“الزمن الجميل مع السيد محمد حسين فضل الله”

Views: 793

زياد كاج

 

 يعيدنا السيد شفيق محمد الموسوي في كتابه الصادر حديثاً بعنوان “الزمن الجميل مع السيد محمد حسين فضل الله (1)” عن المركز الاسلامي الثقافي في بيروت (طبعة 1، 2021، 128 صفحة) الى أجواء لقاءات روحية وإنسانية ورسالية سجّلها على مدى سنوات مع شخصيات عاصرت وواكبت حركة السيد-المرجع في لبنان وخارجه؛ كاشفاً معلومات وتفاصيل تنشر للمرة الأولى بقلم مدير المركز الذي يعدنا في المقدمة بصدور سلسلة من الحلقات المثيلة عن مؤسس “جمعية المبرات الخيرية”.

   يسرد السيد الموسوي كيف كان شاباً يتابع دروسًا ولقاءات السيد فضل الله في أوائل السبعينات في برج البراجنة في منزل شقيقة الحاج طارق خليل، وفي حسينية الشياح، وفي حسينية آل الخنسا في الغبيري، وحي السلم “على سطح منزل المرحوم الحاج أبي حسين غسّاني”. كان الحضور من كل الأعمار: شباب ، شيوخ وفتيان. وكان السيد منذ بداية نشاطه الدعوي يتعامل مع الجميع بأبوّة وانفتاح بعيداً عن “وهرة” المرجع، فيقول:” أنا لا أفكر عنكم، بل فكروا معي”.

   سنة 1984 أقيم احتفال لأربعة شهداء من المقاومة الاسلامية في حسينية المبنى البلدي في برج البراجنة ( ص 12) ، فتأخر السيد فضل الله. حصل ارتباك، فأخذ السيد حسن نصر الله المبادرة وبدأ بإلقاء كلمته. مع وصول السيد فضل الله، قال السيد نصر الله: “وأترك المنبر للمرشد والأستاذ والمربّي، على قاعدة بطلان التيمم عند وجود الماء الطاهر”… بداية رفض السيد فضل الله، لكن السيد نصر الله رفض وترك المنبر.

   في كتاب ” الزمن الجميل..” يكشف السيد الموسوي الكثير من المواقف الاستثنائية والمبدئية التي ميزت المرجع الاسلامي اللبناني الكبير، أبن جبل عامل ورائد من رواد حركة اصلاح التراث الاسلامي، والذي كان ولا يزال يحتل مكانة خاصة في قلوب وعقول معظم اللبنانيين. صاحب الارادة الايمانية التي  لا تنكسر. ففي السبعينيات، تعرض السيد فضل الله لحادث سير وهو عائد من الجنوب الى النبعة. أصيب بكسور في يده وقدمه وكانت الدماء تسيل من احدى عينيه. فطلب وهو على النقالة في مستشفى المقاصد من الشيخ أحمد كوراني التوجه الى المسجد في النبعة كي لا يتأخر عن صلاة الجماعة في شهر رمضان المبارك. وفي حرب تموز 2006، والطائرات الاسرائيلية تحلق في الأجواء بكثافة، اعتلى السيد منبر مسجد الامامين الحسنين في حارة حريك وامتلأ المسجد بالمصلين …” ولا أثر للقلق على وجه السيد”.

 

   عُرف السيد فضل الله بتسامحه حتى ممن أساؤوا اليه بالتحريض  بالغيبة والتجريح.. فكان يقول لهم: “أنتم من  أولادي..حتى لو أسأتم فليسامحكم الله..” ولطالما كان يجيب بالعامية لكل من كان يحضر للاعتذار منه وطلب السماح: “أنا مسامح اللي اغتابني واللي عم يغتابني واللي بدو يغتابني.. ولن أكون حجر  عثرة في طريق مؤمن الى الجنة”.

 ويشدد المؤلف على عظمة أخلاق وتواضع السيد فضل الله بنقل شهادة أحد حراس منزله بعد تعرضه مراراً في منطقة الغبيري للقصف الشديد من قوى الظلام ( ص 25 ).. “في الصباح  كان يدخل علينا حاملاً صينية الطعام والتي نسميها باللبناني (الترويقة) ويخاطبنا بلطف وحنو وأبوة قائلاً: الترويقة خير من النوم”…

   يذكّرنا السيد الموسوي أن السيد فضل الله تعرض للكثير من الانتقادات والإساءات، خاصة خلال المعارك التي اندلعت بين أمل- وحزب الله في الثمانينات وأنه اتُهم ظلماً بأنه كان وراء “فتاوى” لقتال ميليشيا أمل. حتى أن بلال شرارة الذي رسم السيد على طريقة راسبوتين أو مصاص دماء وقيل إنه هو الذي كتب عنه أنه مهدي هاشمي لبنان، حضر لاحقاً مع وفد مصالحة للاعتذار من السيد بطلب من الرئيس نبيه بري، فسامحه السيد فضل الله بعد عتاب وأجهش شرارة بالبكاء ندماً. كان السيد فضل الله يقول لشقيقه  السيد محمد علي ( ص 39): ” الدنيا يا أخي هواء في شبك…. مشكلتنا يا أخي أنّ أبانا ( المرحوم السيد عبد الرؤوف فضل الله) ربّانا تربية أخلاقية… وقال بالعامي: “نحنا ما منعرف نقاتل.. أنا فاشل بالمقاتلة”.

لغة الحب في قاموسه هي لغة الحياة، فالحقد موت والمحبة حياة.  فكان  هم السيد كلّه، ليس شخص السيد، كان همه الاسلام وتثبيت سيرة وأخلاق سيرة وأسم أهل بيت النبوة في الذاكرة الشعبية. وتغيير الواقع الفاسد وتحسين واقع المستضعفين. وهو من القلائل  من العلماء المسلمين الشيعة الذين شككوا بحادثة كسر ضلع السيدة فاطمة، بنت الرسول، وأنكر الولاية الكونية، ورفض وحرم مبدأ لعن وسب الصحابة.

   “ما ضعُف بدن عما قويت عليه النيّة” كان شعار السيد الذي لم يكن يعرف الراحة، ويضيف “ما زال في العمر بقيّة”. لذلك عندما سُئل عن الموت إن كان يخاف منه ؟ ( ص95) ، قال : ” أبداً! أنا أُقدم على رب كريم.. ولكن ما يحزنني أنّي سأغادر الدنيا وهناك مشاريع وأعمال ومهمات قد لا أستطيع إنجازها…”

   تميز السيد فضل الله بإباء النفس، وعلو الهمة، ورفعة روح العزّة والكرامة… فلم يضعف أمام الكثير من المغريات المادية. يشدد السيد الموسوي في كتابه أن السيد فضل الله كان يرفض التمويل من الدول، حتى إيران، وكان شعاره:” كٌن عبداً لله وحراً أمام العالم كله”.

ويذكر الكاتب حادثة حصلت مع السيد ولو تلميحاً ( ص 71) عندما كان في موسم الحج وأُرسل له مبلغ ضخم غير مشروط  لتمويل مشاريعه فرفضه. ( في مقابلة تلفزيونية يكشف المرحوم الصحافي مصطفى ناصر أنه هو من نقل المبلغ للسيد فكان جوابه: المال واصحابو. حصل ذلك بعد فترة من متفجرة بئر العبد سنة 1985 التي استهدفته شخصياً وراح ضحيتها المئات؛ وكانت بتخطيط أميركي وتمويل سعودي وتنسيق مع جوني عبدو أيام حكم الرئيس أمين الجميل).

   في فصل بعنوان: ” طيبوا خاطر إم جوزيف” يسرد السيد الموسوي حادثة وقعت بين سيدة مسيحية وأحد حراس منزله. فالكثير من العوائل المسيحية بقيت تجاور السيد وهو كان يؤمن لهم الحماية والرعاية وهم بدورهم كانوا يزورونه باستمرار. كان السيد يحب الدخول الى حديقة أبي إيلي المزروعة بشتى أنواع الأشجار المثمرة.

وحدث مرة أن حضرت أم جوزيف ومعها صحن من التبولة لتقدمه الى الحارس الواقف أمام البوابة الرئيسية لمنزل السيد. نسيت السيدة أن الأيام كانت أيام صيام.”أنا صائم” قال لها الحارس دون أن يشعرها بالامتنان، فقالت له:” شو أنا نجسة ؟!”

علم السيد فاستدعى الأخ وشرح له خطأ ما فعل: “كان يجب عليك أن تأخذ منها الصحن، وعند الإفطار تناوله مع إفطارك..”

   تحت عنوان : “روجيه غارودي: أعتز بالشيخ فضل الله”  يذكر الكاتب لقاء جرى بين الوزير السابق محسن دلول والباحث والمفكر الاسلامي روجيه غارودي  قبل وفاته عبر فيه الأخير عن إعجابه بالسيد الذي قرأ له الكثير من المؤلفات المترجمة.

   كان السيد ضد ظاهرة الخطف خلال الحرب وكان ينتقد بشدة خطف اللبنانيين لبعضهم البعض، ومرة قال في إحدى خطبه، عن خطف المسلمين للمسيحيين وخطف المسيحيين للمسلمين : ” لقد تساوينا بالتخلف ( ص 116). وهنا أعود الى كتاب نشره الكاتب يوسف سلامة بعنوان “حدثني ي. س” صدر عن دار نلسن التي أسسها، يذكر في أحد فصوله كيف تعرض للخطف في رأس بيروت مع الدكتور منير شماعة وكيف لعب السيد فضل الله دوراً كبيراً لإطلاق سراحهما بالتنسيق مع النائب منير أبو فاضل.

   حرص السيد شفيق الموسوي في كتابه على ختم كل فصل بعبارة : “ويبقى السيد في العقل والقلب والوجدان..” ؛ وهذا ما حققه في كتابه الجميل والأنيق “من الزمن الجميل مع السيد فضل الله” وسيحقق المزيد في حلقات لاحقة. السيد محمد حسين فضل الله، علامة ومرجع من بلادي، قاهر الحواجز الطائفية والمذهبية والمناطقية، عنوان التسامح والحب والعطاء والاصلاح، منارة إيمانية خيرية  لا يزال نورها يشع في البلد والمنطقة والعالم.

   ترى لو كان بيننا اليوم، ماذا كان سيقول السيد محمد حسين فضل الله  في زمن الفساد والإفلاس المالي والاهتراء السياسي والفتن المذهبية تنخر أرض وعقول شعوب البلد  والمنطقة؟

بعض الأجابات في هذا الكتاب وما سيليه.

 

                  

 

  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *