“لماذا تكتُب؟”

Views: 612

المحامي كابي دعبول

رنّ هاتفي الجوّال وهو على آخر رمق من عمر شحنته من الطاقة، كالعادة، فأنا استخدمه في قراءة بريدي الالكتروني وتصفح الفايسبوك وغيره من تطبيقات التواصل الاجتماعي، كما أستخدمه في طباعة الرسائل والكتب والتقارير  والملفات التي أعمل عليها ومقالاتي التي أنشرها، فاعتذرت من المتصل منبّها إيّاه الى حتمية فقدان الاتصال، كون طاقة الجوال تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة.

قال: حسنًا، لن أطيل الاتصال فأنا لدي سؤال بسيط لن يكون الحديث فيه طويلاً.

قلت: وما هو!

– لماذا تكتب؟

سؤال بسيط!!! قد تستلزم الاجابة عليه مجلدات من السرد الادبي، أو قُل تقاريرَ من التحليل النفسي، أو قُل قوائم للأسباب العديدة  والمتشعبة.

أجبته: أصبت السؤال بسيط، ولكن امنحني الوقت الكافي لأحاول الاجابة عليه.

عندما لجأت الى الفراش فجرًا لاستجداء ساعات قليلة من النوم. أسندت رأسي الى حافة السرير ورحت أفكر في السؤال البسيط: لماذا أكتُب؟

قد يكون الرجل على صواب. ما فائدة الكتابة طالما أننا قرأنا ونقرأ لكبار الكتّاب روائع الأدب ولكبار الحقوقيين مراجع نفيسة، ولكبار الروائيين روايات خالدة… لماذا أكتب؟ سؤال جعلني أراجع ذاتي: بعد ثلاثة دواوين من الشعر المحكي، ورواية كانت تجربتي الأولى في فترات الحجر  في زمن الجائحة (لم تُنشر بعد)، ورواية أنشر حلقاتها تباعًا على حسابي الفايسبوكي، وينشرها بالتزامن “موقع ألف لام” (دون أن أنسى تقديم الشكر للقيمين على الموقع)، وبعض القصائد على الحساب ذاته… ومقاطع من روايات اقوم بتعريبها من اللغة التي نشرت فيها … لماذا أكتب؟

عادت بي الذاكرة الى أيام الدراسة حين خصص لنا أستاذ مادة التاريخ حصة للنقاش تحت عنوان: ماذا تريد أن تكون؟

كان التلاميذ يقفون الى جانب اللوح كلّ بدوره ويتحدثون عن مشاريعهم المستقبلية، فقد مرّ الأطباء والمهندسون على مشاربهم، والمحامون، والمقاولون والمصرفيون  والتجار والمخترعون ورواد الفضاء والقبطان الجوي والقبطان البحري والظباط…

عندما وصل دوري تقدمت نحو اللوح بثقة نفس عالية وقلت: أريد أن أكون كاتبًا. ضحك الاستاذ قبل أن يضحك التلاميذ.

⁃كاتب! قال الاستاذ. كاتب روايات أم كاتب مسرح أم ماذا؟ نحن نتحدث عن مهنة. الكاتب أيها التلميذ ليس صاحب مهنة.

لم يقنعني كلام الاستاذ، لكنني تذكرت أنه قبل سنة أو اثنتين كتبت بيتين من الشعر الهجائي على اللوح بحق استاذ مادة الرياضيات بعد خلاف أكاديمي نشب بينه وبين تلاميذ الصف، وعندما قررت الادارة فصلي من المدرسة ليومي دراسة كعقاب، اعترض استاذ اللغة العربية قائلا للمسؤول: “مع أنه كتب الشعر بالعامية… الصبي شاعر شجّعْه ولا تطرده…”

فأجابه المسؤول “لقد جاء الى هنا لتلقي العلم، لا ليهجو الاستاذ، آخر همّي إذا بيصير شاعر”.

ما زاد في الطين بلّة أنه بعد بلوغنا فيزيولوجيا بات الاساتذة يحسبوننا على الرجال ويوبخوننا على هذا الأساس، وكانت الظروف الامنية صعبة والحرب تُسقط القذائف على رؤوسنا، وكان علينا أن نوازي بين الدراسة والحرب. أعترف أنني لم أنجح دائمًا في ذلك، لم أرسب ولكن النجاح لم يكن مبهرًا بصورة دائمة. كانت مواضيع الانشاء غير المحضّرة والتي كنت أكتبها في الامتحانات، تنال علامات عالية وتُعمّم تارة على تلاميذ الصف وتارة تعلق على لوحة الاعلانات.

بعد ذلك جاءنا أستاذ قاسي النبرة لكنه كان متطورا  في أساليب التعليم. انتشلنا من الصف ومقاعده ونقلنا الى طابق علوي من المبنى داخل المدرسة حيث أقام فيه “ناديًا للثقافة”.

كراسٍ وطاولات وكتبٌ واسطوانات موسيقية وصور ورسومات، نقلتنا من عالم الى عالم آخر… من الدراسة الى الثقافة. أحسست معه بأهمية الكتّاب والشعراء كـ رونسار وهوغو وإكزوييري وغيرهم من الفرنسيين، لكن الفرحة لم تدم طويلا، وأدركت أن الكتابة لا يمكن أن تكون مهنة يعتاش منها المرء ليصنع مستقبله.

وبعد سقوط الحبر والورق واجتياح التكنولوجيا لكل شيء، لم يتحقق تماما ما كان يتوقعه والدي، وهو مارس مهنة الصحافة لأكثر من خمسة وستين سنةً وكان كاتبًا في السياسة، وهو كان يقول عندما تحل الآلة مكان القلم  أتقاعد. وعلى الرغم من دخول التكنولوجيا عالم الصحافة وبقوّة ظلّ ممتشقًا قلمه يكتب ويكتب…

لكن تقاعده جاء بطريقة مفجعة حين أقفلت المؤسسة التي كان يعمل فيها ككاتب “كبير”، بعد أن أمضى فيها قرابة خمسين سنة، فعامله القانون في النهاية بالصفة التي يطلقها النص القانوني على العامل: “الأجير”.

والمصيبة الأكبر، هو أن نظام ضمان الشيخوخة وهو الباب الرابع من أبواب الضمان الاجتماعي لم يبصر النور منذ إنشاء أنظمة الضمان الاجتماعي في الستينيات.

تذكرت كل هذا.

وفي اليوم التالي اتصلت بمن طرح عليّ السؤال وقلت له: أنا أكتب لكنني لا أقدّم نفسي للناس ككاتب أو فيلسوف أو منظّر. أنا أكتب فقط، لأضع ذاتي على الورق أو على موقع إلكتروني أو على حساب تواصل إجتماعي من أجل إفراغ ما في قلبي وإبلاغه للناس حتى ولو كان الأمر من دون تحقيق الاهداف المرجوّة من النص.

“تعرفون الحق والحق يحرركم” (يو ٨:٣٢) هذا في الانجيل، وفي القرآن الكريم :”فذكِّر إنما أنت مذكّر” (٢١ سورة الذاريات)، وهذا ما أحاول القيام به، أن أعرف الحق لأحرّر نفسي، وأن أذكّر.

لذلك أكتب. لكنني لست كاتبًا يا صديقي.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. في الكتابة نضع علامات على درب مشوار حياتنا، حتى اذا عدنا استدلينا ، وان استمرينا الى حيث ننتظر القادمين، اهتدوا بها.
    الى الأستاذ كابي دعبول أقول : أنت كاتب .