بين ريتا ومارييت..ابتسامة

Views: 400

زياد كاج

   صغير هذا البلد وجميل بناسه وصدفه مهما كثرت وتراكمت المشاكل والأزمات. 

منذ أن قرأت عن حريق مدينة شيكاغو الأميركية قديماً وكيف تمكنت المدينة من النهوض من الرماد للتحول الى ولاية صاخبة تمتلك أقوى وأحدث فريق إطفاء في العالم.

    نحن أغنياء بناسنا وبتعدد تركيبة شخصياتنا المحلية وتلونها وغناها الثقافي.

بعد صدور روايتي الأخيرة “مونداي مورنينغ” التي تروي تجربتي في بداياتي الصحافية المطبوعة باللغة الانكليزية، عدت والتقيت بعد أكثر من 30 عاماً بمديرة المكتب الذي كان يقع في منطقة الأشرفية. لطالما أحببت أغنية ريتا لمرسيل خليفة. ثم كان التواصل مع مديرتي ريتا على الفايس بوك واتفقنا على موعد لقاء في مكان عملها الحالي في فندق ضخم فخم يطل على بحر بيروت. تغيرت الأمور وتبدلت،  ودار الزمن دوراته وتغيرنا نحن. وعدتها بإهدائها نسخة من روايتي الأخيرة. تحمست ريتا لموضوع الرواية كونه يطال تجربتها الأولى في مجال العمل والواقع.

   الواتس أب سهل التواصل. لا أخفي أنني كنت متوجساً من لقاء ريتا بسبب سوء تفاهم أو برودة وتوتر حصل بيننا منذ 30 سنة. كان البلد قد خرج للتو من حرب أهلية طاحنة والناس لا تعرف بعضها. وكنت قد انتقلت مع عدد من الزملاء من مكتبنا في الوردية في رأس بيروت الى الأشرفية.. باختصار كانت تجربتنا سيئة وقاسية بسبب انقسام المجتمع اللبناني في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف. ولا أُخفي أنني في روايتي قد “ثقلت العيار” على ريتا  وأشرت بأننا شعرنا هناك بأننا هابطون من المريخ!

  كان اللقاء رائعاً  عفوياً وإنسانياً في مكتبها. استعدنا ذكريات أيام زمان وضحكنا كثيراً على حالنا في تلك الفترة وحتى أنها عبرت عن ندمها من بعض مواقفها وكذلك فعلت أنا . أهديتها نسخة موقعة من الرواية وطلبت منها أن تقرأها بالترتيب من الفصل الأول ولا تقفز الى فصل في قلب الكتاب بعنوان ” آه ريتا”. فوعدت ، والغريب في الأمر أنها نفذت وعدها حسب ما عرفت منها في لقاءات لاحقة مع زملاء كانوا معنا في المجلة: صديقي عبد الرحمن وصديقتها رانيا الخفيفة الظل والعفوية. تكررت الجلسات بين بدارو ومقهى الروضة في المنارة. ولا تزال.

   صدفة عرفت من ريتا أنها في صداقة  ومعرفة قديمة مع مديرتي الحالية في مكتبة الجامعة الاميركية في بيروت، الدكتورة مارييت.

 كم هو صغيرا هذا البلد؟ وكم يتغير الانسان؟ وكيف تلعب الصدفة لعبتها ، تفرق وتعود وتجمع الناس؟

   سألت نفسي: ما الفرق بين ريتا ومارييت؟ الأولى كانت مديرتي في مجلة “المونداي مورنينغ” وأنا كنت في الثلاثينات، والثانية مديرتي الحالية في المكتبة منذ 9 سنوات والآن عمري 57 سنة.

لقد كبرت وتغيرت وصرت رمادياً. أقول نضجت والعمر سلسال حكمة الإنسان. حتى مسيرتي مع الدكتورة مارييت—صاحبة الشرش الجردي—كما تقول عن نفسها في الأوساط الضيقة، كانت في البداية متعثرة. لكنني مع الوقت احترمت هذه السيدة وأُعجبت بها. صار بيننا علاقة فهم “على الطاير” . لأول مرة أشعر بالخجل إذا قصرت في عملي أمام سيدة تصغرني في السن. مارييت سيدة جدية، مدمنة شغل، مثالية، عصبية وقوية عندما يتطلب الأمر، حنونة ومتفهمة في معظم الأوقات. ناجحة ومبدعة في نسج العلاقات، وتدوير الزوايا، وتطويع أكثر الشخصيات صعوبة وعنادًا في مكان العمل. مارييت تربط العمل بالأخلاق. وهي الزوجة والأم المثال، بينها والطبيعة والكنيسة والصلاة أفضل العلاقات.

  مرة حصل سوء تفاهم بيننا بسبب إصراري على الترقية والحصول على الدرجة 13  لأن غيري حصل عليها. كانت تتجنب الموضوع كون القصة لا تعود لها وحدها. “إلك الله..اقطع لوتو”، تمازحني. وبعد فورة غضب حصلت مرة واحدة، قصدت السوق واشترت لي عدة رسم كاملة رمتها على مكتبي وهي تقول: “فش خلقك”. كانت تعلم أنني أهوى الرسم.

  لطالما أحببت أن أُضحك هذه السيدة الجدية وأُمازحها. فأنا أبن البحر وهي إبنة الجبل. كم كانت تضحك من قلبها حين احاول التحدث معها باللغة الفرنسية. تضحك وتصحح لي عفوياً. وأنا أرتكب الجنح بلغة موليير وفولتيير وأخترع تعابير عربية من عندي! كدت افسد عليها ما تعلمته من اللغة الفرنسية على مقاعد المدرسة والجامعة معاً!

“بتعرفي دكتورة”، قلت لها مرة. “هلق فهمت ليش صارت حرب الجبل!”

“خير”، قالت بجدية، “خبرني”!

“إنتو الموارنة..تشبهون الدروز كثيراً..عنيدون وتقاتلون”.

ضحكت وكالعادة عادت الى مكتبها.. صومعتها.

في 28 نيسان صودف يوم وداع الدكتورة مارييت المغادرة الى كندا حيث تدرس ابنتاها. خسارة وصدمة. لا تكتشف شعبية ومحبة الزملاء والناس لشخص الا حين يقرر المغادرة. كان ذلك واضحاً على الوجوه في حفلة الوداع في قاعة المكتبة بحضور المديرة فاطمة شرف الدين ورؤساء الأقسام والزملاء والزميلات. من بلاد الأرز والطقس الجميل..الى بلاد الثلج والضرائب. لكن هناك ماء وكهرباء ومواصلات وقضاء وحضارة وسياسيين يخدمون الشعب ولا يسرقونه.

   أجمل شيء في مارييت ابتسامتها المشرقة. ابنة الجرد –من فوق— بعض من نور شمس من خلف الجبل حلت في رأس بيروت فزادت البركة.

   بين ريتا ومارييت ابتسامة بيضاء ثلجية حقيقية. وداعاً مارييت وأهلاً ريتا.. شكراً درويش ومارسيل على الأغنية.. وعيد ميلادي—كما البلد— كذبة  تتكرر كل سنة لأن التاريخ ضاع بسبب التأخير في إصدار هويتي بعد سنوات من ولادتي!

 

                                    

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *