الحرب الباردة – الجزء الثاني: شبح “بريجنسكي” بدأ يحوم في شوارع أوكرانيا

Views: 17

المحامي معوض رياض الحجل

*هل سيكون “الفيلق الدولي” نسخة مُنقحة عن الحركات الجهادية؟*

يُعتبر العام 1978مفصليا على الصعيد العالمي على عدة صُعد، وقد شهدَ تغير الكثير من الأمور في أفغانستان، أهمها استلام “محمد داود خان” مقاليد الحُكم بعد نجاح الأنقلاب الأبيض على النظام الملكي بقيادة أبن عمهِ “محمد ظاهر شاه”، خلال ما عُرف بإسم “ثورة ثور” التي قادها الشيوعيون في الحزب الديمقراطي الشعبي الأفغاني. لكن إصلاحات “داود خان” الماركسية لم تنل الكثير من القبول لدى الشعب الأفغاني، وَوُجهت بإحتجاجات شعبية كبيرة دفعت الحزب في نهاية المطاف لإقالتهِ من منصبهِ وتولية “محمد تور تراكي” رئاسة المجلس الثوري ورئاسة الوزراء. بيد أن “تراكي” سرعان ما قُتل في ظروف غامضة جداً في خضم أحتجاجات أكبر حجماً، لكنهُ كان قد وقع قبل موتهِ على مُعاهدة تسمح بالتدخل السوفياتي العسكري في أفغانستان حال طلب الأفغان ذلك.

الغزو السوفياتي لافغانستان

ومع قرب نهاية العام 1979، بدأ الغزو السوفياتي لافغانستان فأحتلت القوات السوفياتية الأبنية العسكرية والحكومية والإذاعية الرئيسة في العاصمة كابول، بما في ذلك القصر الرئاسي، مُتذرعين بمُعاهدة الصداقة التي تم توقيعها سابقاً مع الراحل تراكي، قبل أن يقوموا بدعم عملية التخلص من “حفيظ الله أمين” على يد اللجنة الثورية المركزية الأفغانية، بعد شكوكهم حول كونهِ عميلاً سرياً للمُخابرات الأميركية، وتنصيب “بابراك كارمال” رئيساً للبلاد.

مُنذ منتصف سبعينات القرن العشرن، كان كبار مسؤولي المُخابرات الباكستانية يحاولون الضغط بشدة على الأدارة الأميركية لتقديم الدعم العسكري والمالي واللوجستي لـ “المسلحين الإسلاميين”، ولكن توتر العلاقات بين باكستان وبين إدارة الرئيس كارتر بفعل البرنامج النووي الباكستاني منعَ الأخيرة من الاستجابة للطلبات المُلحة المُتكررة.

دفعت “الثورة الإسلامية” في إيران بقيادة آية الله الخميني والتي أطاحت بحليف الأدارة الأميركية الشاه محمد رضا بهلوي إلى تجاوزها موضوع النووي وتحسين علاقاتها المُتوترة مع باكستان بإلحاح من مُستشار الأمن القومي ” زبيغنيو بريجنسكي”.

في مُنتصف العام 1979، أي قبل ستة أشهر كاملة من بدء الغزو السوفياتي، تمكن بريجنسكي من إقناع الرئيس جيمي كارتر بالموافقة على أرسال أسلحة “غير حاسمة” للمُعارضين الإسلاميين في باكستان، ، بعكس الروايات الأميركية التقليدية التي تقول إن دعم الأدارة الأميركية للمُجاهدين الأفغان جاء رداً على التدخل السوفياتي العسكري في أفغانستان. أستغربَ الرئيس كارتر جداً خطوة الأتحاد السوفياتي، أي غزوهِ أفغانستان، ما دفعهُ كما يحصل اليوم في أوكرانيا إلى أستعمال كل الأسلحة المُتوفرة لديه ومنها فرض عقوبات قاسية على الأتحاد السوفياتي كما يحصل اليوم.

صورة مركّبة للرئيس الافغاني بابراك كارمال في اواخر سبعينات القرن الماضي، إضافة إلى مجموعة من المقاتلين، ولقطتين لـ”مجاهدين” يستخدمونصواريخ ستينغر المضادة للطائرات

منح السوفيات فيتناما خاصة بهم

أكد بريجنسكي في مُقابلة شهيرة لهُ مع مجلة “نوفيل أوبسرفاتور” عام 1998 أنهُ كان مُتأكدا من أن “تلك المُساعدات الأميركية سوف تُحفز تدخلاً سوفياتيًّا”، مؤكداً أنهُ كان يرغب في منح السوفيات “فيتنام الخاصة بهم”، وبالتالي يعني أن تقودهم الأدارة الأميركية بشكلٍ غير مُباشر إلى مسرح قتال يتلقون فيه ضربات عسكرية موجعة.

السؤال المطروح: هل وَقعَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربهِ على أوكرانيا أو ما يُسمّى بـ”العملية الخاصة” بنفس الفخ الذي نصبهُ بريجنسكي للاتحاد السوفياتي. هل يكون ما يُسمى “الفيلق الدولي” المُزمع أنشائهُ لمواجهة الروس شبيه بفيلق المُجاهدين الذين تم تسليحهم وتجهيزهم لمواجهة السوفيات في ثمانينات القرن الماضي؟ هل سنكون أمام حرب أستنزاف جديدة طويلة الأمد مثل حرب فيتنام، أم سيحسم الرئيس بوتين المعركة ويفرض قواعد جديدة للعبة.

عملية “الاعصار”

بالعودة إلى أحداث غزو أفغانستان، فمع بداية العام 1980، قررت إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر تدشين العملية “سايكلون” (الإعصار)، وهي برنامج أستخباراتي سري مُخصص لتدريب وتسليح المُجاهدين الأفغان من خلال التعاون مع المُخابرات الباكستانية. وسرعان ما بدأ بريجنسكي جولاتهِ الدبلوماسية المكوكية فالتقى الرئيس المصري أنور السادات، وتمكن في إقناعهِ بضرورة أعطاء المُجاهدين الافغان الأسلحة السوفياتية القديمة المُكدسة في مُستودعات الجيش المصري، وسرعان ما أصدر الرئيس السادات أوامرهُ بتخصيص مطار ” قنا” العسكري ليكون مقراً لشحن الأسلحة إلى باكستان، كما تم تخصيص ميناء بورسعيد للاستخدام كقاعدة لتخزين ونقل الأسلحة إلى كراتشي ومنها إلى المُجاهدين الأفغان.

ساهمت الثورة الأيرانية والغزو الروسي لافغانستان في خسارة الرئيس كارتر للانتخابات الرئاسية وصعود نجم خلفهِ “رونالد ريغان” إلى السلطة عام 1981، الذي وضعَ على سلم أولوياتهِ مُناهضة الحركات السوفياتية في جميع أنحاء العالم. ولتنفيذ هذه السياسة، أرسل ريغان ضباطاً شبه عسكريين تابعين لوكالة الأستخبارات المركزية الأميركية في أفغانستان،أبرزهم مايكل بيلسبوري، مسؤول البنتاغون الذي لعب دوراً محورياً من خلال أرسال صواريخ “ستينغر” المحمولة التي كانت حاسمة للمُقاومة الأفغانية بوجه الغزو السوفياتي.

أما في العام 2022 وفي خضم الحرب الأوكرانية الطاحنة، فنسمع ونرى على وسائل الاعلام نفس الكلمات والتعابير والموافق المُتعلقة بضرورة تزويد الجيش الأوكراني بالصواريخ الذكية ومنها صواريخ “ستينغر” في مواجهة الدخول الروسي إلى أوكرانيا. هل تنجح صواريخ ستينغر هذه المرة في وقف ودحر القوات الروسية كما نجحت إلى حد ما في ثمانينات القرن الماضي في وجه القوات السوفياتية؟

الرئيس الاميركي جيمي كارتر برفقة مستشار الأمن القومي في البيت الابيض بريجنسكي في اواخر سبعينيّات القرن الماضي

المشهد الأكثر سُخرية

مُجدداً إلى تفاصيل الغزو السوفياتي لافغانستان، ففي العام 1985، كان العالم أجمع يُشاهد مُباشرة على الهواء المشهد الأكثر سُخرية ربما في تاريخ البيت الأبيض، حين أستقبل الرئيس “رونالد ريغان” في مكتبهِ في البيت الابيض مجموعة من قادة المجاهدين الأفغان، مُشيراً إليهم بكل ثقة أمام عدسات الكاميرات بأنهم “المُعادل الأخلاقي للآباء المؤسسين أميركا”.

في العام 1989 وبعد حرب أستنزاف طويلة ومُرهقة، أنسحبت القوات السوفياتية من أفغانستان، وبالفعل تحولت الدولة الآسيوية “الإسلامية” إلى فيتنام السوفيات تماماً كما توقع بريجنسكي، ولم يمض أكثر من عامين حتى أنهار الاتحاد السوفياتي بفعل تداعيات الحرب وتكلفتها الباهظة جداً، أما أفغانستان، فدخلت في دوامة حرب أهلية شرسة بين الفصائل، وفشلت حكومة “حكمتيار” الجديدة في السيطرة على الأوضاع في البلاد وعلى أتون الحرب الأهلية، قبل أن تنتقل أفغانستان إلى سيطرة حركة “طالبان” المُتشددة عام 1996، أما الأفغان العرب فسرعان ما عادوا إلى بلادهم ليجدوا أن القوات الأميركية قد تمركزت بقوة في الخليج العربي إثر الغزو العراقي للكويت في العام 1990، لتبدأ حقبة جديدة في العلاقة بين الأدارة الأميركية والدول العربية، وبين شبكات الجهاد العالمي التي لم تكن لتتشكل وتنمو وتنتشر لولا رعاية الأدارة الأميركية المُباشرة للحرب في أفغانستان.

التكلفة الباهظة للحرب الافغانية

على مدار قرابة نصف قرن، رأت الأدارة الأميركية والعديد من حلفائها ما أسموه آنذاك “اليمين الإسلامي”كشركاء مُناسبين في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، نظراً لمُناهضة ذلك “اليمين” للشيوعيين، ومُعارضتهم للقوميين المُتحالفين تاريخياً مع السوفيات مثل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الايراني محمد مصدق، لذلك فإن الادارة الاميركيةأستثمرت بشدة في دعمهم مالياً وعسكريا ولوجستياً. ففي أفغانستان، بلغت تكلفة العملية “سيكلون/الإعصار” خلال ست السنوات الأولى لها (1981-1987) 3.2 مليار دولار أميركي من المدفوعات الأميركية، مُقسمة بالتساوي بين الدعم الاقتصادي والمبيعات العسكرية، كما باعت الادارة الاميركية أربعين طائرة من طراز “إف-16” إلى باكستان بتكلفة 1.2 مليار دولار أميركي خارج حزمة المُساعدات. وبلغت حزمة المُساعدة الثانية التي أستمرت ست سنوات أخرى (1987-1993) نحو 4.2 مليار دولار أميركي، ومن هذا المبلغ، خُصص مبلغ 2،28 ملياراً للمُساعدة الاقتصادية في شكل منح أو قروض تحمل مُعدل فائدة يتراوح بين 2 و3%، أما بقية المُخصصات (1.74 مليار دولار) فكانت في شكل أئتمان للمُشتريات العسكرية، في حين تشير بعض التقديرات إلى أنه تم تحويل أكثر من 20 مليار دولار أميركي من الأموال الأميركية إلى أفغانستان لتدريب الجماعات الأفغانية المُتشددة وتسليحها في مواجهة القوات السوفياتية الغازية.

ومع مُلاحظته هذا الضخ المالي والعسكري الهائل وغير المَسبوق، يؤكد “تشالمرز جونسون” (1931-2010)، الأستاذ الفخري في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، ومُستشار وكالة الاستخبارات المركزية، في كتابهِ “تفكيك الإمبراطورية” أن الغزو السوفياتي لأفغانستان مع نهايةالعام 1979 كان نتيجة أستفزازاً مدروساًومُتعمداً من قِبل الأدارة الأميركية لدفع السوفيات إلى خوض غمار الحرب، وهو ما أكّدهُ أيضاً مُدير وكالة المُخابرات المركزية السابق ووزير الدفاع في عهد أوباما، “روبرت غيتس”، في مُذكراتهِ التي نُشرت في عام 1996، حيث أوضح أن أجهزة الاستخبارات الأميركية بدأت في دعم “المُجاهدين” قبل ستة أشهر من الغزو السوفياتي لأفغانستان.

الرئيس الاميركي رونالد ريغان مجتمعا في البيت الابيض مع أحد زعماء المجاهدين الافغان في منتصف ثمانينات القرن الماضي

التاريخ يعيدُ نفسهُ

بالتالي، من قراءة مجرى الأحداث نرى أن التاريخ يعيدُ نفسهُ ولو مع وجود أختلاف في التفاصيل. الفرقاء نفسهم أي الأدارة الأميركية والأتحاد الروسي وجهاً لوجه ولكن ليس على أرض أفغانستان الأسيوية وأنما على أرض أوكرانيا الأوروبية. من يتابع التقارير خاصة تلك الصادرة عن المُحللين الروس يرى أن الدخول الروسي إلى أوكرانيا لم يأتي من عَدم وأنما سببهُ الأستفزاز والمُساعدات الهائلة التي قدمتها الأدارة الأميركية إلى أوكرانيا والتي بنظر الروس شكلت (وتشكل) خطراً جدياً على أستقرارها وأستقرار المناطق الأنفصالية الخاضعة لسيطرتها.

كان الأمر اذن، وبالعودة إلى أجتياح أفغانستان عبارة عن خطة سرية تمت هندستها بعناية فائقة من قِبل الرئيس جيمي كارتر ومُعاونهِ بريجنسكي، وحصلت على دعم مُضاعف وهائل غير مسبوق من قِبل إدارة الرئيس رونالد ريغان، لدرجة أن بريجنسكي نفسهُ لم يُخف أبداً فخرهُ بهذه الحرب، مُتسائلاً في حوار صحافي شهير مع الصحافي الفرنسي “فانسان جوفير”: “ما الأكثر أهمية في تاريخ العالم؟ طالبان أم أنهيار الإمبراطورية السوفياتية؟ بعض المُسلمين الغاضبين أم تحرير وسط أوروبا ونهاية الحرب الباردة؟”.

التاريخ سيشكف يوماً ما عن هوية الأب الروحي والمُهندس الفعلي للخطة السرية الأميركية التي دفعت الأتحاد الروسي إلى خوض المُغامرة الأوكرانية ذات الكلفة الباهظة ليس فقط عسكرياً وأنما أيضاً سياسياً وأقتصادياً. إذ مع بزوع كل فجر نقرأ ونسمع عن عقوبات جديدة تُفرض ليس فقط على الرئيس بوتين وأدارته وإنما أيضاً على كل ما يرتبط بالاتحاد الروسي حتى وإن كان لهُ علاقة بالرياضة أو السياحة أو الصناعة… وصل الأمر بالادارة الأميركية إلى الطلب من الشركات الأميركية كافة مُقاطعة روسيا وأقفال مطاعمها ومتاجرها ومؤسساتها.

هل تكون الحرب الأوكرانية 2022 “حصان طروادة” لاغراق روسيا في مُستنقع من الحروب والأزمات بهدف مُحاصرة أقتصادها تمهيداً لتفكيكها وأفقارها. الفرق بين ثمانينات القرن الماضي واليوم أن الادارة الاميركية تُجند حالياً كافة الدول الحليفة والصديقة لها لكي تدعم أوكرانيا في مواجهة الهجوم الروسي على أراضيها. (elemergente) المُساعدة تأخذ أشكالا مُتعددة: أقفال المصارف الروسية أو طرد السفراء الروس أو أغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية…

هل ينجح الرئيس بوتين حيث أخفق أسلافهُ في الأدارة الحكيمة للحصار الاقتصادي الدولي المفروض على روسيا وهل ينجح في كسب الحرب على أوكرانيا وتكريس نفسهُ كما قلنا في مقالة سابقة كقيصر جديد، أم ستنسحب القوات الروسية من أوكرانيا كما حصل في ثمانينات القرن الماضي في أفغانتسان مُمهدة الطريق لانهيار الاتحاد الروسي كما حصلَ في العام 1991؟؟؟

الرئيس ريغان مجتمعًا بالمقاتلين الافغان في البيت الابيض بتاريخ 16 تموز 1986

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *