الجد والأسد

Views: 124

زياد كاج

   يقول المثل السائد في لبنان: “انتو خلّفوا وربّوا.. ونحنا نفسد”، في إشارة واضحة لمدى تعلق الأجداد بالأحفاد الى درجة الغنج والدلال وعدم رد طلب. فهم أوهن بالنسبة  لهم بمثابة عمر وأمل جديد وحياة جديدة ومصدر فرح وبهجة لا حدود لها.

 حتى قيل عندنا :”ما أعز من الولد.. إلا ولد الولد”.

   أدار الجد المعمر والرياضي محرك سيارته بعد أن ثبت حزام الأمان حول حفيده الجالس الى يمينه. كلما تأمل شعره الأشقر وزرقة عينيه  ضاع في بحر ذكرياته المؤلمة، ولمعت أمامه صورة وجه ابنه الذي فقده في حادث سيارة في أميركا. كان الجد الطبيب قد وعد ابنته وزوجها بأنه سيأخذ الصبي الصغير في نزهة قصيرة الى حديقة عامة داخل العاصمة. الأم تثق بأبيها “على العمياني”. كيف لا تفعل وهو الذي تمكن من النجاة بنفسه وعائلته من أهوال الحرب عدة مرات وفي أشد الظروف ، وهو المعروف بالتزامه بقواعد القيادة السليمة والسلامة الشخصية والنظام ولو كان البلد غارقًا في فوضى وحالة من التسيب لا مثيل لها.

     طبيب له باع طويل في العمل الميداني والانساني. لم يمضِ عمره فقط وراء مكتب بالثوب الأبيض النظيف يستقبل المرضى والسكريترة تفتح الباب وتهتم في المواعيد. كان طبيباً “بتع كلو” على الجبهات ووسط المقاتلين وبين الناس خاصة الفقراء والمحرومين منهم. ملاك الرحمة كانوا يسمونه. كانت له خلال الحرب الاهلية مجازفات تشبه الخيال ومفاوضات ومواقف جعلت منه إنسانًا لا يخاف الموت بل يحب مصارعته كما يفعل لاعب المتادور الإسباني.

لم ينسَ يوماً أن أبيه باع قطعة أرض في الخيام كي يعلّمه في أفضل المدارس والجامعات، فأصبح حالة “تشي-غيفارية” أينما طلبه الواجب سواء في تل الزعتر أو  حصار النبعة  خلال الحرب .

  “جدو..جدو..بدي روح ع جنينة الحيوانات”، وضع الحفيد يده الصغيرة الناعمة على يد جده اليمنى. لم يستطع أن يرفض له طلبًا. قاد سيارته بسرعة معقولة متجهاً نحو طريق مرفأ بيروت وفي باله مفرق نهر الكلب الشهير حيث يعرف   حديقة حيوانات كبيرة في العمق بين الجبال. بعد ساعة على الطريق السريع بسبب زحمة السير، تجاوز النفق ودخل المفرق الى اليمين. التفت للحظات نحو لوحة الاستقلال فارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة تحولت الى ضحكة رنانة عندما أعاده وجه حفيده الضاحك والمتحمس لرؤية  حيوانات   تعوّد أن يشاهدها على شاشة التلفزيون. ركن السيارة في الموقف. حين أمسك يد الولد الناعمة شعر بحنين وخوف عليه مما جعله يضغط أكثر كي لا يفلت منه. دفع رسم الدخول وأشترى كيس خضار لإطعام الحيوانات ودخل مزهواً فرحاً بتحقيق حلم حفيده.

   اُعجب   الطبيب بالعالم الجديد الذي دخله للتو. مكان شاسع مفتوح على السماء الزرقاء وتتوزيع فيه أقفاص مختلفة الأحجام لمعظم أنواع الحيوانات البرية: انتشرت المعزى على التلال—فتذكر أجواء الضيعة أيام طفولته—ولفته نوع غريب من الأحصنة الصغيرة الحجم. انجذب حفيده للغزلان الساحرة والبريئة من خلف السياج. فأخذ   يطعمها ضاحكاً والجد يلتقط له صور الفيديو بهاتفه الخلوي الحديث الذي جلبته له ابنته من أوروبا. حتى الذئب والضبع ونوع من النمور والأفاعي رآها  في أقفاص بدا عليها شيء من الإهمال.

انتبه الجد لبعض الثغرات التي بدت له مقبولة. بدا واضحاً أن الإهمال قد طال هذه المكان بسبب جائحة  الكورونا والضائقة الاقتصادية في البلد. فالحيوانات بدا عليها الكثير من علامات التحول والإهمال.

   وصلا الى قرب قفص كبير خلا من ساكن!

 الفسحة خلف القضبان الحديدية بدت خالية الا من وعاء بلاستيكي مقلوب الى جانب قطعة عظم قديمة تجمع عليها الذباب. شرد الجد في المشاهد من حوله: عائلات مع أولادها تصول وتجول في الحديقة؛ ولد يحاول إدخال جزرة من فتحة لإطعام حصان؛ صبايا يهربن الى الخارج من القفص الكبير الذي ضم أفاعي  غير سامة . كان الحفيد الصغير قد التصق بالشبك الحديدي المهترئ حتى كاد وجهه  أن  يلامس الحاجز.

 فجأة خرج أسد من وراء الأخشاب وتقدم نحو الحاجز. الجد  كان شارداً في السماء الزرقاء وبعض الطيور المحلقة حين شعر أن يد حفيده الصغيرة بدأت تتفلت من راحة يده. صدمه المشهد! أسد جائع نحيل ضخم الرأس بشكل ملفت ووسخ تلّقط بمعطف حفيده وحاول شده الى الداخل من خلال فتحة خفتها حشائش وشتول.  للحظات ومضية عاد الى اليوم الذي أخبر فيه زوجته خسارتهما لأبنهما. ظهر أمامه وجهها الحزين والمصدوم. ظهر فجأة محله وجه ابنته وهو يخبرها  خائباً عن التهام أسد للحفيد في حديقة حيوانات! جف فمه وكاد أن يتوقف نفسه.

   استيقظت في داخله روح المقاومة والاستبسال. بسرعة فائقة ضرب الاسد بقبضة يده اليمنى على رأسه. أفلت الحفيد المصدوم، ثم ضرب يد  الطبيب بمخالبه قبل أن يتراجع الى الوراء.  لم يشعر الجد بجرحه ،فرفع   حفيده واحتضنه وضمه الى صدره كأنه ولد من جديد وركض مبتعداً وهو يصرخ ويلعن إدارة الحديقة ويطلب النجدة.

   في مستشفى قريب، لم يحتج الحفيد والجد الا   لبضعة قطب صغيرة ودواء مضاد للالتهابات.

 طوال تجربته المهنية لم يختبر الطبيب هكذا موقف، لكنه كان يعرف أن الأسود لا تأكل الا اذا كانت جائعة. وبسبب غلاء اللحوم يبدو أن ادارة الحديقة قد حرمت الاسد من اللحم لفترة طويلة. فقرر لاحقاً رفع دعوى قضائية لإغلاقها بسبب الاهمال وكي لا يتعرض المزيد من الاطفال لهكذا أخطار مميتة. اُغلقت الحديقة لأشهر قليلة، لكن فساد القضاء والرشاوى تمكنا من إعادة افتتاحها. الطبيب المترس والعارف بمدى نسبة الفساد من خلال منظمته الدولية كان متأكدًا أن المحاكم عندنا هي مع “الظالم وضد المظلوم”.

  أخبر بقية القصة خلال اجتماع لأطباء وكبار إداريي منظمته في مكتبه . جلسوا مصدومين  صامتين غير مصدقين لقصته  وكيف تمكن من إنقاذ حفيده من موت محتم. يستحيل أن يشك أحد بكلام الطبيب المعمر خاصة عندما يتعلق الأمر بأحد أفراد أسرته.

“الحمد الله ع السلامة” ..ترددت العبارة في أصداء الغرفة من كل الاتجاهات، وتمتم أحدهم: “ما أصعب من عضة أسد.. (www.bricks4kidz.com) الا فقدان ولد”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *