الحداثة الشعرية عبر السياب وصايغ وأدونيس

Views: 925

وفيق غريزي

“ليست ازمة الشعر العربي الحديث ازمة وهمية او مفتعلة، بل هي ازمة حقيقية، هي جزء من الازمة العامة التي تجتاح الفكر العربي في هذا الزمن. وليس صحيحا ان اجناسا ادبية اخرى كالقصة والرواية والمسرحية لا تواجه ازمة مماثلة، فهي ايضا تعاني من الازمة العامة نفسها، الا ان ازمتها قد تكون اقل حدة من ازمة الشعر، لان هذه الاجناس العربية الاخرى اجناس جديدة نسبيا في الادب العربي، لا يعرقل نموها تاريخ طويل وتراث راسخ كتاريخ الشعر العربي وتراثه”. ولعل الشعر العربي الحديث اكثر وجوه الحياة العربية الحديثة اشراقا، اذ استطاع ان يرتفع الى مستويات حاجات العصر من توليف بين القديم والجديد واستشراف لافاق المستقبل، تحقيقا لاحداث في الشعر ودعوة لحداثة في جميع وجوه الحياة العربية.

الناقد الدكتور عيسى بلاطة، الذي يعتبر احد اعمدة النقد الادبي العربي البارزين، تناول موضوع الحداثة عبر شعراء روّاد وهم: العراقي بدر شاكر السياب، الفلسطيني توفيق صايغ والسوري ادونيس. في كتابه “صخر وحفنة من تراب”. حيث يؤكد فيه ان الحداثة ليست مصطلحا فارغا، لا في الشعر العربي ولا في الحياة العربية عامة، انها حقيقة هذا التغير الذي ترتجيه الامة العربية في جميع اقطارها، ولا ينالها منه الا هذه القشور التي يسمح بها من وقت الى آخر، اذا ابقت على لباب الامور والوضع الراهن.

ان الحداثة هي التغير الجذري الذي تبتغيه الامة العربية في جميع مناحي حياتها، اما الحداثة الشعرية، يقول الناقد الكتور بلاطة: “فهي التعبير عن الحياة الجديدة الطليقة واستشراف آفاقها، هي الغوص في الواقع العربي للوصول الى معرفة حقيقية بلا مواربة ثم استنهاضه لمعانقة القيم الجديدة.

 

حياة السياب العاطفية

يتناول بلاطة قصيدة بدر شاكر السياب “احبيني” كمنطلق لمسيرة حياة هذا الشاعر العاطفية، الوجدانية، ويرى أن السياب يقول في هذه القصيدة إنه احب سبعا من الفتيات، وكان حبه لكل واحدة منهن يجعله يغوص في بحر الوجد، فيلتقط المحار آملا ان يجد فيه الدر، وبعد ان تدمى يداه وتنزع اظفاره في فتح المحار لا يجد فيه غي الطين، فتقطر البسمة على ثغره دموعا تنبثق من قرار قلبه “.

ان قلب السياب تفتّح للحب لاول مرة وهو طالب في ثانوية البصرة للبنين، عندما نشأت بينه وبين فتاة من قريته جيكور علاقة حب بريء، وهي الفتاة التي نظم فيها اولى قصائده الغزلية، وقد اشار الى هذه الفتاة باسم “الراعية”، لأنها كانت ترعى قطيع اهلها في جيكور، حيث كان يخلو بها، لكنه دعاها باسمها مرة في احدى قصائده اللاحقة فاذا اسمها “هالة”، التي تزوجت من غيره فقال: “… آه فتلك باعتني بمأفون لأجل المال ثم صحا فطلقها و خلاها “. وفي احد الايام بينما كان بدر شاكر السياب يسير في احد اروقة دار المعلمين ربتت على كتفه يد انثوية، فالتفت واذا بوجه صبوح تزينه غمازتان تبتسمان له وتدعوانه للتغزل بصاحبتهما، ولم يكد يصدق ما يرى، اذ كيف يمكن لهذه الحسناء المدللة ان تهتم بغزله؟ لكنها تؤكد هي على ذلك، وتطلب منه ان يسمعها كل ما ينظم فيها، فيكثر غزله بها وتكثر الامسيات التي يلقي فيها بانفعال قصائد الحب على اقرانه من الطلبة. لكن هذه الفتاة تركت دار المعلمين وتزوجت من احد اثرياء العراق، فكانت صدمة قاسية على السياب فقال: “عيون الفل و اللبلاب عافتني إلى قصر وسيارة/إلى زوج تغير منه حال فهو في الحارة/فقير يقرأ الصحف القديمة عند باب الدار في استحياء/يحدثها عن الأمس الذي و لى فيأكل قلبها الضجر”. يقول الناقد بلاطة: “لا يمضي طويل وقت حتى يتعرف السياب على فتاة سمراء فيحبها وينظم فيها اشعارّا جميلة، ولكن الدروب تفرقت بين الحبيبين، فتزوجت الحبيبة من مهندس. وفي العام ١٩٥٥ يقرر الشاعر بدر شاكر السياب الزواج من احدى قريباته وهي اقبال طه عبد الجليل: “احبيني لان كل من احببت قبلك لم يحبوني”.

 

حوار توفيق صايغ

ومن بدر شاكر السياب ينتقل الناقد عيسى بلاطة الى الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ وقصيدته “الكركدن”، ويشير بلاطه في دراسته الى ان توفيق صايغ قد ركز في جميع اعماله الشعرية على ثلاثة جوانب رئيسية في وعيه الشعري يوحدها موضوع واحد، تلك الجوانب هي: الوطن والحبيبة والخالق. وذلك الموضوع الواحد هو الحب. الا انه لحظة ما يصل صايغ الى ذروة الاحساس وقمة الوعي واسمى درجات رقة الشعور تتداخل الجوانب الثلاثة معا، وقد تفهم القصيدة عندها على مستويين او حتى ثلاثة مستويات من المعنى بالقدر نفسه. ويصير موضوع الحب الذي يعم شعر توفيق صايغ عميقا لدرجة يتحول معها من عاطفة متأججة الى كراهية ظاهرية. ويقول بلاطة: “وفي خضم هذا الحب الشديد يظهر الوطن وكأنه موضع كراهية بسبب تأخره مقابل ماضيه المجيد، كما يظهر وكأنه موضع انتقاد وتأنيب بسبب خضوعه للزعامة المستبدة وتعهيره للمثل السامية”، لذلك قد يكون من الأنسب القول ان الموضوع الرئيسي الذي يدور حوله شعر صايغ هو الاغتراب، الاغتراب تجاه الوطن والاغتراب تجاه الحبيبة والاغتراب تجاه الله. وفي اعتقاد الناقد بلاطة، فان شعر صايغ لم يكن بشأن الوطن شعرا حماسيا انفعاليافي لهجته، ولذلك على عكس الكثير مما نشر في هذا الوقت. المراّة بالنسبة الى صايغ، مع انها مصدر شعري، لم تكن مبعث حب رومنطيقي، بل مبعث حب سامق ومعذب جدا، وربما ايضا مصدر خطيئة انهكه الى حد الموت. ولكن صايغ يواجهنا في ” القصيدة ك” بنوع آخر من الحب، ويعرب الناقد بلاطة عن اعتقاده بان هناك حبيبة اخرى. إلا ان ثلاثا فقط من الخمس والعشرين قصيدة التي تضمها هذه المجموعة، مستوحاة مباشرة من الحبيبة، ولكن تاثيرها يسير بقوة في كل القصائد الاخرى.

 يقول الشاعر والروائي والناقد جبرا ابراهيم جبرا في هذا الصدد: “كانت كاي تغويه وتعذبه معا، وتتقن كلا المغنيين وتتمتع بهما، ما رايته في لندن في اواخر الخمسينيات، الا وهو في تباريح غريبة من هذه الفتاة – وهي فنانة تقيم في لندن تتشبث به وتغار عليه، وتعقد عليه لذة الحب بلذائذ من قسوتها السادية لا تستطيع منها فكاكا”. ان حبه لهذه المرأة هو في وعيه نقيض حبه لأمه. ان حب كاي مهلك امّا حب الأم فهو دافق.

 

ادونيس بين الصورة والفكر

الشعر رؤيا واستباق للمستقبل وخلق له بما هو تعمق في الحاضر للاحساس بايقاع الحياة فيه ومعرفة اتجاهها. وهنا يجد الدكتور بلاطة ان ادونيس لا يقف شعره على سطح الاشياء، بل يغوص في اغوارها لمعرفة اسرارها، وحين ينكشف له السر تتوحد في شعره الصورة والفكر بحيث لا تعود الكلمات فيه اصواتا ذات معان قاموسية، بل تصبح وظائف ذات دلالات في متناهية، وافكارا ذات اشعاعات غير محدودة، وهكذا تتفجر اللغة بين يديه تفجرّا، الرؤيا فيه خلق، واللغة فيه خلق. ان صوت ادونيس الهادىء الخافت، هو صوت الفكر الواعي الذي يسيطر على العاطفة ويوجهها ولا يسمح لها ان تشرد به، كما انه صوت الفكر الواعي الذي لا يسمح لنفسه ان يستبد بالتعبير دون العاطفة كي لا يجف جفاف الموت، ولكنه يتوحّد معها في انصهاره الحي بالشعور، على حد قول بلاطة.

هذا، ويتعرض في شعر ادونيس وضع الانسان العربي المعاصر من خلال تركيب لغوي جديد صفته الرئيسية “الكيمياء الشعورية”،التي تتجاوز الكلمات فيها معانيها القاموسية لتصبح وثائق ذات دلالات غير متناهية، ورموزّا ذات اشعاعات غير محدودة يتوحّد فيها الفكر والانفعال.

ان كتاب الناقد الدكتور عيسى بلاطة، نقد علمي موضوعي، اغنى به الحركة النقدية العربية، لانه ايضا، نقد حداثوي عميق….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *