مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان”  مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكار اغترابية للأدب الراقي/ الورقة 24- الشاعر وسام زيدان – ملبورن:  تجربتي مع الأدب المهجري

Views: 690

انطلق  مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه  مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.

في القسم الأول من المؤتمر تم نشر عشرين ورقة لأدباء ومفكرين من لبنان وأنحاء العالم.

 القسم الثاني يضم 12 ورقة، في ما يلي الورقة 24- الشاعر وسام زيدان – ملبورن:  تجربتي مع الأدب المهجري.

 

                     

 

لقد كان الإنسان وما زال وسيبقى المحور الأساس ونقطة الإرتكاز، خاصة في سلوكه المزاجي وإرتباطاته بامور الحياة، الخارجية منها والباطنية، والتي هي الأهم مع الكائن الأسمى الله، لتتبلور عندها مظاهر وجوده وقيمته المعنوية في المجتمع على شتّى الصّعُد (الإبداع الأدبي، الثقافي…)، فينتج عنها العمل الخلاّق الذي هو الأعمق اتصالاَ بطبيعته، وهي منبثقةٌ من ذات عاقلة تزخر بالفيض الفكري المتميّز والحسّ الإجتماعي. وتنصهر في الإنسان طاقات خلاّقة متلازمة مع جوهره ووجوده. وعليه تظلّ هذه الروح تائهة في مجاهل الحياة حيث هي، لتذوق معها الفرح والحزن، البهجة والأسى، السعادة والألم… تلك أمور تلازم الإنسان حيث كان، وفي أيّ مكان وُجد فيه، فنراه كلما أمسك بحالة معيّنة لتبلغ نفسه الأماني، تفلت من بين أصابعه حالة أخرى نقيضة لما سبقها.   

تلك هي مسيرة الإنسان في دورة الحياة في وطنه، في تنقّلاته وترحاله، وخاصة في غربته، فالغربة سلاح ذو حدّين: معاناة وصبر، إيمان وفعل خلقْ… فهي أكبر من مجرد كلمة تقال، بل هي دائما منبر التناقضات، فبقدر ما تفتح أفاقاَ جديدة لقاطنها بقدر ما يعاني الإنسان في مجاهلها مرارة العيش وشظف الحياة وصعوبة التحدي من أجل البقاء… هكذا تبدأُ رحلة الأدب والأدباء في بلاد الإغتراب، رحلة البحث والإستكشاف،  علاقة العقل مع الكلمة، وعلاقة الروح مع المطلق، فمع الكلمة تأنسُ الأرواح وتزكو  النفوس وتطمئنّ القلوب، وتنبت الطمأنينة في الضمائر والسرائر، وتفيض العقول بخزائن الفكر… الكلمة والإنسان يعتبران ظاهرتين متلازمتين منذ بدء الوجود، وفي حال حصل انفصال بين هذين الجوهرين نتج عن ذلك العدم.

من هذا المنطلق، فإن تجربتي الشاقة مع الإغتراب هي التزام مع الذات، فالذات البشرية هي ذاتها في أيّ مكان حلّت، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

جئت إلى أستراليا العظيمة وفي جعبتي الكثير من الأفكار  الدّفينة، والهواجس المتأرجحة بين النجاح والفشل، والخوف والرجاء، وغيرها من الأمور النقيضة للأحلام الوردية المبعثرة بين نوافذ الكلمات التائهة في دائرة المجهول، والهائمة على مشارف الخيبة والطمأنينة…

تركت وطني لبنان رغماً عني، وكغيري من الذين تركوا أوطانهم، أطلقوا علينا يومها تسمية “مهاجرين”، فأصبحنا بعدها مشرّدين، هائمين في دائرة الغموض.

نفضتني أحلامي على رصيف الغربة، من بلدة رويسة البلوط ، المتن الجنوبي… جئت طائراً على أجنحة الطموح، حاملاَ سيف الكلمة، فسرت في مواكب الحياة، ممزّقاً الأمس بأفكاري المتحرّرة، منطلقاً إلى الروح الأعلى، باحثاً عن ذاتي في كل فكرة وكلمة، ناثراً عمري وروحي بين أحشاء السطور، ساكباً عصارة قلبي حروفاَ مرصّعةِ بحبر الفؤاد…

جئت من وطن يريدني عدداَ ورقماَ مضافاَ إلى قائمة التائهين، لذلك مزّقت نقاب التردد، وانطلقت جاعلاَ المحبة ركيزة حياتي، والصبر بلسم جروحي، فسلكت درب المعرفة أبحث بين دفات الكتب عن خفايا الحياة ومظاهر الوجود… قرأت للأدباء والشعراء، وعاينت كتاباتهم… انغمستُ بأرائهم فأيقنت أن لأدباء وشعراء المهجر الدور الطليعي في نشر المعرفة والثقافة في بلاد الاغتراب، حيث وضعوا مقاييس جديدة، ومفاهيم جديرة بالإهتمام والوقوف عندها، فأخذت كتاباتهم ومواضيعهم الحيّز الأبرز من الدراسة والتحليل عندي، وربما عند الكثيرين من أقراني وزملائي الشعراء والكتاب.

وهذا دليل واضح على أهمية أدباء الاغتراب وتأثيرهم على حركة النهضة الفكرية، وفي بناء شخصيتي ومسيرتي الشعرية المتعطّشة لبلوغ أرقى درجات التقدّم والرقي في مجتمع أنتمي إليه، وهو بدوره ينتمي للمجتمع الكوني الشاسع. ومما لا شك فيه أن تلك النهضة الجبّارة التي أرساها الأدباء المهاجرون أسهمت كثيراً في توفير التقدم الروحي والمعنوي لعامّة الناس.

وفي معرض تحليلي لهذا الإندفاع الجبار لدى معظم الأدباء المهجريين، وجدت أنّه يعود إلى الجذور الممتدة في التاريخ القديم والمعاصر، تاريخ المفكر الحرّ، انطلاقاَ من تراثه وإرثه المعنوي…

تلك المزايا والنوافذ نحو التاريخ دفعت بمعظمهم إلى خلق واسنتباط أفكار رائدة، تمتصّ أريج الوعي من رياض المعرفة، فكتبوا بذلك أسماءهم بأحرف من نور في سجل الوجود، إيمانا منهم بأنّ ذاتهم الفردية جزءٌ من الذات الحقة أو الكلّية. لقد حملوا مشاعل الحرية والعلم، نافضين غبار الجهل، وقيود الأنانية في مجتمعات أتوا منها، وتركوها رغماً عنهم، ليس كرهاً بها، بل كانوا وما زالوا ثائرين على المفاهيم الضيقة التي قيدتهم في وقت من الأوقات، وأطبقت على سلوكهم العقلي، فانطلقوا في بلاد الاغتراب إلى فضاء الحرّية، حرّية المعتقد والرأي. هذا الشغف الفكري والإبداعي في توجّهاتهم إنما هو لتأدية رسالة العقل المدرك المشرق النيّر، والإنعتاق من نير التخلف والبحث عن الحقيقة، والعشق اللامتناهي للعلم والمعرفة. 

وحسبي، واستنادا لما ذكرت فإن تجربتي في بلاد الاغتراب تنسجم مع هذا التوجّه الفريد لتلك النخبة ولمفهوم الكلمة، والذي ارتبطت به مسيرتي الأدبية والشعرية مذ كنت يافعاَ، وصولاً إلى حاضري المُنشغل في الآتي. مع ذلك المفهوم ومع الأوفياء للكلمة وحقها علينا، بدأت تتكشّف خفايا ذاتي الحالمة المنشغلة بجوهر العلم، ومزايا الفكر، وجوهر الحياة… كل تلك العوامل أيقظت في عقلي ونفسي شعور التحدّي، متخطياً حدود الوقت وقيد التردد. وهذه التجربة التي خضتها بمفردي لم تكن سهلة. لقد انتابني القلق، ولكن الطموح كان وما زال رفيقي، فتسلّحت بالإيمان، وبذلك النور الآتي معي منذ ولدت.

أما الناحية المهمة التي لفتت انتباهي وربما غيري من الأدباء في بلاد الاغتراب وتحديداً في أستراليا، هي التفاعل والتناغم الحضاري بين بلد المنشأ والبلد المُضيف، عبر نشر الفكر والإنتاج الأدبي، حيث فُتحت لنا آفاق جديدة ووحدة فكرية، فأظهرتا الوجه الحضاري للوطن الذي أتينا منه، وبصورة مغايرة عما تفرزه بعض وسائل الإعلام من شوائب وصفات مشبوهة بحقّ المبدعين. وهنا يظهر دور الأدباء في بلورة الصورة الحقيقية وإظهارها على نحوِ يتوافق والقيمة المعنوية لناشري الفكر المنغمسين في بحور الإبداع، من أجل خلق مجتمع أسمى وأرقى وأبهى…

وعليه فإن هذا الترابط الفكري بين المجتمعات والتناغم الفكري خلقا في نفسي حالة فريدة، حددّتُ من خلالها الهدف الأسمى لشخصيتي، ولتطوير نظريتي لمفهوم الحياة الشامل العميق، يقيناً مني بقدسية الكلمة وعظمتها كمفهوم حضاري، وصيغة أزلية يتجلى فيها الوعي، كجسر عبور باتجاه الرقي الروحي والمعنوي.                                 

وككل أديب ومفكر وشاعر، نسجتُ  لروحي مملكة فكرية أنتمي من خلالها إلى مجتمع نموذجي متحضّر فتح أبوابه للكثيرين، فكان العالم الجديد المُختلف بكل المقاييس، حيث التقيت مع النخبة من حاملي القلم وأرباب المعرفة، وناشري الفكر في المهجر الأسترالي، والذين حققوا حركة فكرية راقية ونموذجية، عبر رؤية مستقبلية فريدة لمفهوم الحياة.   

أما إذا كنت سأتحدّث وأسرد قصص المبدعين في المهجر الأسترالي، فلا غضاضة من ذكرهم والحديث عن معظمهم، ولكن إنصافاَ وتقديرا، لا بد لي من الوقوف بكل محبة وتجرّد أمام مبدعِ ومفكر من بلادي، عبقري ومجدّد، لا بل رائد التجديد بين أواخر القرن الماضي ويدايات القرن الحالي، وهو برأيي عميد المُفكرين المُحدثين، وصاحب التجربة الأوضح والأجدر في  مسيرة أدبية متكاملة، ألا وهو الشاعر والأديب والمؤرخ الكبير الدكتور جميل الدويهي، صاحب مشروع “أفكار إغترابية” للأدب المهجري والذي حمل على منكبيه وعلى عاتقه عبء الحداثة الأدبية وخاصة الشعرية، ففتح  باب البحث عن تجليات الفكر إيمانا منه بالعطاء الراقي، ومسيرة الإنسان المعرفية الطويلة الشاقة، وكأني به أصبح محور الوعي وقطب الثقافة والمرجع للتطور والإبداع الأدبي، وإذا قلت عنه بأنه الأب الروحي لمعظم الشعراء 

والكتاب المبتدئين، فتلك حقيقة ناصعة وجليّة للعيان، وليست مبالغة… نعم وألف نعم، فإن الدكتور جميل الدويهي ارتقى بتفكيره المتحرّر من الأنا الفردية ليصبح الشاهد على ولادة جيل جديد من الشعراء والمبدعين، جديرة بالاهتمام، آخذاَ بعين الإعتبار القدرة الخلاقة لدى هذا الجيل الجديد الواعي. كيف لا وهو العارف بمفهوم العلاقة الجدلية بين الإنسان ومجتمعه؟ فمن خلال تلك العلاقة القيّمة كانت له نظريّاته الخاصة والمضيئة، حيث يحقق الكل ذاته ويبني شخصيته بثقة وعنفوان.

ومع تلك المسيرة كانت للدكتور جميل الدويهي جائزة تحمل اسمه وهي “جائزة الأديب د. جميل الدويهي “أفكار إغترابية” للأدب الراقي”، وقد شرفني الحصول على تلك الجائزة لسنة 2018 عن مدينة ملبورن، وهذا هو أعظم دليل على تواضعه وحبّه لأبناء مجتمعه ولأهل الفكر والأدب، فلا يميّز بين عرق وعرق، وبين جنس ودين.  

إن الحديث عنه لا ينتهي هنا، فمن يقرأ الدكتور جميل يقرأ حالة فريدة وميزة في مجالات الأدب والشعر، وخاصة التجليات الفكرية في قراءاته العميقة للحياة والوجود.

ختاماً، تحية محبة وتقدير للدكتور جميل الدويهي في المقام الأول، ولكل الذين ساهموا في تطور مفهوم الفكر، وناضلوا بالقلم، ورفعوا شأن العلم، للحفاظ على القيم المعنوية في حياة البشر، سائلاَ سبحانه وتعالى أن يفيض بنور المعرفه على خلقه، لما فيه خير الإنسان والإنسانية جمعاء.                                                                      

***

*غداً 8- 2- 2022 ورقة الدكتور جوزيف ياغي الجميّل- لبنان

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *