

مرّت بخَلدي أشياءُ كثيرة

كان يوماً من أيّام الخريف

ولكنّه بدا لي يوماً ربيعياً رائعًا

مع ذلك قرقرت أحشائي بصَخَب   

فعَمدتُ إلى بَصْق هذه القصيدة .!.

*****

*كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الاسبانية الامريكية للآداب والعلوم – بوغوطا – كولومبيا.

** هذه القصيدة من ترجمة صاحب المقال عن لغتها الأصلية الإسبانية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *