سعيد تقي الدين في ذكراه… شامخ على العمر وهزال الأيام

Views: 480

سليمان بختي

عاش سعيد تقي الدينالأديب والمسرحي النهضوي (1904- 1960) على هذه الارض 56 عاماً وها نحن بعد 60 عاماً على وفاته نؤدي له التحية مثل الأمس واليوم وغداً. ولم يزل في تمامه، ولم يزل بيته في رأس الضيعة في الأدب والسياسة كما كان يقول شيخ النقاد مارون عبود.

والسؤال كيف نقترب من سعيد تقي الدين القيمة المضافة والظاهرة الماثلة والمتنوع الموهبة والانتاج الأدبي من القصة القصيرة الى المقالة الى المسرح الىالخطاب الى الرسالة الى رفة جناح وقد بلغت الآثار التي تركها 25 كتاباً 13 منها أنجزها في حياتهو 12 أصدرها الباحث جان دايه، وعلى الطريق كتاب جديد بعنوان ” الأسماء المستعارة ” وهو كتب بإسم حماد وبشار و شمدصوأبو ديانا وكتاب بالإنكليزية قيد الإعداد “مقالات ورسائل”.

سعيد تقي الدين

*

وسعيد تقي الدين لا يزال ينتج فلا غياب ولا من يحزنون. وفي زمانه طارت له شهرة في لبنان والعالم العربي حتى كتب عنه الناقد المصري أنور المعداوي ” سعيد تقي الدين أعظم أديب فنان في المهجر، شيء واحد أريد أن أقوله لقراء العربية في كل مكان وهو ان يقرأوا كتاب ” حفنة ريح” .

هاجر سعيد تقي الدين الىالغربة ومنها واشتغل في كل شيء، اشتغل في التجارة والأعمال لكي يعيش ويبدع في الشعر والرواية والمسرح ويتحرر في وقفاته ومواقفه وأحلامه. كان جريئاً وكريماً وصريحاً وواضحاً. كان كريما ليس بالمعنى الحاتمي فحسب بل بالمعنى الإغريقي أي كرم الروح. كان واحداً من هؤلاء الذين إذا مروا في الحياة أخذوا معهم الشهب والصدى والرذاذ والهالة والأثر.

أي مهمة كانت تلقى على عاتقه كانت مهمته الكبرى. وأي دور يحفظ له فكان دور البطولة الاولى. وأي قضية كان يؤمن بها كانت قضية حياته. نتذكره يصرخ : ” كل مواطن خفير” . أو “لا يمكن ان يكون المواطن صالحاً الا اذا توفرت فيه ثلاثة شروط : أخلاق رفيعة، وثقافة واسعة، واختصاص عالٍ”.او” ليس المهم ان تصرع التنين المهم ان تصارعه”. او في ” لبنان ثلاث دروب سياسية : طريق الحكومة وطريق المعارضة والصراط المستقيم”. هذا الكلام عمره من عمر الجمهورية ولا يزال واقع الحال مقيم.

نتذكره في مكتبه في رأس بيروت، كما روى لي الروائي الراحل يوسف سلامة، وفي الغرفة مكتبان: مكتب للنضال والجهاد والقضايا القومية، ومكتب للشؤون الحياتية والمهنية والتجارية. فلا خلط ولا مزج بين الشخصي والعام، ولا بين المادي والمعنوي، ولا بين الدين والدولة. وعرفنا ما أصابنا جراء ذاك الخلط الفظيع الذي أوصلنا الى الفوضى والهدر والفساد والتشبيح. وسعيد ابن بيئته ولطالما تغزل ببعقلين مثلما يتغزل العاشق بمعشوقته. “بعقلين عاصمة الدنيا” او ” الجامعة الاميركية في بعقلين”.

كتب سعيد تقي الدين غير مرة الى شقيقه بهيج بعد فوزه بالانتخابات النيابية ” تذكر يا بهيج، والدك شو كان يقول ما تنام حدي وايديك موسخين”. أحب سعيداً والدته حباً جماً، ولعل عودته الى لبنان لم تكن الا لأجلها هي، أمه التي كتب لها إهداء في احد كتبه من الفليبين : ” الى بعض الله الذي انشطرت عنه ولا أزال منه ….. الى أمي ، الى التي أحيت ارضاً بوراً في السفح المطل على قريتنا فزرعتها وهي في السبعين سندياناً لن ترى هي ولن أرى أنا أغصانه، الى أمي هذه الصحائف”.لكننا نحن رأينا السنديانات وقرأنا الصحائف ولمسنا الحب العظيم. كان يقول لابنته ديانا: “لا أريد أن يقولوا هذه ابنة سعيد تقي الدين بل أريد أن يقولوا هذا والد ديانا”. أخبرني ابن شقيقته “رمزي علم الدين” أنه عندما كان يصطحبه بسيارته من بعقلين إلى رأس بيروت كان يقول له رمزي:” معليش بنزل عالمفرق”. فيرد سعيد:” ما في معليش اطلب من الناس أن يوصلوك محل ما إنت بتريد”.

قوة سعيد تقي الدين في انه كان أكبر من نفسه، أكبر من صورة اللحم والدم، أكبر من الحياة. في مسرحية “المنبوذ” يضع على لسان شخصية رفيق هذا الكلام: ” نعم كنز. لقيت كنزاً. لقيت نفسي. كنت قطرة في مياه لا تروي، تتبخر، ولا شأن لها، عندما كنت وحدي. قفزت الى النهر، فلم أعد ذرة من مياه. أنا بعض هذا النهر. أنا النهر. النهر الغائر الهائج الواضح الهدف، الجارف ما يعترضه، المعلن بهديره ودويه عن وجوده وثروته وعطائه، وعن البحر الذي يقصد اليه”.

ترك سعيد تقي الدين كل شيء في مطرحه في لبنان وعاد إلى هجرته في الفيلبين ليصارعوقد أتعبته الأيام ومنها إلى كولومبيا حيث توفي هناك إثر أزمة قلبية حادة. كتب الشاعر والأديب الكبير أمين نخلة (1901-1976) في رثائه هذه الأبيات: حفظ التذكر من سعيد صورة/ باتت لأيام الفراق عتادي/ جمعت عليك مآتم الأضداد/ بعد إختلاف عقائد ومبادي/ لما انقضى زهر الربيع بكى له/ في الأرض أهل ربى وأهل وهاد/ زعموك حرب الضاد رغم جهالة/ أتعق ببيتك با بن بيت الضاد/ كولومبيا أرض السواد ثوى بها/ ما شئت من وضح وبيض أيادي”.

وردَ سعيد تقي الدين قبلنا صفاء الماء ودعا الجميع الى الوليمة ولم يستثنِأحداً. نتذكره ونسأل لماذا انتمى الى صفوف النهضة الاجتماعية بعدما صنع اسمه ومجده الأدبي، وعادة يحدث العكس؟ في ظني لانه كان صادقاً وأراد خلاصاً مجتمعياً لا فردياً، أراد نهضة بلاده، أراد عقلنة الحضارة وعلمنة المجتمع، أراد للقيم والمبادىء ان تكون سياسة. أراد الوفاء الحقيقي لباعث النهضة . سعيد تقي الدين ذلك القادم الينا من منازل الحقيقة ليثبت ان حكاية الانسان على هذه الأرض هي حكايته مع الكلمة، وان للمناقبية والمبادئ حصة المعنى في الحياة وفي ضمير الناس. لذلك كلما قرأناه يجعلنا نردد: “الله الله ما أشمخ العقل على العمر … الله الله ما أهزل الايام على الذكاء”.

وبعد، أعطانا سعيد تقي الدين هبة من يتمتعون بالضحك على هذا العالم والسخرية منه وهم يعلمون ان المتعة ينبوع لا ينضب. هبة من يعانون لكنهم مصممون على هزيمة المعاناة وتجاوزها واختراع الامل واطلاق الأسهم المضيئة لتبديد الظلمة .

سعيد تقي الدين نتذكره اليوم وكل يوم ونحتاجه ونكتب على رسله وننسج من عباءته، ونراه ينهض كالقلعة ويمشي كالجبل، وينظر كطائر حكيم، فاذا الرياح تهب في شراعه كأخضر الرجاء، أمل يحيي الأمل، ويدلنا بلا هوادة الى رؤية جديدة وقيم جديدة وانسان جديد وبلاد جديدة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *