مئة عام على رحيله… فرح أنطون أحد أكبر رموز العلمانية في الفكر العربي الحديث

Views: 600

د.كرم الحلو

فرح انطون رائد نهضوي إشكالي أثار بين معاصريه رؤى متناقضة إلى فكره وطروحه الايديولوجية والاجتماعية والدينية .ففي رأي مارون عبود هو الذي عرّف سواد الشرق الادنى ببوذا وكونفوشيوس، واطلعهم على شرائع حمورابي وفلسفة تولستوي ،وهو اول من نشر تعاليم روسو وترجم مكسيم غوركي واول من اكتشف تعاليم ماركس وعرّف العرب بأرنست رينان وترجم كتابه ” حياة يسوع ” يوم كان اسم رينان يفزع المتدينين في الغرب ،ويرادف الكفر والالحاد في الشرق . وفي راي سلامة موسى فرح انطون هو الفاتح لدراسة النهضة الاوروبية الحديثة ،ومن اوائل من عرّفوا بالمذاهب السياسية والاجتماعية الحديثة في المشرق العربي . اما محمود عباس العقاد ،فقد اعتبره ” طليعة مبكرة من طلائع النهضة ،وسيعرف المستقبل من عمله ما لم يعرفه الحاضر ” .

    على الضد من هؤلاء تعرّض انطون للإفتراء والإتهام بالالحاد والتطرّف من الذين أساؤوا فهم توجهاته العلمانية والعقلانية والنهضوية التي قادته إلى الاهتمام بابن رشد ورينان ، ودعوته الى فصل السياسة عن الدين التي أغضبت المتدينين المسلمين والمسيحيين على السواء،حتى ان لويس شيخو ذهب الى ان انطون تجاوز “كل حدود الفطنة في آرائه المتطرّفة المجردة عن روح الدين دون مراعاة لصحته ،حتى غلبت قواه فمات ضحية غلوائه ” . ولم يغفر له شيخو ترجمة كتاب رينان ” حياة يسوع ” فاتهمه بالماسونية والالحاد المفضي الى فساد العباد وخراب البلاد.  ولم يتورع رشيد رضا صاحب مجلة “المنار” عن شتم انطون ومجلته “الجامعة ” وطلب من الشيخ محمد عبده ان يرد عليه مما احدث سلسلة من الردود والحملات تمثّلت في مبارزة كلامية بين انطون وعبده ،اتصفت بالحدة والتشنج وتناولت موضوعات حساسة تطرّقت الى اساس الدين بما فيها من جرأة وحرية .

    إلا  أنه يتبين من خلال الإفتراءات والإتهامات التي وجهت الى انطون ان ثمة قصوراً في فهم حقيقة مقاصده ورؤيته النهضوية .فانطون الذي ينتمي الى السلالة الايديولوجية للتنويريين النهضويين العرب ،من احمد فارس الشدياق الى بطرس وسليم البستاني وفرنسيس المراش واد يب اسحق ، لم يكن يرمي الى الالحاد وانكار الاديان ، بل كان على غرار هؤلاء ،يتطلّع من خلال طروحه العلمانية ودعوته الى فصل الدين عن السياسة ،الى مجتمع وطني في الشرق ،وخاصة في الامبراطورية العثمانية ،تندمج فيه جميع الاديان والطوائف في وحدة وطنية ، ويجد فيه كل مكانه الاجتماعي والسياسي،وتتساوى الحقوق والواجبات في مجتمع واحد موحد قادر على رد تحديات الغرب ومجاراة تمدنه ومزاحمة اهله وإلا جرفهم جميعاً ، وهذا بالذت ما جعل انطون يؤسس في الاسكندرية في 1899مجلته “الجامعة العثمانية ” .

     لكن الالحاد الذي نسب الى انطون غريب عن فكر هذا الرائد وبعيد كل البعد عن العلموية الملحدة التي قال بها شبلي الشميّل ،فعلى عكس الشميّل تصدى انطون للاستبداد الديني والطائفي من دون ان يصطدم بالدين ومسلماته ، بل انه على العكس أعلن تمسّكه بهذه المسلمات ودافع عنها ولم يشكك باي واحدة منها .وواجه بالادانة والاستنكاراتهامه بالالحاد والكفر، مشدّداً على أن مقصده إنما هو تنقية العقائد الدينية من الاوهام والخرافات ،وانتزاعها من أيدي رجال دين مستبدين يدّعون احتكار الحقيقة لكنهم لا يبغون سوى أهوائهم ومصالحهم بالسيطرة على قلوب الناس وضمائرهم .يقول انطون :”معاذ الله أن نروم هدم الدين كما تفترون علينا ،وإنما هدم الاوهام والخزعبلات في الدين فلماذا تجعلون هذه قسماً منه، وأولى هذه الخزعبلات قولكم إن الانسان لا يمكن أن يعبد الله وأن يفهم الكتب الدينية إلا بواسطة كاهن أو شيخ ،وبذلك تضعون أنفسكم بين الله وبين عباده رفعاً لشأنكم وطلباًللفائدة لكم ” .

   لايجد انطون تناقضاً بين العلم والدين ولا يرى موجباً له سوى الأهواء والمصالح ، فالعلم والدين إذا اختلفا في الطرق يتفقان في الغرض لأن غرضهما واحد :تحسين حال الإنسانية وترقية شؤون البشر .الله موجود وكل ما في الطبيعة يدل عليه ويشير إليه .عليه واءم انطون في فكره بين الايمان والإبحار في الفكر الإنساني بكل اتجاهاته من دون خوف أو تقية ،فاكتشف ،على حد تعبيرمارون عبود  ،    تعاليم ماركس قبل أن ” تحمرّ روسيا البيضاء وترجم أخطر كتب رينان وصلاته عند الأكروبول، وعلّق :” يا أثينا العظيمة علّمينا أن نجهربمعتقداتنا فلا نخاف قوى الأرض والسماء. بثّي فينا روح التساهل المطلق فبه كمال نهضتنا الشرقية التي إن لم نشاهدها في زماننا حسبنا أن يشاهدها أحفاد أحفادنا ولو بعد عشرين عقباَ ” .

      النزعة العقلانية التي جذبت فرح انطون إلى أرنست رينان أثارت اهتمامه بابن رشد أهم الفلاسفة الاسلاميين الذين أرجعوا إلى العقل مكانته وإلى الفلسفة اعتبارها منذ أعلن الغزالي تهافتها في القرن الثاني عشر. أعاد انطون توظيف الرشدية للحد من هيمنة السياسةالدينية على السياسة المدنية ،ومواجهة شعار جامعة إسلامية كانت ترفعه الحركة الاصلاحية السلفية . وإذ نشر انطون مقالة طويلة عن ابن رشد في ” الجامعة ” لخّص فيها فلسفته ومبادئه العقلانية لتأكيد التواصل بين العقل والدين واثبات وحدة التوجّه بينهما،ولم يكن يرمي إلى الخوض في الأمور الميتافيزيقية والإلهيات، لكن المقالةأثارت مناظرة بين محمد عبده وفرح انطون حول التسامح الديني بين النصرانية والاسلام .وفي هذه المناظرة التاريخية تجلت آراء انطون العلمانية والوطنية والقومية ، وكان بها رائداً نهضوياً تطلّع إلى وحدة الشعوب الشرقية على أساس وطني لا طائفي، للوقوف في وجه المطامع الغربية ومقاومة فكرة جامعة إسلامية تستبعد الأقليات الدينية وتحول دون انخراطها انخراطاً كاملاً في مواجهة الاجتياح الغربي .

   فسّر انطون دعوته إلى اتحاد المشرقيين وحل النزاع بين العلم والإيمان وبين الآراء الدينية المختلفة بقوله بقوتين إنسانيتين مستقلتين: العقل والقلب ، لكل منهما قواعد عمله ونطاق نشاطه وطرق اثبات حقائقه،وغاياتهما مختلفة : غرض الدين الحث على الفضائل والاشتراع للآخرة ،وغرض الحكومات تنظيم المجتمع والاشتراع لهذا العالم . ما يفرض على الحكومات احترام الاديان وعدم تقييد المعتقدات الدينيةوالفصل بين الدين والدولة وبين السلطتين الدينية والسياسية ،لأن ضعف الأمة واستمرار ضعفها الى ما شاء الله سببه الجمع بين هاتين السلطتين ،ولأن رجال الدين يثيرون التعصب الديني لدى الشعب ،ويؤلبونه على بعضه بعضاً لدوام سلطانهم لالتقدّم الشعب وترقيته . ومتى كان سوس الشقاق الديني يأكل أحشاء الأمة قضي عليها بالضعف والانحطاط وحكم عليها بالتبعية للخارج . لذلك ، على الدين ، في رأي انطون ،أن يبقى منزّهاً عن السياسة ونقائصها كي لايتلطخ بأوحالها . كما أن زج الدين في السياسة يقود إلى الفتن والانقسامات والاضطرابات ،لاستحالة الوحدة الدينية، ولاستحالة توحيد الأمم على أساس الدين .بينما يحقّق هذه الوحدة مفهوم للوطن يتساوى فيه الجميع أمام قانون قائم على تحقيق مصلحة الجماعة الوطنية لا الدينية .وباختصار ،في رأي انطون ، لا مدنية حقيقة ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا إلفة ولا حرية ولا تقدم ولا سلامة للدول ولا عز إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية .

  قبل مئة عام رحل فرح انطون فقيراً كئيباً أسقمه الجهاد المضني من أجل تقدّم المجتمعات الشرقية والعربية وارتقائها ،لكن فكره العلماني بقي وسيبقى ملهماً لكل مفكر عربي ينشد وحدة الأمة العربية وتجاوزها فواتها التاريخي .

***

* ألقيت   في الندوة حول  مئوية فرح أنطون ضمن فعاليات معرض بيروت العربي والدولي للكتاب الثالث والستين  من تنظيم  دار نلسن للنشر. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *