فؤاد كنعان في ذكرى رحيله… “الشاب القصصي” يصوّر الخراب ساخرًا

Views: 682

سليمان بختي

في 10 ايلول 2001 رفع فؤاد كنعان قلمه عن الورقة وقال ما قاله ودخل في حديقة الصمت.

هو أحد الرواد الكبار في كتابة القصة في لبنان. نحات الكلمة. يريدها أبعد من المستحيل وأقرب من طرفة العين. فنان الكلمة. حمل في قلبه عاصفة تمرد على إعوجاج في الجمهورية وعلى كل ضلال في الضمير وعلى خطل. وإذا لم يقدر أطلق كلماته على المعنى والمبنى ساخرا متهكما ساخطا. ورغم كل ذلك الأسى إحتفظ في زاوية قلبه بنهر عذب من الحنين واستعادة الزمن الهارب والمكان المفقود.

ولد في رشميا ( جبل لبنان) 1920 وتلقى دروسه الابتدائية في مدرسة يوحنا للرهبان وأكملها في مدرسة الحكمة في بيروت. التحق بمعهد الحقوق 1939 مزاولا في الوقت عينه تعليم اللغة العربية في مدرسة الحكمة والإشراف على مجلة الحكمة( 1951-1958) ولكن لعبته في المجلة كانت في أسئلة اللغة وأسئلة الواقع وكيف يتحقق التغيير. لذلك راهن على مواهب توسم فيها التغيير وقوة التعبير والقدرة على التمرد على الذات من أمثال شوقي أبي شقرا ويوسف حبشي الأشقر وجميل جبر وجورج شامي وغيرهم.

 

عام 1942 انضوى في سلك الوظيفة العامة ليكتشف ذلك الثقب الأسود الذي سيبتلع لبنان كله. ثقب الفساد واللامسؤولية والنفاق. ثقب السرطان الذي سينتشر في جسد البلد والجمهورية. كان يرى كل ذلك وينتقم  بالكتابة من القرف والحيرة والجمهورية التي تشبه السوق العمومي وكل شيء بسعره ولكل زعيم أزلامه.

كتب القصة القصيرة وبقي سيدها فقد كتبها لأول مرة ولم يبلغ من العمر 15 سنة في جريدة الرابطة ( سليم أبو جمرة) وكتب في مجلة المكشوف وفي كنف عصبة العشرة. كانت له زاوية في جريدة “لسان الحال” بعنوان “على راس اللسان” ويوقعها بـ”لسان”. وزاوية أخرى في “الاتحاد اللبناني” بعنوان “حبر على ورق”. له في القصص “قرف” (1947 و1977) و “أولا وآخرا وبين وبين” (1974 و1987) و”على أنهار بابل” (1987) و”كأن لم يكن” (1992) و”مديرية كان وأخواتها”. وله في الترجمة: ” أوجيني غرانده” لبلزاك  و”لبنان في شخصيته وحضوره” لميشال شيحا( 1962) والترجمة عنده كانت تأليف على تأليف وليست ترجمة لترجمة. كان مهفهفا في الترجمة على ما يقول الشاعر شوقي أبي شقرا وداعيا صادقا متأنقا ألى الوليمة. 

 

ترك فؤاد كنعان في أثاره بصمة تشبهه وحده. ترك بصمة عميقة على القصة بنية ولغة ومعالجة. صاحب الأسلوب الواقعي والنبض الساخر. وأنت أمام قصصه كأنك أمام حالات الغضب والضحك والتأثر والثورة. أمام قطعة من الحياة. و لعل السؤال إزاء كل هذا الخلل. كل هذا الزيف. هل يمكن للكلمة أن تستوعبه؟ ذلك هو السؤال الذي أرّق فؤاد كنعان وأوجعه. قدم مارون عبود كتاب “قرف” قائلا: ” فؤاد كنعان  “الشاب القصصي” الذي يصور محيطه وحياة ذاق طعمها ولهذا أحس وأجاد. سأجعلها بيضة الديك، فلا يطمع بي أحد. لو لم يعجبني لم أعد طوري وأقدم لها. وحسبك هذا برهان على طيبتها. اما رأيي المبسط فتقرأه، إن عشنا، بعد ظهورها وزيارتها مختبري. وداعا الآن”. 

كيف لهذا الثائر الغاضب أن يرى “أطباق مونة تسبح في الشمس، وبحمد الشمس تسبح”. كيف لهذا القلب الفايض بالمرارة أن تغمره أنهار “راس المي”. لا يعترف فؤاد كنعان بالخطوط الحمراء لا في السياسة ولا في الدين ولا في الجنس  ولا في عبثية الحياة. ولا عجب أن يسأل في كتابه “كأن لم يكن” : ” هل يستاهل العمر بعد، أن نبني بيتا… أم نحن بشر لا نستاهل العيش في “بيوت”.

 

هكذا هو فؤاد كنعان يعترض على كل شيء الأعراف والقيم والتقاليد دامعا منفردا عازفا على أوتار القلب. فؤاد كنعان بعد عشرين سنة على غيابه لا يزال حاضرا كاتبا قصصيا كبيرا من بلادنا. العتيق في صياغة الكلام جدا وظرفا. أذكره على شرفة منزله في الأشرفية في تمام أناقته ينتظر أن يقع هذا العالم في قعر كأسه. وهو لم يكن يتوقع شيئا من أحد. لم تطبع أعماله الكاملة. ولم يطلق إسمه على شارع أو جائزة. ولا نعرف إذا ما ترك أوراقا للنشر وهو بقي حتى أيامه الأخيرة يحّبر أوراقه المرتبة والمعطرة.

فؤاد كنعان كنت سبّاقا وأكثر ما يفجع فيك أنك كنت على حق رغم أشباح الصمت التي كانت تلاحقك حتى في عزلتك الأخيرة.

 

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *