(جاء حفيدي من غربته، فزرت معه الأزقة القديمة)

Views: 363

د. جان توما

يا جدّي

اشرب ماءك من قنينتك، واعلم أنّنا كنا نشرب، في الستينيات، مباشرة من سبيل ماء جارٍ في هذا الحيّ.

يا جدي، هذا الباب المهجور المغلق كان في الخمسينيات، حضانة أطفال، أو “خوجاية” بتعبير تلك الأيام. كان منزل “الست مَنّة” حيث ننحشر أطفالا داخل حديقة وراء هذا الباب، لنمضي نصف نهار لعبا، وشيطنة وعربشة على الشجر والحيطان.

أنت اليوم تكرج في أحياء،كانت تعجّ بالأحياء، وأنت الآن، في زيارتك لبنان، تكرج في الأزقة التي كرج والدك فيها، في الثمانينيات، ونما، قبل خروجه إلى أرض الله الواسعة من هذه الشرايين الضيّقة النابضة بالحياة.

تغيّرت الأزقة يا جدي، تركها أهلها، موتًا أو هجرة. تهاوت البيوت وانهارت، وما بقي منها مسنود على بال الذاكرة، وكتف الذكريات. كيف تكتمل النافذة من دون قنديلين يطلّان منها على المارّة والباعة وحملة بضائع البيع.

ما بال البيوت التراثيّة تتساقط كالدمع ؟  أحزنًا على من رحل؟ أشوقًا إلى من كان هنا وغادر؟ من يعيد تنظيم فوضى الانهيار؟ من يعيد القناطر المتهالكة إلى عزّها؟ من يعيد السنونو وعجقتها إلى ما تبقى من قرميد البيوت المتثائبة من وجع الرحيل؟

اشرب ماءك جدّي، جفّ سبيل الماء، راحت “الست مَنّة”، ضاعت وريقات الحبّ التي أودعناها شقوق الحجارة مع من ضاع في جهات الأرض.

اشرب ماءك جدّي، فلكلّ زمانه، وعمره وعالمه. فافرح.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *