الشاشة

Views: 484

زياد كاج  

 

    في استعادة أزمنة وتجارب وأمور عشناها أيام المراهقة شيء من  الحنين والعزاء على سحر من عمر مضى. خاصة اذا تسبب دولاب التغيير والتقدم الحضاري والتكنولوجي الى تراجع وانقراض تلك الأيام  والخبرات.

يطيب لي أن أتحدث عن مفهوم صالات السينما الشعبية التي استمرت وعاندت ماكينة الحرب الأهلية واستمرت تفتح أبوابها  للناس في شارع الحمراء وبلسّ، وفي منطقة أكثر شعبية مثل عائشة بكار حيث يقطن معظم أقارب أبي. ولا ننسى أن عائشة بكار كانت ولا تزال حاضنة للفكر الاسلامي الوسطي ( دار الافتاء ) وتلفزيون لبنان (القناة 7)، ومركز طبارة الثقافي وحديقة الصنائع وتعايش طوائفي مقبول رغم الصفحات السود القليلة جداً.

   في دردشة هاتفية مع صديقي المفكر والناشر سليمان بختي رحنا نتذكر تلك الأيام والأزمنة. فحملنا الحديث الى ثانوية رمل الظريف وطلابها ومعلميها وأجوائها الميليشياوية والمضحكة قبل الاجتياح الاسرائيلي سنة 1982، والى منطقة رأس بيروت وقريطم ومزرعة آل الحبال وغيرها من الحقول  والعائلات البيروتية التي بقيت صامدة في المنطقة أمام الزحف العمراني والباطوني.

“هل تذكر سينما البريستول؟”، سألني.

“تقصد أوتيل البريستول القريب من بنايتنا؟”، قلت.

“لا. هي سينما صغيرة كانت تعرض الافلام مقابل بنايتكم قبل الحرب”.

   لأول مرة أسمع بسينما البريستول في رأس بيروت. سمعت ودخلت دورًا كثيرة في شارع الحمراء مثل الستراند، الدورادو، بيكاديلي، كوليزيه، سارولا، إتوال وغيرها. شارع الحمراء كان بالنسبة لي شارع الأحلام برفقة أخي رياض. كل فيلم كنا نشاهده كان حلماً بالنسبة لي ومغامرة وعالمًا جديدًا.

 

أما قصة وأجواء سينما عايدة وسميراميس في عائشة بكار فاختلفت من حيث الأفلام المعروضة ونوعيتها، وأيضا بالنسبة للجمهور. سينما عايدة وسميراميس كانتا زينة المنطقة ومقصد أبناء وبنات الأحياء القريبة خاصة في موسم الأعياد في الفطر والأضحى. الأفلام المعروضة كانت تناسب المزاج والذوق الشعبي من مغامرات طرزان الى عنترة وعبلة وصولا الى الأفلام المصرية الغنائية والعاطفية من بطولة فريد الأطرش وعبد الوهاب والعندليب الأسمر.

   سينما سميراميس كانت تقع في مبنى قريب جداً من جامع الفاروق المواجه لبناية كريدية. كانت لي ولأخي وأبناء عمومتي زيارات متكررة لهذه السينما حيث كانت تباع سندويشات الفلافل وقناني الكازوز للرواد أثناء العرض. الرائحة لا تزال تعبق في أنفي ولا أزال اسمع طنين القناني الزجاجية الناتج عن ضرب الصبي البائع بمفتاح الحديد عليها مشوشاً على الحضور.

لم أكن أستغرب هذه الأجواء وحتى اليوم أنا ضحية سهلة لرائحة الفلافل الشهية لأننا لم نكن نمتلك المال اللازم لشراء سندوش.

 وفي أيام عيد الفطر كانت قاعة سينما سميراميس تكتظ بالرواد من أهل عائشة بكار. كاد المشرف على القاعة يتبع  اسلوب استغلالي ورخيص لاستيعاب المزيد من الرواد( ربما دون معرفة صاحب الصالة). ففي عتمة العرض، كان يمسك بصغار السن ويطلب منهم الجلوس على أرض المسرح أمام الشاشة. وهذا ما حصل معنا مراراً أنا وأخي. كنت أجلس وانظر فوق ولا ارى ولا افهم شيئًا من أضواء تتحرك على حائط مضاء أمامي. حتى الأصوات لم تكن واضحة. أخي الأكبر لم يكن يعترض وأنا بدوري كنت أقلده.

   لم أنسَ ولم تغب عن بالي تلك الممارسة في قاعة سميراميس خلال الحرب الأهلية واستغلال الكبار والصغار. ترى ما الفرق بين حالنا اليوم  كأهل البلد وكشعوب عربية وحالنا أيام صالات عائشة بكار؟

   نحن  على مسافة قريبة جداً من الشاشة. علينا أن نعود الى الوراء، الى أمكنتنا الأولى كي نرى المشهد بوضوح. علينا أن نعترض ولا نسمح لأحد أن يملي علينا رؤيتنا للأمور والأشياء والمفاهيم وتغيرات البلد والمنطقة والعالم..

رحل العندليب وعبدالوهاب والأطرش. بقيت أغانيهم والحانهم جميلة. الفلافل أكلة شهية وتراثية. سينما سميراميس أغلقت أبوابها واحتلت مكانها محال الألبسة والأدوات الكهربائية والهواتف النقالة.

علينا ان نبتعد عن الشاشة.. وبسرعة.

 

                     

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *