في عيد الأم… رسالة إلى أمّي ميّ، من ذكريات طفولتي مع ’جدّي’ ميخائيل نعيمه

Views: 788

 سهى حدّاد\نعيمه

أَمْؤومْتي، (من كلمة أمّ، زيادة في التحبُّب)

يطيب لي أن أبدأ رسالتي إليك مع مقطع من قصيدة سعيد عقل الخالدة،

“أمّي يا ملاكي   يا حبّيَ الباقي إلى الأبد

  ولا تزلْ يداك   أرجوحتي ولا أزل ولد”

وكيف لن يكون حبّي لك “إلى الأبد” وما زال دمك يسري في دمي، ولي في عظمي ولحمي من عظمك ولحمك، وفي رحْمك تكوّنْت من رحم الأزل، وإلى رحم الحياة وُلدْت وإلى الرحم الأوسع أعود، عسانا نلتقي هناك “إلى الأبد”. فالأبديّة هي التي نسجتْنا وإليها نعود.

كما يقول ميخائيل نعيمه عن والدته في سيرته الذاتيّة “سبعون”، الجزء الثالث، في فصل ’ماتت التي ولَدَتْني’، “أما كُوّنْتُ جسماً حيّاً في جسمها ومن جسمها الحيّ؟  فكأنّ بعضي مات بموتها.  وكأنّ بعضها ما يزال حيّاً في حياتي.  فكلانا ميت.  وكلانا حيّ”.

نعم أمّي، فكلانا ميْت وكلانا حيّ، وكلانا خالد…

ومما أذكر في طفولتي في حماك وحمى جدّو ميشا – ميخائيل نعيمه – هذه القصّة:

كنّا قد انتقلنا حديثاً إلى منزلنا بالزلقا(شمال بيروت، قضاء المتن، في لبنان)، ولي من العمر ثلاث سنوات. وفي أحد أيّام شتاء 1971، اتصل أقرباء لنا وأبلغونا رغبتهم بالقدوم إلينا ’بالسهْرة’ للتهنئة بالمنزل الجديد. فتحضَّرْت يا أمّي لاستقبالهم وجهّزْت الضيافة ووضعتني في سريري لكي أغفو فيكون لك ولجدّي مع زوّارنا الوقت الوافي والكافي للتحدّث دون أيّ لهوات منًي أنا الطفلة.

كنت قد اعتدْتُ في تلك المرحلة من حياتي أن أنام على صوتك وأنت جالسة قربي على حافة سريري، تمسّدين شعري بنعومة وتنشدين لي بصوتك الحنون قصائد من ديوان “همس الجفون” التي لحّنْت البعض منها أنت وجدّو ميشا، فأستسلم لغفوتي في سلام تامّ. 

في تلك الليلة، وضعتْني كالعادة في سريري وغنّيْت لي مراراً وتكراراً من قصائد جدّو ميشا، إلى أن غفوت.  فاستدركْت زوّارك واسقبلْتهم بالصالون مطمئنّة البال أن صغيرتك نائمة.  لكن ما كان لي إلّا أن استفقْت وذهبْت إليكم في الصالون.  فكان منك ومن جدّي ومن زوّارنا كلّ التعجّب، لكنّك لم تغضبي.  أخَذتني بيدي ورجعْت بي إلى سريري، وكان لك الغناء مجدّداً من قصائد جدّو ميشا والضيوف ينتظرون. وما أن غفوْتُ حتى عدْت إلى جدّو ميشا  والحاضرين. لكنّني ما لبثْت أن استيقظْت للمرّة الثالثة على التوالي، فما كان منك إلّا أن عاودتِ الغناء للمرّة الثالثة، بالرغم من الضيوف، وأنا أستسيغ صوتك الحنون وحضورك الدافئ.

فكلّ ما أبتغَيْته أنا الطفلة هو أن أستمتع بوجودك قربي وأن أسمع تلك الكلمات من قصائد جدّو ميشا وما تحوك في مخيّلتي من أجمل الصور:

“سقف بيتي حديد    ركن بيتي حجرْ

فاعصفي يا رياح     وانتحب يا شجرْ

من سراجي الضئيل  أستمدّ البصرْ…”

فأرتاح أن يكون ’بيتي من حجر’حتى وإن عصفَت الريح ونفخَت، لنْ تقوى على هدمه، والسراج لا يزال مضاءً لم تقوَ عليه الريح.

أتذكرين أمّي كيف كنت أنت وجدّو ميشا تتباهيان  أمام الأحبّة، وبفيض من المحبّة، بسردي لهذه القصيدة “الطمأنينة”، فيطلب منّي جدّو ميشا سرْدها وأنا ابنة الثلاثة أعوام:

“سهى، سمْعيلْنا قصيدة ’الطمأنينة’.”  وأبدأ بالسرد،

سقف بيتي حديد     ركن بيتي حجرْ

صَعْفهي يا رياح       وانتحب يا شجرْ

من سراجي الضئيل   أسْمتدُّ البَصَلْ

وتعلو نبرة صوتي عند “أسْمتدّ البصل”  كمن هو عارف بأسرار الوجود، فيضحك الحضور، ويأخذني جدّو ميشا بين ذراعيه، “يا روحات جدّك إنْت” ويقبّلني وتقبّلينني أنت وتضحك لي عيناك. ولا أفهم أنا الطفلة لماذا تضحكون، وما علاقة ’البصَلْ’ مع بيتي من الحجر والرياح من حوله.  ألعلّ للبصَل وقشْره علاقة بكيف تبعْثر قشوره الرياح؟ وأتخيّل ’جْديلة البَصَل’ معلّقة مع الحائط على الشرفة، تتخبّط مع الريح وتتطاير قشورها، وأقلق على تلك القشور كيف ستعود إلى ’جْديلة البَصَلْ’؟  لكن ما الهَمّ! أنْت معي يا أمّي وجدّو ميشا معي، فأنتما سقف بيتي الذي هو من حديد وركْن بيتي الذي هو من حجر.

أمْؤُومْتي،

كم هو كريم ربّي معي لكي يجعلني أنمو في رحمك الدافئ وروحك الحلوة وفي كنفكما الطاهر أنت وجدّو ميشا، فأكبر من خلالكما ومعكما في نبض القلب الواحد والكلمة الواحدة للأقانيم الثلاثة، ’الميماسونا’ (ميخائيل، ميّ، سهى، نعيمه)، في منزلنا بالزلقا الذي انتقل معي إلى المطيلب في كانون الأول \ يناير 2018 وأصبح المنزل-المتحف. فأنتما بيتي إلى الأبد ولن تقوى عليه أيّ ريح.

لو لمْ تكوني أنْت بحياة ميخائيل نعيمه وكرّسْت ما كرّسْته وبذلْت ما بذَلْته وخدَمْت ما خدَمْته في سبيل عظمة رسالته الأدبيّة التي تتمحور حول الإنسان الإنسان والإنسان الفرخ إله الذي هو من الله وإليه يعود، لما كتب نعيمه ما كتب.  فأنْت الطمأنينة في حياته والابنة الروحيّة في وجوده التي تؤْمن بفكر عمّها فتوفّرُ له الأمانة والراحة لكَي يُنتج ويُبدع ويبذل من قلبه وفكره وروحه لقرّائه. 

ولولا درايتك لجدّو ميشا لما عمّر 99 سنة بصحّة روحيّة وعقليّة وجسديّة ممتازة وأناقة دائمة وهناء مستتب.

فيا ينبوع الحنان والدفء والطيبة والتضحية والبسمة اللطيفة المشعّة، إبقي ملاكي الحارس الدائم كما كنت لجدّو ميشا، فأنت النبض في نبضي والنفَس في نفسي والحلم في حلمي،

إلى اللقاء ’ميّا نور عينيّا’ كما كنت ولا أزال أناديك،

فأنت النور من نور ربّي في حياتي وأنت الهُدى من هِدايته،

أحبّك،

21 آذار \مارس 2022

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *